لا أعلم إذا كانت الشاعرة ميريت مالويْ تقصدني حين قالت إنّ "الكتابة إلى مَن نُحبّ هي فعلُ التقاطِ الشعور مِن دون قتله." لكنّ شعوري حيالَكَ أقسى من ذلك كلّه؛ فكلّما كتبتُ إليكَ، مُتُّ انتظارًا، وتكدَّسَ على ملامح وجهي غبارُ الوقت.
ولماذا أكتبُ إليكَ؟ ألأنّني أحبُّكَ إلى هذا الحدّ؟ ألأنّني أخشى الكتابةَ إلى سِواك، فأُضطرّ إلى صقلِ مهاراتي الكتابيّةِ والوصفيّةِ من جديد؟ ألأنّكَ تعتكف عن الردّ، فأكتب المزيدَ إليكَ علّكَ تجيب؟ ألأنّني أريدُكَ أن تتذكّرَ دائمًا أنّني ما زلتُ أحبّك؟
كلُّ هذه التبريرات تحايلٌ على الاعتراف الذي أحاول أن أكتمه:
أنّني اشتقتُ إليك.
***
في الكتابة إليكَ، أمارسُ العنفَ والحبَّ معًا، أو بالأحرى أمارسُ الحبَّ معكَ بينما أنت تمارس العنفَ عليّ: بصمتِكَ، وجمودِكَ، وشرودِك. فإذ يَخفق نبضي في ساعديَّ، وتنهمرُ كلماتي بطلاقةٍ لم أعهدْها حين كنّا نجلس معًا، تكتفي أنتَ بالإيماءِ لي كي توهمَني بانغماسِكَ في ما أقول. وقد كان كافيًا حينها أن أكونَ معكَ كي أمرِّنَ أصابعي على صفحات جسدِكَ ــ ــ جلدِكَ الذي بدت عليه آثارُ سنواتكَ الأربعين تاريخًا يَصعب عليّ تجاوزُه.
***
تنكمش ركبتايَ، وأكاد أسمعُ لهاثَ قلبي حين أفكّرُ في الضغط على زرّ الإرسال. أمنعُ نفْسي من تفقّد الهاتف. أستنطقُ حروفَ اسمِكَ في أسماءِ الآخرين. أنتظرُ. أكتبُ. أحترقُ لرؤياك. وفيّ أملٌ أن أجدَكَ، ويقينٌ أنْ تعود.
يُشعرني صمتُكَ أنّني في عداد القتلى. أتكوّرُ مثلَ شظيّةٍ في الرأس، وأحاولُ أن أفهم كيف جعلْتَني أعيشُ كلَّ يوم وكأنّه اليومُ الأخيرُ الأجمل. أتحرّى عن الشوارعِ والمناطقِ والمصابيح. أُحقِّق في الأشياءِ والتفاصيلِ والوجوه. أبحثُ في البحر عن أثرٍ، في الماضي عن أملٍ، في الجروح عن ثُقبٍ متين. أنتَ الحيُّ في عداد المفقودين، المفقودُ في عداد المقتولين. أنت القلبُ، وثقبٌ في القلب، وذاكَ الوريد.
أنتعلُ الحزنَ وأمشي بحثًا عنك. الطريقُ طويلة، وآخرُها ضبابٌ، لكنّ غيابَكَ عنّي يحرِّض فيّ أحلامَ اللقاء.
***
أكتبُ إليك نصًّا أخيرًا سوف يرنّ به هاتفُك. لعلّ هذه الرنّةَ نبضةُ قلبي الأخيرة. سأُطلقُ رصاصةَ الحبّ على نفسي. أَشهق. لا، لن أموتَ؛ فالحياةُ تكفي ليستمرّ الألمُ ماثلًا فيَّ: أكبرُ فيَكبرُ معي؛ أموتُ فتنتقل عدواه إليك. وستقرأ في نهاية الرسالة: "ربّما أحببتُكَ في الماضي، لكنّني أحبُّكَ الآن بالتأكيد." وسيعتريك الشكُّ للحظةٍ بعد هذه العبارة. أمّا أنا، فكلُّ ما أيقنتُه في العاميْن الماضييْن هو: حُبّي لك... ولامبالاتُك بي.
لقد كان ليَ الحقُّ في اختيارِكَ، وكانت لك الحريّةُ في قبولِ حبّي. تفرّدتَ في قراركَ الرحيلَ، وها أنا اليوم أكتبُ إليكَ لأنّني أحتفظ بحقّ رفض هذا الرحيل. وأكتبُ إليك لأنّني لم أجد طريقةً أكثرَ لباقةً من رشقِ انسحابِكَ بالكلمات، ولأنّني أعلم جيّدًا أنّكَ أضعفُ من الحبّ كي تحارِبَ في معركته، وأنّني أقوى من العالم كلّه حين أكون معك.
***
وحيدةً أنادي اسمَكَ، فأشعرُ بأنّ قلبي ينبض في فمي. أتخلّى عن ركبتيّ. أمشي بنصف خطوة. أتعلثم. أبتلعُ لهاثي مثلَ عدّاءٍ اقترب من خطّ النهاية. أكادُ أنفجر. تسقط فيّ الطفلةُ والمرأةُ والعجوزُ. أصيرُ فراشةً معلّقةً فوق لمبة تعاني قشعريرةً كهربائيّة. يرنّ الهاتف.
ــــ ألو؟ معي شركة تأمين الـ...؟
أجيب ساخرةً:
ــــ لا، بعتقد مغلّط. بس جيت بالوقت الصحّ.
أنام على طرف السرير. يهوي اسمُكَ في معدتي هذه المرّة. أتشنّجُ في الحلم مثلَ مسمارٍ نُخر في الرخام. أحاول النومَ من جديد. فمي مفتوح مثلَ بئر، وإصبعي تضغط على شاشة الهاتف: الإرسال.
***
طُوبى للذين لم يُعدِموا الحبَّ كي ينقذوا قلوبَهم!
بيروت