مقاومةٌ أكثر، فقرٌ أقلّ: الجغرافيا السياسيّة للخبز
14-11-2019

 

أحمد حسن / جورج سالم

***

I – عن العنف الإمبرياليّ

في التاريخ الإمبرياليّ يمكن تمييزُ نموذجيْن من التطويع، أو من "علم أصول التربية الإمبرياليّ" (Imperial Pedagogy)، استخدمتْهما (وتستخدمُهما) القوى الإمبرياليّةُ في سياق إنتاج الهيمنة الإمبرياليّة وإعادةِ إنتاجها: التطويع بالعنف (Pedagogy of Violence) و"التطويع بالثقافة (أو الحضارة)" ((Pedagogy of Culture. وبناءً على ذلك، (كان) يجري تطويعُ (أو "تهذيب" أو "إعادة تربية/تثقيف") سكّان أيِّ مستعمَرة إمّا بالقوة، أو باستخدام الثقافة، على ما يقول بارثا شاترجي،[1] مستنتجًا أنّ كلَّ تاريخ الإمبراطوريّات الحديثة "يدور إلى حدٍّ كبير حول دمج هاتيْن التقنيّتيْن التعليميّتيْن/التربويّتيْن وتسلسلِهما ودرجةِ تطبيقهما."

هذه الفكرة كان شاترجي قد أسّس لها في كتابه ثقبُ الإمبرياليّة الأسود: تاريخُ ممارسة السلطة الكونيّة.[2] وفيه يجادل بأنّ الإمبراطوريّة سنة 1840 بدأتْ تعمل على أسس تربويّة ومعرفيّة، وبواحدٍ من نموذجيْن فقط: العنف، المتمثّل في الغزو الإقليميّ الجشع في منتصف القرن التاسع عشر وأواخرِه؛ والثقافة، حيث التعليمُ واللغة والأدب. وفي الفصل السابع من هذا الكتاب،[3]  "علم أصول التربية بالعنف،" يشرح شاترجي فرضيّتَه في كلا النموذجيْن بتفصيل أكبر:

"وفي حين أصبحت الثقافةُ - ومن ضمنها الإصلاحُ القانونيّ، وإصلاحُ المؤسّسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وانتشارُ التعليم الغربيّ الطابع – تشكّل تدريجيًّا المنهجَ المفضَّل، فقد جرى التأكيدُ بشكلٍ متزامنٍ أنّ تهيئة الظروف المناسبة للتربية الثقافيّة قد تحتاج في كثيرٍ من الأحيان، من أجل ضمان نجاحها، إلى استخدام القوّة الإمبرياليّة."

وعلى الرغم من تبنّي شاترجي نظريّةَ "ما بعد الكولونياليّة،" فإنّ في الفكرة المذكورة أعلاه إضاءةً على فكرةٍ قديمةٍ في التقليد الماركسيّ (تعود ربّما إلى كتاب الإيديولوجيا الألمانيّة، ولاحقًا إلى نصّ لينين خطّتا الاشتراكيّة الديمقراطيّة[4] شدّد عليها أنطونيو غرامشي فيما بعد، وأعاد فرانز فانون صياغتَها في سياق التاريخ الاستعماريّ، ومضمونُها: أنّ الهيمنة الثقافيّة والإيديولوجيّة هي، في نهاية الامر، إعادةُ تشكيلٍ للقوّة.

بهذا المعنى، فإنّ القوّة أو الهيمنة الإيديولوجيّة ليست مستمدّةً من العنف الإمبرياليّ فحسب، وإنّما هي مشروطة بهذا العنف أيضًا. لهذا، يمكن الزعم أنّ أفكارَ الغرب، بل أسلوبَ حياة الغرب كذلك (وتحديدًا ما يأتي من أميركا)، ليست سائدةً (وجذّابةً) فقط، ولا يُستمدّ منها أغلبُ الأفكار خارج الغرب فحسب، بل يُتعاملُ معها وكأنّها علمٌ (أو بمثابة علمٍ) أيضًا. وليس ذلك، طبعًا، بسبب "دقّة" هذه الأفكار أو "علميّتها،" وإنّما لكون أميركا - مصدرِ هذه الأفكار - قويّةً ومهيمنةً وتمارس العنف. والأهمّ هو أنّ العنف الإمبرياليّ، ما لم يواجَهْ وتُبطَلْ مفاعيلُه بعنفٍ مضادّ، بالعنف الثوريّ، سيظلّ يَستولِدُ الإيديولوجيا المهيمِنةَ باستمرار.

لهذا، ففي الكفاح المسلّح عند الشعوب المستعمَرة، على ما يقول فانون، هناك "نقطةُ لاعودة،" تبدأ معها مفاعيلُ العنف الثوريّ بالتجلّي على شكلِ وعيٍ جذريّ حقيقيّ بالواقع والذاتِ والمستعمِر. وفي تاريخ المقاومة الجزائريّة يؤرِّخ فانون لهذه اللحظة الحاسمة في أعقاب معركة سكيكدة (PHILIPPE VILLE، كما سمّاها الفرنسيّون) في 20/8/1955. فبعد هذه المعركة بالذات، جاء الردُّ الجزائريّ على عبارة المستعمِر الفرنسيّ، "كلُّ السكّان الأصليين متماثلون،" بعبارة "كلُّ المستعمِرين متساوون،"[5] وتلتها عبارةٌ في بيانٍ لجبهة التحرير: "الاستعمار لا يَرفع يديْه إلّا إذا جعلتَ السكّينَ في عنقه،" لتكونا (أي العبارتان) مؤشِّرًا على تحوّلٍ هائلٍ في الوعي الثوريّ الجزائريّ. ففي هذه اللحظة بالذات، بدأت الثورةُ الجزائريّة تكشف عن إنسانٍ جديدٍ اكتشف العنفَ الثوريَّ قابلةً للوعي ولإدراك حقيقة الاستعمار؛ والأهمّ أنّه اكتشف الدورَ الحاسم للعنف الاستعماريّ في إخضاعِه وتزويرِ وعيه ومسخِه إلى مستعبَدٍ يقبل بمكانةٍ دونيّة.

و"نقطة اللاعودة" الحاسمة، هذه، لم تكن نتاجًا لوعيٍ وصل اليه الجزائريّون إلّا حين قرّروا أنّ العنفَ الثوريَّ هو طريقُ الخلاص، وذلك بعد أن شاهدوا الدمَ الفرنسيَّ والأوروبيَّ يسيل في شوارع سكيكدة، تمامًا كما تسيل دماؤهم هم. فـ "العنفُ وحده،" كما يقول فانون:

"العنفُ الذي يمارسه الشعبُ، والعنفُ الذي تنظِّمه وتسترشد به القيادة، [هو الذي] يوفِّر المفتاحَ للجماهير لفهم الواقع. ومن دون هذا الكفاح، لن يكون هناك إلّا موكبٌ وكرنفالٌ والكثيرُ من الهواء الساخن. من دون هذا العنف، كلُّ ما تبقّى هو إعادةُ تكييفٍ طفيفة، بعضُ الإصلاحات من الأعلى، علمٌ يلوح، لكنْ ستبقى في الأسفل كتلةٌ بشريّةٌ عديمةُ الشكل غارقةٌ في العصور المظلمة."[6]

لهذا بالضبط يقول فانون إنّ "الإنسان المستعمَر يحرِّر نفسَه من خلال العنف فقط."

لقد تمثّلتْ عبقريّةُ فانون في إدراكه المبكِّر لِما أصبح لاحقًا من مسلَّمات علم النفس الاجتماعيّ، ونعني: فهمَه لطبيعة العنف الجدليّة. فبالعنف الاستعماريّ نُستعبَد، وبالعنف الثوريّ نتحرّر. ونعني بالاستعمار والتحرّر، هنا، معناهما الشامل: فالعنف الاستعماريّ لم يُمَكِّن المستعمِرَ من استعمار الأرض وحدها، بل قاد كذلك إلى خضوع المستعمَر لاغترابٍ ثقافيٍّ وهيمنةٍ إيديولوجيّةٍ أيضًا. "العقيدة الاستعماريّة لا تكتفي بوقوع المستعمَرين في شباكها، وباستنزاف أدمغتهم من أيّ شكلٍ أو مادّة،" على ما يقول فانون، وإنّما "تُحَوِّل انتباهَها إلى ماضي الشعب المستعمَر كذلك، وتعمل على تدميرِه وتشويهِه. لهذا، فإنّ الجهدَ المبذول لتحريرِ تاريخِ ما قبل الاستعمار ذو أهمّيّةٍ جدليّةٍ كبرى."[7]  

 

II - أبعد من لبنان: سؤالُ البديل والهيمنة الإيديولوجيّة الدوليّة

فرضيّتُنا الأساسيّة، بناءً على ما تقدّم، هي الآتية: في ظلّ وجود هيمنة إيديولوجيّة دوليّة، تستند إلى قوّةٍ كونيّة، وتعبِّر عنها وعن فكرها، فإنّ البديل المفترض الذي يسعى إليه الكثيرون لا يمكن أن يُنتَجَ محلّيًّا، أو "بعقلٍ محلّيّ" خالص، كما يظنّ بعضُ المتحمِّسين الذين لا يعرفون أنّ قوّتَهم وقوّةَ مجتمعاتهم، في سياق النظام العالميّ، تقارب الصفرَ في أحسن الأحوال، ما داموا يعيشون في مجتمعات صغيرة وضعيفة ومندمجة في بنية النظام الرأسماليّ العالميّ، وتخضع كلّيًّا لشروط القوى المهيمنة.

في الحقيقة، واستنادًا إلى التجربة في حالتنا العربيّة (من تونس إلى مصر وما بعدهما)، فإنّ "البديل" اُنْتِجَ، ويُنْتَج، وفق نموذج الإيديولوجيا الدوليّة السائدة والمهيمنة فقط، أو وفقًا للفكرة المسيطرة على المنظومة الدوليّة في هذه اللحظة التاريخيّة، بسبب بنية عمل النظام العالميّ الراهن وآليّاته. ونحن نرجِّح أنّ البديل سيُنتَج وفق ذلك أيضًا.

في رأينا أنّ هذا الافتراض يقارب أن يكون، في هذه المرحلة، حتميّةً نظريّة (ونشدّد على فعل "يقارب" لأنّنا سنقترح خطوطًا عامّةً لمشروعٍ مضادّ تأخذ في  الاعتبار هذا الافتراض) مؤسَّسةً على الفكرة التالية:

إنّ المحرِّك الأهمّ لكلّ الحراكات الشعبيّة الراهنة، التي نعتقد أنّها أصيلة ومحقّة في العموم، وتعبِّر عن أزمة نظامٍ، على الرغم من إمكانيّة حرفها تبعًا لموازين القوى (الإيديولوجيّة والمادّيّة)، هو اقتصاديّ – اجتماعيّ؛ في حين أنّ الإيديولوجيا المهيمنة كونيًّا حاليًّا هي النيوليبراليّة الرأسماليّة، مصدرُ الخراب والدمار باستمرار.

واهمٌ مَن يظنّ أنّ الثورات والانتفاضات، وحتى الإصلاح، مجرّدُ قضايا تقنيّة (كما يظنّ أصحابُ رأي "حكومة التكنوقراط" في لبنان)، أو مجرّدُ سلسلةٍ من الإجراءات العالميّة الموحَّدة التي يمكن أن نجدَها في أحد الكتب وما علينا إلّا اتّباعُها بدقّة فقط (هكذا يستغبيكَ مَن يَستبدلُ جين شارب بماوتسي تونغ). فوفق هذه الرؤية، لا يوجد عالمٌ حقيقيّ ومصالحُ حقيقيّة، بموازينِ قوًى مختلّة، تفرض آليّاتِ تثقيفٍ وتعليمٍ وأدلجةٍ على البشر منذ اللحظة الأولى لولادتهم. من يُسوِّق هذه الأوهامَ لا يفعل في الحقيقة أكثرَ من المقامرة بحياةِ أهله ومصير بلدِه وأمّته من أجل إعادة إنتاج النموذج ذاته في النهاية.

ما يجري تجاهلُه، في كلّ الفرضيّات والنماذج التي تسوَّق كبدائل، أنّ هناك فعلًا هيمنةً إيديولوجيّةً كونيّةً راهنة، تصل في هيمنتها - باستنادها إلى القوّة الإمبرياليّة الغربيّة - حدَّ "تقمُّص التاريخ" فعلًا! ولهذا، فإنّ البديل سيكون، وفق النموذج المهيمِن، استنساخًا لهذه الهيمنة الإيديولوجيّة الدوليّة، ولا/ولن يُنتَج محلّيًّا، ولا/ولن يكون محلّيًّا، وبعقلٍ محلّيّ خالص، إلّا بمقدار مقاومتنا للإمبرياليّة وأدواتِها، وبمقدار موازنتنا لعنفها وعنفِ أدواتها. تصبح القضيّةُ، إذن، في هذا السياق، قدرتَنا على فكّ الارتباط، إلى الحدّ الأقصى، مع النظام الدوليّ من أجل تحقيق المطالب الشعبيّة العادلة.

إنّ الصناعة الرئيسة للرأسماليّة النيوليبراليّة المهيمنة عالميًّا ليست التجارة، وإنّما بيعَ روح الإنسان وشراءها، وصناعةَ القتل والخراب، والتدميرَ البيئي، وتجارةَ الإفراغ السكّانيّ. هذا هو المصدرُ الأهمّ للقيمة المضافة (وفق قانون القيمة)، التي تُحوَّل إلى المركز الإمبرياليّ كلَّ يوم، وليس النفط أو السلع. فوق ذلك، سنزعم أنّ الهدفَ الأساس للصناعة الرأسماليّة النيوليبراليّة في بلادنا ليس الخصخصةَ في حدّ ذاتها، وإنّما هذه مجرّد غطاءٍ أو آليّةٍ لقتل المزيد من البشر وارتكاب المزيد من الدمار البيئيّ. إنّ القتل والإفراغَ السكّانيّ والخرابَ البيئيّ آليّة بديلة لتحصيل فائض القيمة، بل هي أكثرُ ربحًا وانتشارًا في الزمن الراهن من الآليّة التقليديّة (عبر الأجور المنخفضة).

 

III - تشييء المسألة الاجتماعيّة: حتى لا يقف الحراكُ على رأسه

لهذا يخطئ مَن يتخيّل، أوّلًا، أنّ دولَ الغرب (والمقصود أميركا طبعًا) معنيّةٌ بالاستقرار في حدّ ذاته في لبنان (أو في العراق أو في أيّ بقعةٍ من الجنوب). ويخطئ مَن يظنّ، ثانيًا، أنّ الغرب يخشى فعلًا من الهجرة غير الشرعيّة التي تهدِّد تركيبتَه السكّانيّة.

هذان الوهمان يتعارضان مع آليّات تسريب القيمة الحقيقيّة (والأهمّ) للغرب. ولأنّ الخراب هو صناعة النيوليبراليّة الأساسيّة الراهنة، فإنّ الاستقرار هو آخرُ ما يقلق المركزَ الرأسماليّ، خصوصًا إذا كانت النتيجة السياسيّة للفوضى والخراب المتوقّعيْن تستحقّ التضحيةَ بهذا الاستقرار.

أما الهجرة، فهي التي حافظتْ حتى الآن على متوسّط عمرٍ شابٍّ نسبيًّا في العديد من الدول الغربيّة التي تواجه مخاطرَ تبعات الشيخوخة. فمتوسِّطُ العمر في الولايات المتحدة، بفضل الهجرة، هو 38 عامًا؛ وهو أعلى قليلًا في أوروبا؛ في حين أنّه في اليابان - التي لا تشكّل خيارًا للهجرة من دول الجنوب - أعلى بحوالي عشر سنوات من الولايات المتحدة. وارتفاعُ متوسّط العمر يعني مواجهةَ أخطارٍ أمنيّةٍ (تركيبة الجيوش وأجهزة الأمن مثلًا)، واقتصاديّةٍ، وديموغرافيّةٍ مثل "نسبة الاعتماد" (Dependency Ratio) (عدد العاملين ودافعي الضرائب نسبةً إلى الأطفال تحت سنّ العمل القانونيّة والمتقاعدين فوق سنّ 65). هذا ما أشار اليه تقريرُ مجلس الاستخبارات الوطنيّة الأميركيّة، ميولٌ عالميّة: عوالمُ بديلة، بل اعتبره أحدَ "الميول الكبرى" التي ستؤثّر في الاقتصاديّات ذاتِ المتوسّط العمريّ المرتفع نسبيًّا.[8] فأن تقوم هذه الدولُ بتقنين الهجرة للتعويض من ارتفاع متوسّط العمر لا يعني أنّها تخشاها. على العكس، هي في الحقيقة تحتاجها، بل تحتاج أيضًا إلى المحافظة على نسبةٍ معيّنةٍ من الهجرة "غير الشرعيّة" لكون العنصريّة الناتجة من تبعات ذلك مربحةً أيضًا في الحدّ من الأجور، كما أشار إيمانويل والرشتين.[9]

ويخطئ، ثالثًا، مِن اليسار تحديدًا، مَن يَختزل السياسةَ في مطالب اقتصاديّة - اجتماعيّة بحتة، وكأنّ بلداننا جزرٌ معزولة، لا مندمجةٌ في النظام الرأسماليّ العالميّ، وعرضةٌ للنهب اليوميّ. هذا التصوّر يجعل أيَّ انتفاضةٍ تقف على رأسها، ما لم ترَ دورَ الخارج في تفاقم المسألة الاجتماعيّة. وهذا ما يتوجّب أن نقاومَه من أجل تهيئة الظروف لتحقيق هذه المطالب. هذه، في الحقيقة، كانت مأساةَ بعض الشيوعيين العرب منذ اعتراف بعضهم بالكيان الصهيونيّ في أعقاب النكبة، أو تبنّيهم شعاراتٍ مثل "وحدة الطبقة العاملة العربيّة واليهوديّة،" وتجاهلِهم حقيقةَ المشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ ذي الطبيعة الإباديّة في فلسطين، ومصلحةَ القابلة والراعية الغربيّة لهذا المشروع ودورها. وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عامًا على خطيئة بعض الشيوعيين في فلسطين، فإنّ جزءًا من اليسار العربيّ ما يزال أسيرًا للأفق القُطْريّ، ولا يعادي الإمبرياليّةَ إلّا من زاوية الأوضاع الاجتماعيّة - الاقتصاديّة، ولا يدرك مركزيّةَ التقسيم وجدليّته في آن - - أيْ في وصفه آليّةً إمبرياليّةً ضروريّةً للهيمنة والاستغلال، ونتيجةً لهما أيضًا.

الأهمّ، والأخطر، أنّ فهمَ السياسة بهذه الطريقة حوَّل المسألةَ الاجتماعيّة - الاقتصاديّة مؤخّرًا إلى أحد أسلحة الغرب الفتّاكة للدفع في اتجاه الفوضى. فبذريعة "المطالب الاجتماعيّة - الاقتصاديّة" (والديمقراطيّة الليبراليّة) يجري العمل على زعزعة الاستقرار في الدول ذاتِ الميول الاشتراكيّة (فنزويلا وبوليفيا مثلًا)، وفي الدول التي تتحدّى الهيمنةَ الأميركيّة فلا ترى الأزماتِ الاجتماعيّةَ في معزلٍ عن الهيمنة الغربيّة أو النظام الرأسماليّ العالميّ. هكذا يمكن أن تتحوّل القضايا الاجتماعيّة العادلة إلى أداةِ خرابٍ في يد الخارج، الذي قد لا يحتاج إلى التدخّل المباشر مع وجود هذا الخلل (ألا يفسِّر ذلك المواقفَ الغربيّة المؤيِّدة لعددٍ من الحراكات الاجتماعية، بل المزايِدة على الجميع أحيانًا في تضامنها معها؟!). هذه في الحقيقة إحدى النتائج الكارثيّة للتفكير من خلال أشكالٍ خاليةٍ من التاريخ والسياسة، إلى جانب الاجتماع والاقتصاد. المطلوب، إذًا، هو رؤيةُ جدليّة "الاجتماعيّ - القوميّ" وجدليّة "الخارج - الداخل." والمطلوب - وهذا هو الأهمّ - تفكير تاريخيّ غير مشيِّئ.

لهذا، ليست دعوتُنا إلى الحذر في حالة بعض الانتفاضات نابعةً فقط من الخوف من تدخّلٍ خارجيّ مباشر مفترض، يمكن أن يَحْرفَ مسارَها (على الرغم من أهمّيّة هذا العامل في فهم كلّ حالة، وعلى سذاجة استثنائه أو التقليل من شأنه). فقوّة الخارج الحقيقيّة والمؤثِّرة في تحديد مسار أيّ حراكٍ محلّيّ هي القوّة الإيديولوجيّة (المستندة إلى القوّة المادّيّة)؛ إنّها قوّة الأفكار المنتَجة خارجيًّا، التي لا يمْكن أيَّ تدخّلٍ مباشر أن يكون مؤثِّرًا أصلًا في معزلٍ عنها. وقوّة الخارج أيضًا تتعزّز باختزال السياسة بالعامل الاجتماعيّ، في عالمٍ تهيمن عليه الإمبرياليّةُ الأميركيّة. وقوّةُ أفكار الخارج هي من تبعات القوة النسبيّة للدول المهيمنة (الغرب الإمبرياليّ)، في مقابل مجتمعاتنا الضعيفة والمنفردة والمجزَّأة، حيث المقاومةُ تحتاج إلى تبرير وجودها كلَّ يوم وسطَ الشيطنة المستمرّة لها ولرموزها.

والمقصود بـ "الخارج" هنا ليس الخارجَ الجغرافيَّ حصرًا؛ فرأس المال لا يعرف الحدودَ القوميّة ما دام الخارجُ موجودًا بممثِّليه المحلّيّين، أو امتداداته المحلّيّة، كامتدادٍ لرأس المال ذاته. ولهذا، فإنّ ما يُطرح حتى اللحظة من جوقة "التحوّل الديمقراطيّ" في حديثها عن "الموجة الثانية من الربيع" ليس سوى استنساخٍ لنموذجٍ قاد إلى الخراب في "الموجة الأولى" وقد يقود إلى خرابٍ أكبر في "الموجة الثانية."

أمّا المثقفون الوطنيون والقوميون (وتحديدًا اليساريون)، فنحن لم نرَ عند بعضهم حتى اللحظة إجابةً عن آليّات مواجهة الخارج في ظلّ الاختلال الكبير في موازين القوى (مادّيًّا وإيديولوجيًّا مرةً أخرى)، وفي ظلّ محاولة فرض نموذج يبدو مرغوبًا لو كانت بلدانُنا تعيش في فراغ إقليميّ ودوليّ - - هذا إذا افترضنا أنه سيكون لهذا البرنامج تأييدٌ محلّيّ أصلًا في وجود الهيمنة الإمبرياليّة الإيديولوجيّة المعمَّدة بالدم والنار.

 

IV - لبنان وأميركا: الجغرافيا السياسيّة للخبز

"الفيل الكبير في الغرفة،" كما يقال، وقد تناساه بعضُ المشاركين في حَراك لبنان (والعراق). إنّه دورُ السياسات الإمبرياليّة (الأميركيّة) في الوطن العربيّ. وهذا الدور في لبنان، مثلًا، أكبر بكثير من دور البنوك اللبنانيّة نفسها (التي ينبغي عدمُ التفكير فيها، هي الأخرى، وكأنّها جُزرٌ معزولة عن الرأسمال العالميّ). وهذا، طبعًا، لا ينفي دورَ السياسة الماليّة، والدورَ المهمَّ الذي لعبتْه المصارفُ، والمصرفُ المركزيُّ وحاكمُه رياض سلامة تحديدًا، في الخراب الذي وصل إليه لبنان.[10] ولكنّه، أيْ سلامة، فعل ذلك في وصفه وكيلًا أمينًا يطبِّق السياساتِ الأميركيّة، وبمبالغةٍ غير مفهومةٍ أحيانًا، وربما غير مطلوبة بحَرْفيتها أميركيًّا. فقد اعترف في مقابلة مع نيويورك تايمز بالآتي: "لقد عملتُ بجدّ لتأسيس لجنة تحقيق خاصّةٍ لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ولم أتنازلْ مطلقًا عن ذلك. أولئك الذين عانوْا من قراراتي يحاولون الآن أن يُسقطوني بتهمة الفساد."[11]

ما يحتاج إلى تفسيرٍ هنا هو: ماذا يعني حقيقةً مفهومُ "غسيل الأموال" في سياق وجود سرّيّةٍ مصرفيّة يُصرّ المصرفُ المركزيُّ على حمايتها؟ المقصود هنا، كما يبدو، هو "غسيل الأموال" وفق القيم والمقاييس والقوانين الأميركيّة، التي ترى ما يعتبرُه بعضُ الناس في بلادنا رأسَ مالٍ شريفًا (أو مقاومًا) رأسَ مالٍ غيرَ شرعيّ وغسيلًا للأموال! أما ما عدا ذلك، فيخضع للسرّيّة المصرفيّة والحماية.

في الحقيقة، يمكن الزعمُ أنّ كلَّ ما يتعلّق بالتنمية والسياسة في لبنان، وصولًا إلى أصغر التفاصيل (مثل تقرير حقّ بعض مواطني لبنان امتلاكَ حسابٍ مصرفيّ في بلدهم بالذات، لا في بلدٍ آخر!)، هو من تبعات سياسة الولايات المتحدة للسيطرة على المنطقة، وخصوصًا سعيها إلى فرض الهيمنة على الخليج. هذه في الحقيقة إحدى القضايا الأساسيّة التي تثير الحيرةَ حين يتمّ تجاهلُها على الرغم من وضوحها. ذلك لأنّ السيطرة على الخليج هي القوّة التي تضمن إضفاءَ الطابع العالميّ على الدوْلرة، وعلى الريْع الإمبراطوريّ الناجم عنها.

فالواقع أنّ الولايات المتحدة في حالة حرب حقيقيّة مع إيران: فأن تَعْمَد إلى تجويع شعبٍ كاملٍ عبر العقوبات القصوى هو إعلانُ حربٍ بكلّ معنى الكلمة، سواء سمّيتَها "حربًا منخفضةَ الحدّة" أو "مكافحةَ تمرّدٍ" أو غيرَ ذلك من المصطلحات اللغويّة التي يَنضح بها المعجمُ الإمبرياليّ ولسانُ الغرب المشقوق. وهذه الحرب ستكون، في حدّ ذاتها، مربِحةً للإمبرياليّة الغربيّة اقتصاديًّا كأيّ حربٍ في زمننا - - عدا عن كونها جزءًا من الجهود الأميركيّة لاحتواء الصين واحتواءِ صعودها. ومن ثمّ، فإنّ العقوبات القصوى الراهنة على إيران وعلى أطراف محور المقاومة (بما في ذلك داخل لبنان طبعًا)، والنشاطَ الظاهرَ والمتزايدَ لوكلاء الولايات المتحدة المسلّحين في المنطقة، بل محاولةَ الانفصال الكرديّ في العراق وسوريا، ليست سوى بعض مظاهر الهجوم الأمريكيّ على المنطقة.

قد تستطيع إيران، وهي تستطيع فعلًا، إلحاقَ الأذى بأيّ عدوانٍ غربيّ محتمل، وإلحاقَ الأذى الكبير أيضًا بأدواته الإقليميّة التي ستشارك حتمًا في العدوان - - وهذا ما قد يجعل قرارَ العدوان أكثرَ تعقيدًا، بل يجعل الحربَ خاسرةً بمعنى التكلفة والحسابات المباشرة. لكنْ، في حسابات رأس المال والحسابات الإمبرياليّة، فذلك أمرٌ يتعلّق بالهيمنة والقوّة ومصير الإمبراطوريّة، لكون المواجهة تحدث على أعتابِ انقلابٍ في منظومة المفاهيم السائدة بسبب التحوّلات في موازين القوى؛ انقلابٍ قد يغيّر مجرى التاريخ وينقلنا إلى "عالمِ ما بعد الغرب،" بمفاهيمَ ورؤًى مختلفةٍ وجديدة.

لهذا، وبغضّ النظر عن التكاليف المحسوبة والمباشرة للحرب، فإنّ الولايات المتحدة تخطِّط لضرب الجناح الشرقيّ للخليج. فالخليج ممرّ مائيّ استراتيجيّ، يمرّ منه يوميًّا أكثرُ من 20% من إمدادات النفط العالميّة المنقولة بحرًا. ولهذا، فإنّ الهيمنة عليه لا تقدَّر بثمن. صحيح أنّ الولايات المتحدة تملك النفط بل تصدِّره، لكنّ النفوذَ المهيمن هو مصدر قوة السيطرة، والقوة هي الأولويّة في السياسة، ومن دون هذه الأولويّة لا أرباح.

القوة قابلةُ التاريخ؛ فهي القادرة على تشكيل العلاقات الاجتماعيّة لتهيئة الظروف لإنتاجٍ منخفضِ التكلفة، وهي المحدِّدُ الأساس في علاقة القيمة - - بتحديدها مقدارَ ما يُنتَج، وحصّةَ رأس المال، وحصّةَ العمل، على مدى دورة حياة المجتمع. ليست القضيّة، إذن، مجرّدَ قراءةٍ لدفاتر الحسابات، تتضمّن الدخلَ بالدولار؛ فهذا تصمِّمه وتطْبعُه وزارةُ الخزانة الأمريكيّة أصلًا. رأس المال ليس شخصًا، بل كيانٌ اجتماعيّ، أو علاقةٌ اجتماعيّة - تاريخيّة.

بيننا، نحن العربَ، وبين إيران، في سياق العدوان الغربيّ على المنطقة، أكثرُ من مجرد "تنافعٍ" إيجابيّ بين حلفاءَ تقليديين. فبسبب العدوان الغربيّ المتوحِّش على الجميع، إلى حدّ التجويع والموت (أليس لهذا السبب تخرج الناسُ إلى الشوارع؟)، أصبحنا نتشارك مع إيران مصيرًا مشتركًا، ويتهدّدنا خطرٌ وجوديٌّ حقيقيٌّ واحد، تَصْغر أمامه الأخطاءُ الصغيرة، من إيران أو منّا (ولا يعني ذلك عدمَ معالجة هذه الأخطاء!). وهذا يفترض تعاونًا عاليَ المستوى (مقدِّمةً لاندماجٍ إقليميّ). ففي البيئة الدوليّة المعولمة، لا يمكن أن تنجح التنميةُ السليمة أو تتجذّرَ في بلدٍ واحد، خصوصًا إذا كان ضمن إقليمٍ ذي أهمّيّة كبرى للقوى الإمبرياليّة. وهذا ما يقدِّم خيارَ التعاون باتجاه الاندماج الإقليميّ في المنطقة على كلِّ ما عداه من خيارات.

والمقصود أساسًا بهذا الخيار هو ترسيخُ التنمية في إطارٍ من السياسات الإقليميّة، تدعمه تدابيرُ مشتركة تكفل المصلحةَ المشتركة في الإقليم. وهذا مشروطٌ بجملةٍ من العوامل، يبدو أهمَّها على الإطلاق انتشالُ غالبيّة السكّان من مستوى الفقر المدقع - - وهذا شرط ضروريّ جدًّا لخلق حاضنةٍ شعبيّة، عابرةٍ للبلدان والإقليم، تحمي هذا الخيارَ وتضحّي من أجله. ولهذا، يمكن أن تكون هذه الرؤيةُ فعّالةً إذا شاركت الأيدي العاملةُ والفقراءُ (لا رأسُ المال) في صياغة السياسات الاقتصاديّة لهذه الدول، وفي صياغةِ الأمن الماليّ والاقتصاديّ العامّ الذي يشكّل جوهرَ السيادة.

 

V - مقاومةٌ أكثر، فقرٌ أقلّ

صحيح أنّ الناس تطالب، محقّةً، بالخبز والديمقراطيّة. لكنْ، عن أيّ خبزٍ وديمقراطيّةٍ نتحدّث؟ ليس هذا، في الحقيقة، خبزًا منتَجًا محلّيًّا، أو يُشترى بالعملة المحلّيّة، بل خبزٌ يُشترى بالدولار من الخارج (أميركا)، من ريعٍ تَحَصّل في سياق الجغرافيا السياسيّة للبنان والمنطقة وشروطها. أما "الديمقراطيّة" التي يتحدّث عنها كثيرون، فهي في الحقيقة حكمُ رأس المال العالميّ الذي تقوده الولاياتُ المتحدة، وتقوم بتفويضه إلى وكلائها المحلّيين الذين تختارهم.

هناك ندرةٌ، للأسف، في المفاهيم الثوريّة في حراك لبنان وفق ما تفيد به غالبيّةُ الشعارات المرفوعة حتى اللحظة. ليست "ديمقراطيّةً" تلك التي تصوِّت فيها الطبقةُ العاملة لرأس المال من أجل فعلِ ما يَخدمه على حساب العمّال والفقراء! كذلك، فإنّ الدعوة إلى "إزالة النظام الطائفيّ،" على أهمّيّتها، من دون إزالة هيمنة رأس المال المرتبط به، ستعيد بالضرورة تدويرَ الطبقة نفسها في السلطة، لكنْ مع شكلٍ آخر من أشكال الطائفيّة. فالطائفيّة هدفُها تجزئةُ الطبقة العاملة. وتجزئة الطبقة العاملة هي في أساس سيرورة العمل، وأساس تكوين رأس المال. وأن نستبدل بالطائفيّة القائمة صيغةً تجزئةٍ أخرى للطبقة العاملة والفقراء، من أجل الحفاظ على التراكم الرأسماليّ، لن يحلّ المشكلة.

إنّ تحصيل فائض القيمة من قِبل الخارج وأتباعِه في الداخل مرتبط - أوّلًا وأخيرًا - بالقوّة السياسيّة للطبقة العاملة، أو بضعفها عبر تجزئتها. ولهذا، فإنّ سوءَ فهم اندفاع الانتفاضة قد يتحوّل إلى انتحارٍ حقيقيّ لبقايا القوى الاشتراكيّة، التي نفترض أنّها تدرك - أكثرَ من غيرها - عمقَ الأزمة وجوهرَها.

لكنّ الخبز والديمقراطيّة علاقاتٌ اجتماعيّة قبل أن تصبح أشياء أو أفعالًا. هي علاقات تاريخيّة وعلاقات قوة مستمَدّة من الصراع الطبقيّ. غير أنّها، في غياب إيديولوجيا ثوريّة، أصبحتْ مشيّأةً تمامًا وغير تاريخيّة - - ربما بسبب تأثير الماركسيّة الغربيّة التي تعمل، في الحقيقة، من أجل الغرب، ولا ترى العالمَ من خندقنا في الجنوب (مَن، في الحقيقة، أكثرُ ديمقراطيّةً: الصين "الديكتاتوريّة" التي انتشلتْ أكثرَ من خمسمائة مليون شخص من براثن الفقر المدقع، أم الولاياتُ المتحدة "الديمقراطيّة" التي يَغرق نصفُ سكّانها في الفقر؟)[12]

لهذا، فإنّ تحصيل الخبز يتطلّب أوّلًا فكَّ الارتباط النسبيّ بالنظام الرأسماليّ العالميّ على أساس التضامن مع الطبقة العاملة. وهذا يتطلّب، بالضرورة، اللجوءَ إلى العنف الثوريّ ضدّ الإمبرياليّة وضدّ التبعيّة لها. لذا، كان يمكن أن يكون الفقرُ في لبنان أسوأ من مصر لولا حزبُ الله ومقاومتُه. هذه هي القاعدة الصحيحة في حالة لبنان تحديدًا، وبسببٍ من جغرافيّته السياسيّة: مقاومةٌ أفضل، فقرٌ أقلّ.

ولذلك، فإنّ الهجوم على المقاومة وحزبِ الله (بجهلٍ أو بقصد) هو أهمُّ أدوات "الحَراك المضادّ،" لأنّ مَن يفعلون ذلك يجرِّدون لبنانَ من أهمّ أسلحته في مقابل الخارج.

... على أمل رفع مستوى التنسيق (ونتمنّى الوحدة) بين لبنان وسوريا والعراق، وتعاونها ككتلةٍ عربيّةٍ وازنة مع إيران، القوةِ الإقليميّةِ الصاعدة، لصدّ الهجوم الغربيّ على الإقليم، وإضعافِ تأثيره، حتى يصبح التغييرُ الجذريُّ أكثرَ إمكانًا.

 

خاتمة

"إنّ ثمنَ النماء الغربيّ في ظلّ هذه العالميّة هو 700 مليون إنسان لا يملكون قوتَ يومهم، يموت منهم في كلّ يوم أربعون ألفًا موتَ الذباب، بينهم 34 ألف طفل دون الخامسة. وإنّ النماء الرأسماليّ الغربيّ يُلقي على العالم الثالث كلَّ يومين قنبلةً غذائيّةً معادلةً لقنبلة هيروشيما،" هذا ما يقوله منير العكش.[13] وما دام الناس يخْطئون في معرفةِ العدوّ الحقيقيّ، والهدفِ الحقيقيّ الذي يجب أن يصبّوا عليه جامَ غضبهم؛ وما لم تُشِر البوصلةُ إلى الإمبرياليّة الغربيّة ورأس المال؛ فسيظلّ الرأسمالُ الغربيّ يلقي على العالم "كلَّ يومين قنبلةً غذائيّةً معادلة لقنبلة هيروشيما،" وسيظلّ سكّانُ الجنوب وأطفالُهم يموتون ميتةَ الذباب، لأنّ صناعةَ الموت هي الصناعة الأكثر ربحًا للإمبرياليّة الغربيّة في زمننا.

إنّ قيمة كلّ سلعةٍ تباع في العالم تأتي أساسًا من الإزهاق المستمرّ لحياة الإنسان الجنوبيّ المهدورة، ومن نهب ثروات الجنوب المستباحة، ومن خراب بيئة هذا الجنوب. هكذا، ببساطة، تباع السلعُ أقلَّ كثيرًا من قيمتها الحقيقيّة، ولا يَدفع مواطنو الشمال إلّا جزءًا يسيرًا منها، ويحقِّق رأسُ المال فوق ذلك الأرباحَ الهائلة. وهكذا يتراكم رأسُ المال في أيّامنا: فالقيمة التبادليّة لكلّ سلعةٍ تباع في سوق رأس المال لا تتضمّن في حساباتها حياةَ الجنوبيين التي أُزهقتْ في العمليّة الإنتاجيّة وفي الحروب والدمار، ولا تتضمّن المصادرَ الطبيعيّة التي نُهبتْ، ولا البيئةَ التي دُمّرتْ.

لكنْ، مع كلّ حراكٍ جماهيريّ، وعلى الرغم من بعض التشويش الذي يفرضه الأعداءُ ووكلاؤهم في الداخل، وكلِّ العنف الإمبرياليّ الهمجيّ لكسر روح منطقتنا وشعوبِنا واستعبادِها، فما تزال منطقتُنا وشعوبُنا مستعصيةً على الاحتواء. ولهذا، نؤمن، حتى النخاع، بأنّ "الأخير سيكون الأوّلَ."

لكنْ حتى ينقلبَ العالمُ وتوازناتُه، وتتغيّرَ الحضارةُ ومفاهيمُها، وتتبدّلَ طريقةُ العيش الراهنة وصيغُها، فإنّنا نرى أنّ التغيير المرحليّ الممكن يجب أن يتسلّحَ بالقوّة. وفي لبنان، لا يمكن أيَّ حلّ لا يرى جدّيًّا في المقاومة ذخرًا استراتيجيًّا للبنان والمنطقة أن يُكتبَ له أيُّ حظّ من النجاح. فتاريخ النظام الرأسماليّ يعلّمنا أنّ القوة قابلةُ التاريخ. لهذا سنَخْتم بصلاةٍ فانونيّة (من فانون) لا نرى فيها مفتاحًا لفهم الإنسان والتاريخ والمجتمعات والعالم فحسب، بل لتغييرها جميعها أيضًا:  

"إنّ العنف الذي يَحكم ترتيبَ العالم الاستعماريّ، ويستمرّ بلا كللٍ

في تدمير النسيج الاجتماعيّ الأصليّ، وهدمِ الأنظمة المرجعيّة لاقتصاد أيّ بلد، ونمطِ حياته، وأنماطِ اللباس....، هو ذاته الذي سيجري تبريرُه واستخدامُه حين يأخذ المستعمَرون بأيديهم ناصيةَ التاريخ، ويندفعون إلى مدن المستعمِر المحرَّمة. إنّ تفجيرَ العالم الاستعماريّ إلى فتاتٍ يمثّل، من الآن فصاعدًا، صورةً واضحةً في متناول خيال كلّ إنسانٍ مستعمَر. إنّ خلعَ العالم الاستعماريّ لا يعني أنّه بمجرّد إزالة الحدود سيكون هناكّ حقٌّ في الطريق بين العالميْن [المستعمِر والمستعمَر]. فتدميرُ العالم الاستعماريّ لا يعني شيئًا سوى هدم قطاع المستعمِر، أو دفنِه في عمق الأرض، أو اجتثاثِه منها كلّيًّا."[14]

 


[1] Partha Chatterjee, “Empires, Nations, Peoples: The Imperial Prerogative and Colonial Exception,” In Thesis Eleven 2017, Vol. 139 (1), 84 - 96

[2] Partha Chatterjee, The Black Hole of Empire: History of Global Practice of Power (NJ: Princeton University Press, 2012)

[3]Ibid, p 185 – 221

[4] يذكر ماركس وأنغلز في الأيديولوجيا الألمانيّة أنّ "الأفكار السائدة في كلّ حقبة هي أفكار الطبقة السائدة."

[5] Franz Fanon, The Wretched of the Earth (NY: Grove Press, 2004), p. 48

[6] Ibid, p. 96

[7] Ibid, p.149

[9] Immanuel Wallerstein. “The Ideological Tensions of Capitalism: Universalism versus Racism and Sexism. and Etienne Balibar and Immanuel Wallerstein, Race, Nation, Class: Ambiguous Identities (NY: Verso 1993), p. 29 -36

[14] The Wretched of the Earth, p. 6