أجرى موقع بوّابة الهدف، بشخص الرفيق خالد بركات، مقابلة صغيرة مع رئيس تحرير مجلة الآداب، اليوم (9 تمّوز 2018)، نعيد نشرها هنا.[1]
***
الهدف: هناك حنين متزايد إلى غسان كنفاني في أوساط المثقفين الفلسطينيين من الشباب والأجيال الفلسطينية الجديدة. هذا الحنين يعلو مع ذكرى استشهاد غسان في كلّ عام، وتجري استعادةٌ سريعةٌ لمقولاته الفكريّة والسياسيّة ومواقفه على مواقع التواصل الاجتماعيّ، لكنْ من دون استعادة حقيقيّة لمشروعه الثقافيّ النقديّ. فهل يبدو المشهد مثل زفرة ثورية؟ أيظلّ الأمر موسميًّا وعابرًا؟
إدريس: إذا لم يترافق الحنينُ مع عمل ثوريّ تغييريّ فعليّ، فإنه يتحول إلى قوّة رجعيّة. وهذا تمامًا ما تشجّعه الفئاتُ الرجعيّةُ الحاكمة من جهة، و"اليسارُ" المتقاعسُ عن مهامّه الثوريّة من جهةٍ أخرى. غسّان ليس للأيْقنة، ولا للمتْحفة، ولا للموسميّة، ولا للمناسباتيّة. لا نريد أن يتحوّل غسّان (ولا ناجي ولا باسل ولا وديع ولا "الحكيم"...) إلى محض "رمز،" إنْ كان الرمزُ يعني وضعَه في متحفٍ كي يتفرّج عليه السيّاحُ والمحبَطون والمستشرِقون و"نقّادُ" الأدب الجالسون في أبراجهم.
قوّةُ غسان هي في مزجه بين الثقافة والعمل الحزبيّ الثوريّ، من دون أن يكون أحدُهما على حساب الآخر. كم مثقّفًا عربيًّا أفلح في هذا المزج، يا صديقي؟ كم ناطقًا رسميًّا باسم أيّ حزب عربيّ استطاع أن يكون، في الوقت نفسه، "ناطقًا" بارزًا باسم الإبداع الروائيّ؟
كلّما حلّت ذكرى غسان نرى الأطرافَ العربية تتناتشُه: هذا يشدّه صوب "الأدب"، وذاك صوب السياسة أو الحزب، وثالث صوب "فلسطين" المجرَّدة من أيّ مسعًى إلى تدمير الأنساق التقليديّة التي تَحْكم ثورتَنا. قلّةٌ منّا حاولتْ أن تؤكّد أنّ غسان لم يبق حيًّا إلّا لأنّه كان استثنائيًّا في اجتراح تلك الخلطة السحريّة الخلّابة بين السياسة والثقافة، بين الحزب والفنّ، بين العمل المباشر والإيحاء.
وأحسبُ أنّ مشروع غسان ثوريٌّ هنا بالضبط: أنّه لم يَحْصر "الثورةَ" بمتطلّبات العمل السياسيّ، بل ربطها بالفنّ والحلم والمستحيل. هذا ما ينبغي أن نُحْييه كلَّ سنة، بل كلَّ يوم، بدلًا من أن نحوِّلَ 8 تمّوز إلى مناسبة للملل والتكرار واجترار المدائح والمراثي.
الهدف: يبدو وكأنّ زمن الرواية والقصة القصيرة ــ بل زمنَ الثورة بمعناها الشامل ــ توقّف مع استشهاد هذا المثقف الثوريّ الاستثنائيّ، أليس كذلك ؟ هل مَن يقتلهم العدوُّ الصهيونيّ يَصعب تعويضُهم إلى الأبد؟ أليس هذا ما عناه غسان كنفاني نفسه بقوله "ليس في وسع أحد أن يملأ مكانَ أحد"؟
إدريس: في السؤال مبالغة يا عزيزي. لا زمنَ يتوقّف، لا في الأدب ولا في الثورة ولا في أيّ أمر. أهناك أزمة في الأدب؟ نعم. في الثورة؟ بالطبع. هناك أزمة في كلّ شيء، بما في ذلك في سؤالك التعميميّ الكاسح وجوابي المتلعثم الغائم. لكنْ أوافقك الرأيَ أنّ شخصًا كغسّان يصعب تعويضُه، بل يستحيل تعويضُه. وقل الأمرَ عينَه بالنسبة إلى أشخاص كوديع و"الحكيم" وناجي. لكنْ لن نقول إنّ أرضَنا ولّادة؛ ففي هذا القول استكانةٌ إلى "أسطورة" الأرض الدائمةِ الخصوبة. بل نقول إنّ علينا أن نسعى إلى استيلاد "غسّانين" جدد كي يسدّوا هذا الفراغَ التافهَ الذي يغلّف حياتَنا السياسيّة والحزبيّة والثقافيّة.
سهل جدًّا أن نرثي عظماءنا ونبكيَهم. لكنّ الأجدى أن نعمل على غرس البذور الصالحة لنموّ عظماءَ آخرين يُكملون مسيرتَهم. كيف نغرس هذه البذور؟ ليست في الأمر وصفةٌ سحريّة. أنا أغرسها في مجلتي ودارِ نشري. أنتَ تغرسها في حزبك. وغيرُنا يغرسُها في صفّه. هذا هو معنى التجديد في رأيي. طبعًا نستطيع أن نتفلسفَ حتى الصباح حول معنى "التجديد" و"التثوير،" ثم لا نفعل شيئًا. التجديد والتثوير يبدأان من المكان الذي نحن فيه! وكلّما أفلحنا في فتح ثغرة جديدة في الجدار، اقتربْنا من إسقاطه. في وضعنا البائس، على مختلف الصعد، لا مجالَ لـ"ثورةٍ" لا تبقي ولا تذَر، ولا مجالَ لضربةٍ قاضيةٍ كما في حلبات الملاكمة، بل المجال ــــ كلّ المجال ــــ لأفعالٍ وطنيّة تتراكم لتُحْدثَ تغييراتٍ تدريجيّةً منشودة.
الهدف: نشأت علاقة أدبية وشخصية بين غسان كنفاني وبين أسرة دار الآداب ومجلة الاداب في بيروت، خاصة الراحل الكبير د. سهيل ادريس. هل تعطينا بعض ملامح هذه العلاقة او ما تبقى من صور في الذاكرة؟ كيف بدأت؟ ماذا تتذكر منها؟
إدريس: للأسف كنت في الحادية عشرة حين استُشهد غسان. ما أذكره ليس أمرًا فريدًا أو استثنائيًّا أو دالًّا على شيء كبير: فقد جاء ذاتَ يوم إلى منزلنا في محيط "جامعة بيروت العربيّة،" فاستقبلناه عند الباب. حملني وقبّلني، ثم رماني في الهواء، قبل أن يلتقطَني. وهذا كلّ ما أذكره. ولمحلِّلي النفس وحدهم أن يربطوا بين تلك الحادثة الطفليّة، والتزامي الأبديّ بغسان!
أمّا علاقة غسّان بأبي سهيل فكانت وثيقةً على صعيد التعامل الأدبيّ والنشريّ. فقد نشرتْ مجلة الآداب إحدى قصصه الأولى، "شمس جديدة،" في العدد الخامس من سنة 1957. وقتها، كان غسان ما يزال في الكويت. في هذه القصة تحضر الكويتُ وكاليفورنيا وغزّة، لتَحسم النهايةُ المقارنةَ لصالح العودة إلى غزّة المكافحة. وفي الستينيّات نشر غسان في مجلة الآداب عددًا من المقالات، أحدُها عن ديوان لسلمى الخضرا الجيوسي، والآخر عن رواية ليلى عسيران، والثالث بعنوان "الشخصيّة اليهوديّة في الرواية الصهيونيّة المعاصرة،" والرابع بعنوان "أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة،" والخامس بعنوان "الغطرسة والعنصريّة في الرواية الصهيونيّة،" وهكذا. وما لبث أن أصدر عن دار الآداب كتابَه المهمّ، أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، الذي كان أوّلَ من عرّف الوطنَ العربيّ بشعراء فلسطين المحتلّة.
كان أبي يتحّدث كثيرًا عن غسان، الأديب المناضل المثال الشهيد، فامتلأ بيتُنا بحبّه. وما إن عدتُ من نيويورك منهيًا دراستي في جامعة كولومبيا حتى أصدرتُ عددًا كاملًا عن غسان، وأتبعتُه في السنوات اللاحقة بملفّاتٍ أخرى. وبين هذه الملفّات نشرتْ دارُ الآداب كتابًا بعنوان فارس فارس، من تقديم صديقي الراحل محمد دكروب، وقد جمعتُ فيه (بالاتفاق مع "مولانا" محمد وفاروق غندور) عشراتِ المقالات التي كان ينشرها غسان باسمه المستعار، ويغلب عليها الطابعُ الساخر.
[1] https://bit.ly/2uc9YDq