كنت أشعر منذ الصباح أنّ أمرًا خطيرًا سيحدث. وأخيرًا سمعتُه يقول لزوجته: هل تسمحين بذلك حقّا؟
فأشارت برأسها موافقة، ولكنّ دموعها انهمرت بغزارة. فأسرع إلى السيّارة قبل أن يتأثّر ببكائها ويتراجع عن القرار الذي توصّل إليه بصعوبة.
انطلقت السيّارة إلى حيث لا أدري، ولم أرَ البنات الصغيرات. كيف أخرجُ هكذا بسرعة من دون أن أراهُنّ وأسلّم عليهنّ، لطالما لعبنا وتسلّينا معا، كيف سأتحمّل هذا الفراق؟
وصلنا إلى مكان موحش، لا بيوت فيه. كان الصمت ثقيلًا عندما فُتح الباب، فنزلتُ مكرَهة، ووقفتُ في وسط الطريق أنظر إلى ذلك الجالس أمام المقود. لمحني في المرآة العاكسة، فلاحظ وقوفي في مكاني بلا حراك... تبادلنا النظرات، وقبل أن ينطلق هاربا، تناول منديلًا ورقيّا ليمسح الدمعة التي قاومها من دون جدوى. وابتعدت السيّارة واختفت تمامًا.
لم أصدّق ما حدث. تمنّيتُ أن يتراجع عن قراره، فــلست قادرة على العيش هنا في هذا المكان المخيف بعيدًا عن البيت، وعن صغيراتي.
***
بعد انتظار طويل، يئستُ من عودته. ولكنْ، حدّثني قلبي أنّه ظلّ حزينًا، عاجزا عن تحمّل تأنيب الضمير، ونسيان النظرة التي أرسلتها إليه. كانت نظرة عتاب وتوسّل. وفي لحظة ندمٍ فاضت عيناه. كأنّي أسمعه يقول لزوجته: لا أصدّق أنّني فعلت ذلك، سأعود للبحث عنها...
ـــــــ "أصبح الظلام كثيفا، ولكنّ أضواء السيّارة ستساعدنا في العثور عليها، سنجدها." قال مطمْئنًا، بينما استمرّت زوجته في توبيخ نفسها وهي تردّد: "ألهذا الحدّ يكون الإنسان قاسيًا وخائنًا... لقد تسرّعنا."
ـــــــ ولكنّك كنتِ موافقة.
ــــــــ لقد خفتُ على الصغيرات بعد أن انتشرت البقع الحمراء في جسمي...
***
سمعتُ ضجيج السيّارة يقترب من المكان. وبعد لحظات أحسستُ بهدوء مخيف. لقد وصلا. انفتح باب واحد، وارتفع صوتها العذب الحنون يناديني. إنّه صوتها، أميّزه بسهولة من بين مئات الأصوات، ولكنّه يرتعد الآن خوفًا من مكروه قد يكون أصابني... هل تغيّر رأيها؟ لا، لا أصدّق، فلعلّ الصوت قادم من ذكريات ذلك اليوم السعيد الذي جمعني بها.
***
كنتُ يومها أمشي بخطوات متثاقلة لا أدري إلى أين ستحملني. لم أكن أستطيع النظر، فعيناي مغمضتان، وضجيج الشارع يحاصرني من كلّ الجهات. كنت أشعر في كلّ لحظة أنّ شيئا عملاقًا سيدهسني. هاجمني رعب مثل كابوس، وأحسست أنّ نهايتي اقتربت، رغم أنّي لم أكن أعرف متى وكيف كانت بدايتي.
تغيّر مصيري في تلك اللحظة، حين شعرت أنّي أرتفع إلى فوق. لم تعد أقدامي تلامس الأرض. وبسرعة عجيبة اطمأنّ قلبي، وأحسستُ أنّي وصلتُ إلى مكان دافئ. وبدأ الضجيج الذي كان يخيفني يبتعد شيئًا فشيئًا. ثمّ أحاطت بي أصوات متداخلة تحمل أسئلة حائرة قلقة. كانت أصواتًا عذبة رقيقة. وكان الجميع يتساءل: "كيف سنقنعه؟ هل سيقبل"؟
فتجيب الأمّ: "سنحاول إقناعه، سنجد حلًّا هذه المرّة."
وينفتح الباب، فيضطرب الجميع من جديد وتعود الأسئلة ملحّة، فقد وصل الأب. كان من الواضح أنّه رجل غليظ الطباع، بل شرّير. دخل ومعه ضجيج الشارع الكبير الذي يخيفني، فأسرعت البنت الصغرى إليه وهي تقول بسعادة: "لدينا مفاجأة، لدينا مفاجأة..."
نظر مرتابًا إلى زوجته. وقبل أن يعاتبها، ابتسمت له تلك الابتسامة التي تلجأ إليها لتحقيق طلب صعب. وقالت بتوسّل: "هذه المرّة ستوافقُ من أجل ابنتك، انظر كم هي سعيدة."
هكذا سُمح لي بالبقاء. وأحبّني الجميع وأحببتهم إلى أن مرضتْ سيّدتي، وظهرت على جسمها بقع غريبة، فحامت شكوكهم حولي، وقرّروا التخلّص منّي.
***
طال انتظاره. فنقر على منبّه السيارة يائسًا. واصلت سيّدتي بحثها. اقتربت من شجرة كبيرة وهي تنادي بشوق وإلحاح، فخرجتُ من مخبئي، وقفزتُ إليها أعانقها. لم تصدّق عينيها، احتضنتني وهي تردّد: "وجدتُها وجدتها، قطّتي، عزيزتي"!
تونس