تخيّلْ معي أنّك تمشي في مدينةٍ لا تُشبهك.
تخيّلْ أنّك نظرتَ إلى بيتٍ مهجور، فرأيتَه عامرًا. وتخيّلْ أنك نظرتَ إلى ساحةٍ فارغة، فأقنعتَ نفسَك بأنّ أهل البيت دخلوا لاستراحةٍ قصيرةٍ وسيعودون.
تخيّلْ أنّك نظرتَ إلى مدخلٍ مغلقٍ بالإسمنت فلم تره، بل علّقتَ نظرَكَ على النافذة المفتوحة فوقه حتى تجتاز المدخلَ كأنّه لم يكن.
تخيّلْ أنْ تبتسم لأنّك رأيتَ في الأعلى زوجَ حمامٍ ينام على حافّة السطح، وأنْ تبقى سعيدًا هكذا حتى المساء. تخيّلْ أنّك تملأ كلَّ ما تراه، وتلغي كلَّ ما لا تريد رؤيتَه، وتبدِّل كلَّ ما تسمعه بأصواتٍ أخرى، وتبني لنفسك مساراتٍ واضحةً لا تغيّرُها أبدًا، لكي تقْنع نفسَك بأنّك فعلًا هنا، في هذا المكان، في المدينة التي تحبّ.
في هذا النصّ، سأحكي لك عن حيفا: هذا المكانِ الشفّافِ الذي يظهر بوضوحٍ بين الكلمات، خلفها، في مراقبة الحواسّ، في تدريبها وقمعها، في اختيار زوايا النظر واختيارِ ما لا تريد أن تراه، في اختيار الأصوات وما لا تريد سماعَه.
مكانٌ تُعيد تركيبَه كاملًا بنفسك، تعمل على تكوينه من تفاصيلَ وأفكارٍ صغيرةٍ ليست موجودةً على أرض الواقع.
مكانٌ مُنفصِم. مكانٌ "مريضٌ" يعيش بسلامٍ مع مركَّباته. متناقضان لا يمكن أنْ يلتقيا على خطٍّ زمنيٍّ واحد: مكانٌ واقعيٌّ لكنّه يحمل في داخله مكانًا خياليًّا حقيقيًّا جدًّا.
إنْ فعلتَ كلَّ ذلك، فأنتَ شابٌّ فلسطينيٌّ، من الجيل الثالث للنكبة، يعيش في مدينة حيفا، داخل "دولة إسرائيل،" وتعمل بجدٍّ كي تعيش في مدينةٍ لم تعد موجودةً منذ العام 1948.
أنت مثلي أنا: تعيش في مكانٍ خياليّ، موازٍ للواقع، وتخلق لنفسك مدينةً موازية.
أنت تُعاني "شيزوفرينيا المكان."
سأحاول هنا أن أصف حالةً ما زالت قيدَ الفحص، قد تكون بدايةَ طريق لمفهومٍ جديدٍ في رؤية الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ، أو قد تثْبت فشلَها مع مرور الوقت. لكنْ ما لا شكّ فيه أنّها مرحلةٌ جديدةٌ نَتجتْ بفعل تراكم مجموعة أفعالٍ فنيّةٍ ومؤسّساتيّةٍ ثقافيّةٍ ظهرتْ في السنوات الأخيرة في مدينة حيفا.
الفعل وردّ الفعل
تشهد السنواتُ الأخيرة نقلةً نوعيّةً في الدور الذي تلعبه الحركةُ الثقافيّةُ في مدينة حيفا، يمكن تلخيصُها بأنّها خطواتٌ حقيقيّةٌ للانتقال من مستوى ردّ الفعل إلى الفعل.
والمقصود هنا أنّ الحركة الثقافيّة تحاول الخروجَ من العلاقة المركّبة مع سلطة الاحتلال، والتخلّص من تأثير أفعالها (بمستوياتها المختلفة) في التحرّكات الثقافيّة ــــ إنتاجًا وشكلًا ومضمونًا.
هل تخيّلتَ يومًا معنى أن تعجز "حركةٌ ثقافيّة" عن التفكير في المستقبل؟
لقد عاشت حركتُنا الثقافيّة سنواتٍ طويلةً وهي تمارس دورَها السلبيّ، المقتصر على ردّ الفعل، من دون أن يكون للمبادرة دوْرٌ يُذكر. فإنْ قُطعت الميزانيّاتُ، ردّت الحركةُ الثقافيّة بما يتناسب مع نوع الفعل وحجمِه؛ وإن اعتَدتْ إسرائيلُ على غزّة، أنتجت الحركةُ الثقافيّةُ أعمالًا فنّيّةً عن غزّة؛ وهكذا...
لذا كان لا بدّ مِن إيجاد طريقٍ للخروج من هذه الدائرة. والحقّ أنّ الحالة الجديدة التي تعيشها حيفا نجمتْ عن محاولاتِ خروجٍ فعليّةٍ خُلقتْ نتيجتَها مساحاتٌ مستقلّة، وَفّرتْ مكانًا لحَراكاتٍ ومجموعاتٍ وفعّاليّاتٍ وإنتاجاتٍ ثقافيّةٍ مستقلّة، تمشي جميعُها معًا الآن، بخطًى واثقة، نحو التمأسس والاستدامة، وتَخلق شبكاتِ عملٍ مشتركةً متكاملةً، وتعمل على توحيد الجهود من أجل خلق حالةٍ ثقافيّةٍ فنيّةٍ جامعة، مبنيّةٍ على الفعل، بُغية أن تكون ذاتَ تأثيرٍ أكبر.
خارطة جديدة: المساحات الفلسطينيّة المستقلّة في حيفا
في حيفا عددٌ كبيرٌ من المؤسّسات الفاعلة في الحراك الثقافيّ، وهي مستقلّة أو غيرُ مستقلّة. إلّا أنّ السنوات الأربع الأخيرة شهدتْ تأسيسَ مجموعة من المؤسّسات الثقافيّة البديلة التي اختارت العملَ بشكلٍ مستقلٍّ تمامًا عن ميزانيّات دولة إسرائيل للثقافة والفنون، واستطاعت بشكلٍ سريعٍ تغييرَ خارطة العمل الثقافيّ، وطرحت العديدَ من الأسئلة الجديدة على الساحة الثقافيّة.
المؤسّسات والحَراكات والمجموعات التي سأصف صفاتِها وأفعالَها الثقافيّة هي: مسرح "خشبة" المستقلّ، و"المنشر" (شركة إنتاج فنّيّ مستقلّة)، و"كباريت" (بار ومساحة موسيقيّة)، و"متجر فتّوش" (التابع لمقهى فتّوش الثقافيّ)، ومقهى "إليكا" الثقافي، و"الياخور" (نُزُل تعاونيّ بديل في حيفا)، و"سين بار،" و"المحطّة" (تعاونيّة شبابيّة أُغلقتْ منذ فترةٍ قصيرة)، ومقهى ومساحة "الورشة" (أغلقتْ على خلفيّة سياسية)، وبنزين (مجلّة فصليّة راديكاليّة أصحابُها وكتّابُها مجهولو الهويّة)، و"مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام،" و"مهرجاز" (مهرجان موسيقيّ بديل لموسيقى الجاز).
تحوّلتْ مجموعةُ المؤسّسات/المبادرات هذه، مع الوقت، إلى شبكةٍ مؤسّساتيّةٍ تعمل في اتجاهٍ واحدٍ، وتلتقي في ما بينها من خلال اتفاقاتٍ ضمنيّة:
1) الاستقلاليّة كقرار فنيّ: هذه المؤسّسات، بالإضافة إلى كونها قرارًا سياسيًّا لحراكٍ ثقافيٍّ فلسطينيّ يعمل في دولة احتلال، تَعتبر نفسَها قرارًا فنّيًّا؛ ذلك لأنّها تختار أن تكون الفكرةُ الفنيّةُ هي نقطةَ انطلاقها في كلّ خطوةٍ تقوم بها. هذا التوجّه يعطي اختيارَ المشروع، وتصوُّرَه من النواحي الفنيّة والمضمون، الأولويّةَ. وبعد ذلك يجري البحثُ عن شركاء في عمليّة تنفيذه.
2) إشراك الجمهور في تحمّل المسـؤوليّة: بالإضافة إلى تجنيد الموارد التقليديّة، تعمل هذه المؤسّساتُ بشكلٍ دائمٍ وممنهجٍ على جعل الجمهور شريكًا في إنتاج الثقافة المستقلّة. وهذا ما يحقِّق إمكانيّةَ إنتاجها، ويبني للجمهور دورًا جديدًا يحوّله جزءًا من هذا المشهد الثقافيّ، ومن ثمّ سيَعتبر نفسَه أقربَ إلى ما يقدَّم داخله.
3) التشبيك المحلّيّ والتعاون وخلق الفرص: تعمل هذه المؤسّسات في العديد من مشاريعها مستفيدةً من التشبيك في ما بينها، من خلال استخدام باقي المساحات أو الأجهزة أو القدرات الفنيّة والتنظيميّة والإعلاميّة أو دوائر الجمهور، الأمرُ الذي أدّى إلى نجاح بعض المشاريع. ولو أُنتجتْ هذه المشاريعُ بالشكل التقليديّ لاحتاجت إلى جهود كبيرة جدًّا لإنجاحها.
4) حوارٌ مع الآخر.. لكنْ بشروطنا ومكاننا: هذه المؤسّسات المستقلّة لم تتحوّلْ إلى مؤسّسات منغلقة على نفسها، ولم ترفضْ أن تخوض حوارًا مع الجمهور الإسرائيليّ في حيفا. ومع أنّ هذا الجمهور ليس في نطاق هدفها بشكلٍ مباشر، فإنّها تحظى بقدرةٍ خاصّةٍ على خلق حوارٍ يَحْضر فيه أحيانًا... ولكنْ في مكاننا "نحن."
5) المشاريع التجاريّة من الدعم إلى المبادرة: على مدار سنواتٍ طويلةٍ أدّت المشاريعُ التجاريّة الفلسطينيّة في حيفا دورًا أساسيًّا في تقديم الرعاية والدعم المادّيّ من أجل إنجاح مشاريع ثقافيّة وعروضٍ فنيّة. ولكنّها في السنوات الأخيرة أصبحت تنتقل تدريجيًّا من دور الداعم إلى دور المُبادر للمشاريع الثقافيّة والفنيّة.
الجيل الثالث: تعاملٌ جديد مع المكان
قبل أيّام من افتتاح مبنى "مسرح خشبة المستقلّ" في حيّ وادي الصليب المهجَّر، جلستُ مع مجموعةٍ من طاقم المسرح والأصدقاء في إحدى الاستراحات، عند مدخل المكان، نشرب قهوةً عربيّة. وفي خلفيّة جلستِنا كان صوتُ فيروز يصدح ليملأ المكان.
أذكرُ يومها أنّني بكيتُ تأثّرًا؛ فلقد تمكّنّا من أن نعيد إلى هذا المبنى العريق، الذي يعود إلى عائلة الخطيب الحيفاويّة التي هُجّرت عامَ النكبة، مشهدًا كان يُفترض أن يكون طبيعيًّا جدًّا ويوميًّا.
لم يكن هذا الانتصارُ الصغير حدثًا رومنسيًّا فقط، بل شكّل بالنسبة إليّ أيضًا درسًا مفادُه أنّه تُمْكن دائمًا إعادةُ تعريف المكان.
أنا، كفلسطينيّ شابّ في "دولة إسرائيل،" كنتُ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى هذه الخلاصة كي أجدَ طريقةً لمعالجة نفسي من الذاكرة التي لم أعشها؛ الذاكرةِ التي ورثتُها على شكلِ وجعٍ؛ أو لكي أجدَ طريقةً للتعامل معها على الأقلّ.
ما زالت جدّتي، التي عايشت النكبةَ، تعبِّر لي دائمًا عن قلقها عندما أسافر من القرية إلى حيفا؛ فهي ما زالت تعتقد أنّ الطريق "خطرة" كما كانت أيّامَ الحكم العسكريّ، وما زالت تسألني دائمًا إنْ كنت أتعرّض لمضايقات.
أمّا والدتي، فما تزال تصرّ على تنبيهي إلى عدم التحدّث في القضايا السياسيّة. وفي رأيها أنّ إصرارَها ليس ناتجًا من الخوف، بل هو ذكاءٌ في التعامل مع المؤسّسة الحاكمة لاتّقاء شرورها.
وأمّا أنا وأبناءُ الجيل الثالث للنكبة، فنتعامل مع هذه الأمور بطريقةٍ مختلفةٍ عن طريقة جدّتي من الجيل الأول التي عايشت النكبة، وعن طريقة أمّي من الجيل الثاني التي ورثتْ خوفَ النكبة. نحن ورثْنا ذاكرةً لا نجد مكانًا نمارسها فيه. فإمّا أن نرمي هذه الذاكرةَ كما يفعل بعضُ جيلنا، فنرى أنّ المكان "يناسبُنا تمامًا"؛ وإمّا أنْ نجهّز مكانًا مناسبًا لممارسة هذه الذاكرة.
المكان الفكرة
هنالك مقولةٌ تُسمع في حيفا مؤخّرًا، وهي أنّه يستحيل خلقُ مكانٍ فلسطينيٍّ مستقلٍّ تمامًا في داخل "دولة إسرائيل."
أنا أوافقُ على هذه المقولة. ففي نهاية كلّ شهر، على كلّ هذه المؤسّسات المستقلّة دفعُ الضرائب وفواتيرِ الماء والكهرباء لدولة إسرائيل؛ وإنْ مرِض أيٌّ من العاملين فيها فسيذهب مباشرةً إلى صندوق المرضى الإسرائيليّ؛ وإنْ شبّ حريقٌ في المبنى فسيتّصل الموجودون فيه بسرعةٍ بشركة الإطفاء التابعة لإسرائيل؛ وهكذا.
وفقًا لهذه النظرة فإنّ هذه المؤسّسات المستقلّة قرّرت التنازلَ فقط عن حقّها في الميزانيّات التي تستحقّها، ويستحقّها المواطنون العرب الآخرون في إسرائيل، في ما يخصّ الثقافة. بكلمات أخرى، يؤخَذ عليها أنّها تأخذ جزءًا من حقوقها، وتتنازل عن الجزء الآخر.
ولكنْ، ليس هذا هو مفهومَ "المكان المستقلّ" الذي تحاول خلقَه هذه الحراكاتُ الشابّةُ في حيفا. إنّ المكان المستقلّ المقصود أشبهُ بالفكرة: نموذجٌ جديدٌ ليس للبقاء، بل لطريقة البقاء. إنّه ليس صراعًا على أن أكون في حيفا، بل كيف أريد أن أكون (أنا الفلسطينيّ) في حيفا. إنّه الصراع على ما أريد أن أرى في هذه المدينة، وكيف أرى نفسي داخلها.
إنّها، شأنَ الهوية، فكرةٌ تمْكن ممارستُها على أرض الواقع. وقد تكبر الفكرة، فتصبح بديلًا ممتازًا، ما دمنا نَعتبر الثقافةَ والفنونَ صقلًا للإنسان، وتطويرًا له، وعاملًا في بناء هويّته وبلورتها.
هكذا تؤدّي الحركةُ الثقافيّة في حيفا في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى باقي أدوراها، دورًا جديدًا، هو تأثيثُ المكان لجعله أكثرَ شبهًا بنا. هذه الحركة تحاول خلقَ مدينةٍ موازيةٍ: خريطةٍ لا تظهر فيها الحدودُ الثقافيّة؛ خريطةٍ فيها قنواتٌ توصلنا بالعالم العربيّ ولو بشكلٍ افتراضيّ، وبكلّ دول العالم، وقد تُمكّننا من أن نعيد تعريفَ المكان.
هل ما زلتَ تذكر الرحلةَ التي بدأناها في مطلع هذا النص؟
دعنا نتابع الرحلة إذًا.
تخيّلْ معي، مرّةً أخرى، أنّك تمشي في طريقك من المقهى الفلسطينيّ إلى المتجر الثقافيّ ثمّ إلى المسرح، لتُنهي يومَكَ متّجهًا الى البار.
لقد نجحتَ، بالفعل، في أنْ تخلق مكانًا يلائم ثقافتَكَ ويشبهها.
لكن... احذرْ من أن يتحوّل ذلك كلُّه إلى مُجرّد فقاعة!
حيفا
* من دراسة حالٍ، قُدّمت لأوّل مرة في مؤتمر مركز مدار للدراسات 2017.