هو واسطةُ المثلّث الذهبيّ، والمحرِّكُ الأوّل والأهمّ في العمليّة التعلّميّة. وأيُّ تغيير يطرأ على دوره يعرِّض هذه العمليّةَ للاهتزاز. وهذا ما يحصل اليوم.
بعيدًا عن المناهج والاقتصاد والصحّة والتعلّم عن بُعد، ماذا عن الجانب النفسيّ-الاجتماعيّ لهذا المثلّث الذهبيّ: معلّم-متعلّم-تعلّم؟
التعلّم مناهج وأدوات ونظام وإيديولوجيا ومكان وسياسة واقتصاد. والمعلّم والمتعلّم، وهما الطرفان الأهمّ في هذا المثلّث، مرتبطان بعلاقةٍ خاصّةٍ عبر التواصل المباشر والقرب الجسديّ اللذيْن يشكّلان عنصريْن أساسيْن في بنية التعلّم. علاقة المعلّم بالمتعلّم هي البداية، والتعلّم هو نتاجُها وأحدُ أهمّ مُخرَجاتها.
اليوم، مع الحجْر المنزليّ والتباعد الاجتماعيّ، غاب - بل انعدم - القربُ الجسديّ والعاطفيّ بين المعلِّم والمتعلّم، واقتصر حضورُ الأوّل على الوجود الافتراضيّ عبر منصّات التواصل الإلكترونيّة. هذه العلاقة المستجدّة والإلزاميّة تثير القلقَ من انعكاساتها النفسيّة-الاجتماعيّة على تكوين شخصيّة المتعلّم ونموِّه العاطفيّ والعلائقيّ، وعلى شخصيّة المعلّم ودوره وتطوّر هذا الدور.
فالعلاقة بين المعلّم والمتعلّم ينبغي أن تكون، في الدرجة الاولى، فعلَ محبّة. أمّا إذا اقتصرتْ على تلبية نداء الوظيفة أو الاختصاص، فستخسر الكثيرَ من ماهيّتها وتتحوّل إلى عمليّةٍ جامدةٍ بلا روحٍ أو فعّاليّة.
في المراحل الأولى من التعلّم، يقدّم المعلِّم (غالبًا أنثى) كلَّ طقوس المحبّة. وهذه الطقوس لا تقتصر على الكلمات والعبارات والابتسام والضحك، بل تتعدّى ذلك إلى بعض الحركات: كلمس الرأس أو الكتف أو اليد، أو الاحتضان، أو الوشوشة. وهذا يشبه علاقةَ الأمّ بطفلها. ولكي ينمو الطفلُ نموًّا سويًّا، فإنّه ينبغي على الأمّ احتضانُ طفلها، ولمسُه، وتقريبُه من وجهها، والنظرُ في عينيْه، والدندنةُ في أذنيْه، وتدليلُه بصوتٍ عالٍ مع عبارات الحبّ اللطيفة، وإظهارُ مشاعر الفرح والرضا تجاهه.
لن أنسى ذلك اليوم، لسنواتٍ مضت، عندما قرّرتُ أن أعبّرَ عن تقديري لطلّابي في الصفّ الثانويّ الثالث الذين أحرزوا تقدّمًا في الامتحان نصف النهائيّ، فأهديتُ كلًّا منهم - شأن الذين لم يحرزوا تقدّمًا - أكوابًا من السيراميك طُبعتْ عليها قلوبٌ ملوّنة. لا أنسى أنّ فعلَ المحبّة "الفالنتينيّ" هذا أحدث فرقًا عند الجميع نحو الأفضل.
اليوم، ومع الوعي الكامل بضرورة حفظ الحدود بين تعبيرات المحبّة ذاتِ الأهداف التربويّة، والمحبّةِ التي تنزلق إلى الاستغلال العاطفيّ، يغيب - في عمليّة التعلّم عن بُعد - الاحتفالُ الفالنتينيُّ بين المعلّم والمتعلّم، أطفلًا كان أمْ مراهقًا. لم يعد المعلّمُ قادرًا فعليًّا على المحبّة. وكيف يكون له ذلك بينما هو وراء الشاشة وعبر الأثير الفضائيّ؟ كيف لمعلمةِ "هايا،" البالغةِ الرابعةَ من عمرها، أن تقتربَ منها أو أن توشوشَها في أذنها أو أن تضعَ يدَها على رأسها أو أن تراضيَها؟ كيف للمعلّمة عبر الشاشة ذاتِ النوافذ الكثيرة، الممتلئةِ بالوجوه الصغيرة، أن تجلسَ إلى جانب هايا لأنّها غيرُ متحمّسة أو ضجرةٌ أو تجد صعوبةً ما؟ كيف يمكن أن يُنتج التعلّمُ عن بُعد متعلّمًا منضبطًا وملتزمًا ومشاركًا ومبادرًا وقادرًا على حلّ مسألةٍ مهما كانت بسيطة؟ كيف يتجاوز حاجزًا من الموجات والتردّدات الاثيريّة بدلًا من موجات الحبّ وتردّدات العاطفة؟ كيف يكون في مقدور المعلّم/ـة في المرحلة المتوسّطة والثانويّة أن يستشرفَ معاناةَ المتعلّم؟ كيف يخصّص له فرصةً تدفعه إلى البوح عمّا يُتعبه أو يقهره أو يزعجه لكي تَسْهلَ عمليّةُ التعلّم وتتقدّم، علمًا أنّ كلّ متعلّم حالةٌ منفردةٌ خاصّة؟
مع التعلّم عن بُعد، لم يعد التواطؤ بين المعلّم والمتعلّم موجودًا. لقد خسر الأوّلُ متعةَ التواطؤ الإيجابيّ مع الثاني لتذليل الصعوبات وتجاوز الفروق.
يبدأ تكوينُ شخصيّة المتعلّم في المرحلة الأولى من عمليّة التعلّم، بحيث يكون دورُ المعلّم/ـة تنميةَ السلوك السويّ ورصدَ السلوك وردّةِ الفعل غير السويّة من خلال التواصل المباشر مع الطفل وأقرانه. ويكون هذا الدور فعّالًا في بناء منظومة القيم الأساسيّة.
التفكير الذهنيّ يحتاج إلى صحّة عاطفيّة ونفسيّة واجتماعيّة. ولكي يستقيم تفكيرُ المتعلّم، فإنّ على روحه أن تتغذّى بالمشاعر الصادرة عن المحبّة. في عمليّة التعلّم، لا تتشابه المؤشِّراتُ السلبيّةُ والإيجابيّةُ في دلالاتها مع ظروفنا الحياتيّة المستجدة. ففي الاختبار الطبّيّ السائد لكشف الإصابة بفيروس كوفيد-19، وهو أيضًا زمنُ التعلّم عن بعد، تؤشِّر "الإيجابيّةُ" على المرض وربّما الموت، في حين تؤشِّر "السلبيّةُ" على الأمان والصحّة؛ أمّا في التعلّم، فإنّ "الإيجابيّة" هي المنطلق والهدفُ المرتجى، والسلبية قاتلةٌ للتعلّم ولشخصيّة المتعلّم.
مع التعلّم عن بعد، قد يشتاق المعلّمُ والمتعلّمُ إلى إظهار تعبيرات المحبّة بينهما خارج حدود الشاشة. مثلًا، لا تكفي حصّةٌ من تسعين دقيقة يوميًّا لتعبّر معلّمةُ هايا عن حبّها لكلّ متعلّم، ولتراعي الفروقَ بين المتعلّمين.
يعزّ على المعلّم/ـة أن تَحْكم عليه ظروفُ الوباء وتقنيّاتُ التعلّم عن بُعد باستخدام أسلوبٍ واحدٍ منمّطٍ، سريعٍ، ناشفٍ، اصطناعيّ، محدودِ الوقت والمضمون، وأن تحرمَه هذه الظروفُ ممارسةَ أحلى ما في التعلّم: المحبّةِ وتعبيراتِها. يعزّ عليه أن يُحرمَ مكانَه الحقيقيَّ (غرفةَ الصفّ)، وأن تزولَ الخصوصيّةُ والحميميّةُ القائمتان بين أصحاب هذا المكان. ما أشدَّ ما يفتقد اليومَ الانحناءَ إلى مستوى قامة المتعلّم الصغيرة، واتخاذَ وضعيّة القرفصاء إلى جانبه لمخاطبته بمحبّةٍ وهدوءٍ أو لتوجيه سلوكه أو لتعزيزه! ما أشدّ اشتياقه إلى السير بين الطلّاب، أو الجلوس على حافّة طاولة أحدهم، وما أشدّ شوقه إلى جوّ الطرافة والفكاهة الذي تثيره حركاتُهم. إنّ التعليم بحبّ هو أوّلُ مكوّنات المعلّم الحقيقيّ والناجح، ولكنْ مع التعلم عن بُعد فَقَدَ المعلِّمُ أداتَه السحريّة التي تجعل المتعلّمين يستجيبون إليه.
لا أدعو إلى التعليم بالمحبّة على طريقة جبران وميّ زيادة، وهي طريقةٌ بقيتْ صامتةً ومكبوتةً وضمنيّةً على الرغم من أنّها حقيقيّة. وإنّما أدعو إلى التعليم بالمحبة الفالنتينيّة، لأنّها نشطةٌ وفرحة، وتعبيراتها متعدّدةٌ وعلنيّةٌ، وهي حاجةٌ دائمةٌ للمعلّم والمتعلّم معًا، وأظنّ أنّها سوف تكون ضرورةً عند العودة إلى التعليم الحضوريّ.
التعلّم عن بُعد كشف لأهل المتعلّمين المساحةَ الإنسانيّة التي تشكّل أحدَ أبعاد شخصيّة المعلم ودوره. اعترف الجميعُ بأنْ ليس في قدرة أيٍّ كان أن يكون معلّمًا، وأنّ عطاءَ بعض المعلّمين ومحبّتَهم لتلاميذهم وصبرَهم عليهم تُماثل عطاءَ الأهل لأولادهم ومحبّتَهم لهم وصبرَهم عليهم.
في هذا الزمن المقلق وغير الآمن والمحبط، تحيّةً وسلامًا إلى كلّ معلّمٍ تجاوز ظروفَه اليوميّة وتفوّق على صعوباته الخاصّة ليقوم بعمله بمحبّة، فكان - في الحقّ - رسولًا.
الصورة الرئيسة للمقال رسم ديما غسان العطار.