احتلّت الموسيقى مكانةً كبيرةً في حياة ساكِنة الصحراء، ووجدوا فيها طاقةً روحيّةً نادرةً لمقاومة قساوة العيش. وهي تشكّل، بالإضافة إلى فنونٍ أخرى، ذاكرةً جمعويّة للشعوب الصحراويّة عامّة، وللشعب الموريتانيّ بخاصّة.
تتميّز الموسيقى الموريتانيّة التقليديّة بكونها مزيجًا من ثلاث ثقافاتٍ مختلفة هي: الإفريقيّة، والصنهاجيّة، والعربيّة. ويظهر ذلك في التسمية: فبعضُ الباحثين يطلق عليها "آزوان،" وهي عبارة صنهاجيّة؛ ويسمّيها البعضُ الآخر "موسيقى التدينيت" نسبةً إلى إحدى آلاتها التقليديّة؛ لكنْ تبقى تسميتُها "الموسيقى الحسّانيّة" ــ نسبةً إلى قبائل بني حسّان التي استقرّت في المنطقة منذ زمن بعيد ــ هي الأكثر انتشارًا. هذا بالإضافة إلى اختلاف جنس العازف تبعًا إلى اختلاف الآلة الموسيقيّة التقليديّة.
تتميّز الموسيقى الحسّانيّة كذلك بأنّها منقولةٌ شفهيًّا عن طريق فئةٍ اجتماعيّة تسمّى "إيكاون" ــ وهم أسرٌ فنّيّةٌ متخصّصة في الموسيقى الحسّانية التقليديّة وآلاتها، باستثناء الطبل الذي تشترك فيه معها مجموعتان من شريحة "الحراطين،"(1) هما المدّاحة(2) والجبابه.(3) كما تنفرد هاتان المجموعتان بآلةٍ تقليديّة تُعرف بـ"النيفاره،" وتتميّزان بتحرّرهما غالبًا من مقامات الموسيقى الحسّانيّة.
تختلف المدارس الفنيّة لإيكاون بحسب منطقة السكن. وصاحبَ ذلك التموقعَ الجغرافيَّ تموقعٌ سياسيّ واجتماعيّ مهمّ جدًّا في المنظومة الاجتماعيّة التقليديّة، إذ شكّلتْ منذ بداية ميلادها دورًا تكميليًّا للمشهد السلطويّ القديم؛ فكان الأمراءُ في الإمارات القبليّة قبل قرونٍ يستعينون بها في شتّى أمورهم السياسيّة، إمّا مفاخرةً أو عرضًا للقوّة أمام أعدائهم الخارجييّن. وهذا ما يفسّر أنّ لكلّ أمير من هؤلاء حاشيتَه الفنيّةَ الخاصّة التي تُطْربه وتمدحه وتُظْهر مميِّزاتِه القياديّةَ والدينيّةَ والنسَبيّة. ويبدو واضحًا أنّ الدور الذي كانت تؤدّيه إيكاون أعطاها قيمةً كبرى داخل ميزان القوى، مازالت تأثيراته قائمةً حتّى الآن.
آلاتٌ تقليديّة في أحضان أُسَر فنّيّة عريقة
للموسيقى الحسّانية ثلاثُ آلاتٍ تقليديّةٍ خاصّةٍ بها، تُصنعُ كلّها يدويًّا من الشجر عن طريق مجموعةٍ متخصّصةٍ من شريحة الصنّاع التقليديين المعروفة بـ "لمعلمين."وهذه الآلات هي:
1- التدنيت، وهي خاصّةٌ بالرجال، ومصنوعة من خشب شجرة الآدرس، الذي يُنحت حتّى يصبح أبيضَ اللون، ويُوضع عليه غطاءٌ من جلد البقر أو الغنم أو الإبل. وللتدنيت أربعةُ أوتار، غالبًا ما تكون من شعر الخيل أو أمعاء الغنم.
2- الآردين، وهي خاصّةٌ بالنساء، وتُصنع على شكل الطبل التقليديّ، لكنْ بحجم صغير، ويُزخرف بألوان كثيرة، ويُربط فيه ثلاثة عشر وترًا من شعر الخيل، تشدُّ بعودٍ أُخرج منه إلى الأعلى. وكلُّ وتر مربوط بالقدح والعود، يُشدّ عن طريق قطعة نحاسيّة تشبه المفتاح، مغروسةٍ بالعود. وتعرف الآردين أيضًا بـ"جامع آنكاره،"(4) وهي لفظة تشير إلى أنّ آردين تستطيع الانتقالَ بين المقامات بشكل حرّ، على عكس التدينيت التي تنتقل بين المقامات وفق شروطٍ محدّدةٍ مسبّقًا.
3- الطبل ذو الأصول الإفريقيّة، وهو عبارة عن خشب كبير من شجرة الطلح، مجوَّف ومغطًّى بجلد البقر. ويُعتبر الطبل الآلةَ التقليديّة الوحيدة التي تُستخدم في أمورٍ لا علاقة لها بالموسيقى، كإعلان الحرب والاجتماعات القبليّة الطارئة. كما يُعتبر رمزًا من رموز القبيلة؛ وأعظمُ إهانةٍ يمكن أن تتعرّض لها قبيلةٌ هو أن يؤسر طبلُها في معركة.
كلّ هذه الآلات التقليديّة، باستثناء الطبل، ذاتُ مكانة واحدة داخل خيمة إحدى الأُسَر الفنّيّة العريقة، التي هي وجهةُ الجميع ليلًا بعد الانتهاء من المهامّ الصحراويّة اليوميّة الشاقّة، وذلك لحضور سهرةٍ موسيقيّة. على أنّ اختلاف مواقع هذه الأُسر شكّل تنوّعًا وثراءً في الموسيقى الحسّانيّة التقليديّة المتوارَثة بطريقة التلقين. وتتميّز كلّ أسرةٍ بموهبةٍ خاصّةٍ تتوارثها، مثل موهبة الصوت، وموهبة "اتشوعير،" وهي حالةٌ من الحضور العالي تسكن الفنّان/الفنّانة لحظة أداء نحيّة(5) أو شور(6) أو مدحة.(7) وتكون هذه الحالة عادةً بتحريك الفنّان كتفيْه، ويدُه على أذنه، فيما اليدُ الأخرى مرفوعةٌ إلى الأعلى وكأنّه في تذاهنٍ مع السماء؛ أمّا بالنسبة إلى الفنّانة فتكون هذه الحالة بمداعبة آردين على فخذيها بطريقةٍ ساحرة.
بعض هذه الأُسر ذاع صيتُه خارج الوطن، كحال أسرة أهل آبه ــ أسرةِ الفنّانة الكبيرة ديمي منت آبه ــ وأسرة أهل الميداح، وهما أسرتان جمعتا بين الفنّ التقليديّ والعمل الثقافيّ عن طريق جيلٍ من أبرز كوادر الثقافة في البلد. وهناك أسرةُ أهل همد فال ــ أسرةُ الفنّان الكبير السيمالي ولد همد فال، الذي ساهم بشكل كبير في التعريف بالموسيقى الموريتانيّة. كما ساهمتْ أسرتا أهل بوب جدو، وأهل أعمر تشيت، في التعريف بتراث موريتانيا الموسيقيّ في مهرجانات عدّة في بغداد وباريس. ولا ننسى فرقة أهل النانه، التي قامت بثورة على الموسيقى الموريتانيّة التقليديّة؛ إذ تأبّطت ابنتُها الفنّانة حورية الجيتارَ، وأدّت الفرقةُ بعضَ الأغاني على شكل فيديوكليبات، قبل أن تصبح الأمور تقليدًا في ما بعد.
تُعتبر الكلمة السلاحَ الرسميّ لطبقة إيكاون، التي بها تعلن الحربَ أو السلامَ، مع أنّها دائمًا في حالةٍ من السلام، كما يقول سدوم ولد انجرتو ــ الأبُ المخضرمُ للشعر الحسّانيّ والعزف على التيدنيت ــ في مقطوعة شهيرة له من الشعر الحسّانيّ.(8) في هذه المقطوعة اللهجيّة يقول الشاعر إنّ سلاح الألسنة ملْكٌ لفئة إيكاون، ورثتْه من الأوائل، لكنّ "البيظان" ضلّلهم تمسُّكُ إيكاون بالسلام حتّى ظنّوا أنّها لا تستطيع الدفاعَ عن نفسها. ويؤكّدُ الشاعر أنّ ألسنةَ إيكاون تفرض احترامَها على الآخرين، لكنْ إذا أراد هؤلاء مجافاةَ إيكاون، فإنّ الأخيرة مستعدّةٌ لذلك.
مقامات
لا يتوقّف تميّزُ الموسيقى الموريتانيّة التقليديّة على الآلات الموسيقيّة التقليديّة الفريدة، بل ظهر كذلك في طُرقها ومقاماتها الموسيقيّة البديعة. وهذه الطرق ثلاث: الطريق الكحله أو "أجانبه الكله،" والطريق البيظه أو "أجانبه البيظه،" ثم طريق "لكنيديَ." وكلّ واحدةٍ مستقلّة عن الأخرى، وتتضمّن خمسة مقامات: كرّ، ثم فاقو، ولحكال، ولبياظ، والبتيتْ.
لكلّ من هذه المقامات تسمية خاصّة به في كلٍّ من الطرق الثلاث. ولكلّ مقامٍ "أكحال" و"أبياظ" خاصّان به. وتتميّز الطريق الكحله بكونها أغنى الجوانب الثلاثة بالأشوار والأوزان، إذ يحوي "كرْ" (يسمّى فيها "انتماسْ") على أكثر من ستّ وثلاثين مقطوعةً موسيقيّة، ما بين شور ووزن تقليديّ له قصّة يحكيها الفنّانُ عادةً قبل الشروع في أدائه. أمّا فاقو (يُسمّى فيها "تنجوكه") فيحتوي على قرابة عشرين شورًا، ما بين الأشوار الكحل والبيظ. أمّا مقام "لحكالْ" (يُسمّى فيها "سييمت هيبَ") فيحتوي على اثنيْ عشر شورًا تقريبًا، متوسّطًا بين مقام لبياظ (يُسمّى فيها "مقجوكه") المحتوي على ثمانية عشر شورًا، ثمّ مقام لبتيت (يسمّى "بيكي عظال") الذي يحتوي على أحد عشر شورًا فقط.
وتأتي الطريق البيظه في المرتبة الثانية بعد الطريق الكحله من حيث عدد الأشوار، إذ تحتوي على ثلاثةٍ وأربعين شورًا موزّعة على خمسة عشر شورًا تقريبًا في مقام "كرْ"(يُسمّى فيها "مك موسَ") وثلاثة عشر شورًا في مقام "فاقو"(يُسمّى فيها أيضًا "أسروزي") وسبعة أشوار في مقام لكحال (يُسمّى فيها "انيامَ") وأربعة أشوار في مقام "لبياظ"(يُسمّى فيها "جينه") وأربعة أشوار كذلك في مقام لبتيت (معروف فيها باسم "لعتيك"). أمّا الطريق لكنيديّة فتسمّى كذلك بـ "العاكرْ،" أي العاقر لشبه انعدام الأشوار فيها، ويُسمّى فيها مقام كرْ:"انوفلْ،" ومقام فاقو: "اشبارْ،" ومقام لكحال: "المُوسطي،" ومقام لبياظ: "منجلْ،" ومقام لبتيت: "بيكي المخالفْ."
يُشير الباحث باب أحمد ولد البكاي، في كتاب جامع التراث الشعبيّ* إلى أنّ طريق لكنيديّة معروفة أكثر في منطقة الحوض في الشرق الموريتانيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ جلسة آزوان التقليديّة، التي تحييها إحدى الأُسر الفنيّة أو أحدُ أفرادها، تشهد دائمًا مشاركةً من أدباء الشعر الحسّاني. وأحيانًا كثيرة يكون الأديب الحسّانيّ من خارج الوسط الفنّيّ؛ إذ يُعتبر التعمّقُ في معرفة آزوان وحكاية الشعر الحسّاني من الصفات المطلوبة في الفتى الصحراويّ المثاليّ. لذلك، فإنّ السهرات الفنّيّة تكون دائمًا بمثابة اختبارٍ وتحدٍّ بين الفتيان، تحت إشراف الفنّان المنعش للسهرة الذي يطلب منهم "حوصْ الشور"؛ وتعني هذه العبارة أنّ الفتى يقول اسمَ "الشور" وشاهده لحظة عزف الفنّان/الفنّانة له بطريقةٍ سريعة، لينتقل التحدّي بعد ذلك إلى المشاركة بـ"كيفانٍ" في "الشور" المُغنّى.(9)
الصراع، والتجديد، والأصالة في أفق التكنولوجيا
تعيش الموسيقى الموريتانيّة التقليديّة الآن مرحلةً صعبة. ويعود ذلك إلى عدّة عوامل، منها تراجعُ مستوى الذائقة العامّة لهذا الأسلوب الموسيقيّ التقليديّ، خصوصًا بين الفئة الشبابيّة، التي تتفاعل أكثر مع موسيقى الآلات الحديثة كالجيتار والبيانو. وهذا الأمر جعل بعضَ الفنّانين المندرجين في الوسط الفنيّ التقليديّ يرضخ للضغط، ويقوم بإنتاج أغانٍ جديدة. بل قد يقومون بأداء أغانٍ قديمة بطريقةٍ حديثة تتّسم عادةً بالسرعة، عكس الحالة التي تكون عليها الأشوارُ التقليديّة.
كما تشهدُ الساحة الفنّيّة، منذ سنواتٍ، ظهورَ فنّانين من خارج الوسط الفنيّ التقليديّ، تتمسّكُ بجوانب من التراث الموسيقيّ. ويُعدّ الفنّان محمد محمود ولد أميليد، والفنّانة النانة بنت الشيخ أحمد،(10) من أبرز النماذج على تلك الحال، لكونهما يتقنان أداءَ الأغاني القديمة بطريقتها الكلاسيكيّة. يضاف إليهما العازف ولد أعلي؛(11) فهو من خارج الوسط الفنّيّ من جهة، وهو يعزفُ على آلة الآردين الخاصّة بالنساء من جهةٍ أخرى.
ويُؤمل اليومَ أن يساهم ظهورُ هذه الأصوات الفنّيّة المختلفة في الحفاظ على جوانب مهمّة من تراث موريتانيا الموسيقيّ، وفي عودةِ الأُسر الفنّيّة العريقة إلى الاهتمام بالطرق التي حافظتْ بها على الموسيقى الموريتانيّة التقليديّة، خصوصًا أنّ الأصوات التي ظهرتْ مؤخّرًا شكّلتْ منافسةً قويّةً في الساحة الفنّيّة المشتّتة بفعل التكنولوجيا. وهذه الأخيرة تطرح، بدورها، تحدّيًا جوهريًّا حول مصير المقامات الموسيقيّة التقليديّة، في ظل وجود "بطاقات الذاكرة" التي يتمّ التنقّلُ فيها بين الأغاني المخزّنة بشكلٍ حرٍّ لا يتناسب دائمًا مع المقامات المنضبطة، على عكس حالة أشرطة الكاسيت الخالدة في أذهان المستمعين القدماء.
نواكشوط
هوامش
1- لحراطين: إحدى الشرائح المكوِّنة للمجتمع الموريتانيّ. ويقال في موريتانيا إنّ أصل التسمية بتفكيك العبارة هو الأحرار الطارئين، أيْ مجموعة المستعبدين سابقًا. وتشترك شريحة لحراطين مع شريحة البيظان في اللهجة الحسّانيّة، ومع شريحة الزنوج في اللون.
2- المداحة: مجموعة من لحراطين مختصّة بأسلوب غنائيّ خاصّ بذكر مناقب النبيّ محمد.
3- الجبابه: مجموعة أخرى من شريحة لحراطين متخصّصة في أسلوب غنائيّ تصاحبه رقصاتٌ شعبيّة ولعبٌ بالعصيّ.
4- هو كل آلة موسيقيّة تتيح للفنّان التنقّلَ بين الجوانب والمقامات من دون أن يكون في الأمر نشاز.
5- النحية: بيت من الشعر العربيّ الفصيح، يُخضع للقواعد الخاصة بإيقاع الموسيقى الحسّانيّة، ويغنّيه الفنّانُ عادةً في بداية دخوله إلى المقام الموسيقيّ.
6- الشور: في الثقافة الحسّانيّة هو بمثابة الأغنية. وهو إيقاع منظّم، له نصّ من الأدب الحسّانيّ يميّزه.
7- المدحة : هي الأغنية الخاصة بذكر مناقب الرسول والصحابة.
*مكتبة الملك فهد، ط 2، 2007، ص 222.
8- وهذه المقطوعة هي:
سلاحْ اللسن كان أنّ // أورثناه من أوايلنَ
وتمعلمن وتهدن // إلين خلعن كاع اسهاوْ
البيظان وشكو عن // ندفرو والل نجهجاو
كولو للكوم أل تتمن // لكطاع أنحن نسثناو
والناس المعلوم وأنّ // لسنتن كانو يوتقاو
وأل اشبه حد أيعود أفخير // امعان وأشبه نتخواو
والله أيلعاد أل يختير // نجفاو ألا نجفاو
9- https://www.youtube.com/watch?v=-v4LfIyAPVw
10- https://www.youtube.com/watch?v=mGGYfUNFoyw أو: https://www.youtube.com/watch?v=nzKIllrYf1w
11- https://www.youtube.com/watch?v=GO4-bq0sZYU