في طريقه إلى محطّة القطار شاهد مركزًا عموميّا للإنترنت، فراودته فكرة. دخل سريعًا، وجلس أمام حاسوبٍ بعيدٍ عن بقيّة الموجودين. فتح محرّكَ البحث، وكتب الكلمات: "رؤية الميّت في المنام." ثمّ نقر على زرّ البحث.
"يا إلهي، النتائج بالآلاف،" قال مستغربًا. تجنّب الدخولَ في مواقع الدردشة، واختار موقعًا بدا له متخصّصًا في تفسير الأحلام. أخذ يقرأ: "فإنْ رأى الميّت كأنّه عانقه معانقةَ مودّةٍ، طال عمرُه... فإنْ رأى كأنّه أخذ بيده، فإنّه يقع في يده مالٌ من وجهٍ ميؤوسٍ منه... فإنْ رأى كأنّه عانقه معانقةَ ملازمةٍ أو منازعةٍ، فلا تُحمد رؤياه..."
أقفل الصفحة. دفع الأجرة، ثمّ خرج على عجل متوجّهًا إلى القطار، وفي قلبه رهبةٌ غريبة. ليس في تفسير رؤياه ما يطمئنه. أراد أن يتثبّت من التفاصيل، فتذكّرها من دون مشقّة:
كان قد سمع طرقًا خفيفًا على بابه، وعندما فتحه وجد ابنَ خالته واقفًا مبتسمًا. استغرب من تلك الزيارة المفاجئة وقال: "عبد الكريم! ما الذي جاء بك؟" نظر إليه عبد الكريم والابتسامةُ لا تغادر وجهه، ثمّ عانقه طويلًا وهو يقول: "كنتُ متأكّدًا من أنّي سأجدك هنا." بعد ذلك رأى أنّه يتوجّه إلى بيتٍ يعرفه، ولمح خالتَه من بعيد وكأنّها تشير إليه بالدخول.
***
في الصباح، ظلّ ذلك الحلمُ عالقًا في رأسه، وصورةُ عبد الكريم الذي توفّي منذ سنتين لا تغادر مخيّلتَه. انزعج كثيرًا، وشعر بالرغبة في رؤية خالته على الفور، فقرّر على عجل أن يسافر إليها. تعيش خالتُه في ضواحي العاصمة، وبيتُها ليس بعيدًا عن محطّة القطار. سيجالسها ساعة، يستمع إلى حديثها المعهود وهي تشكو الوحدةَ وهمومَ الدنيا وغلاءَ الأسعار. ستسعدها المفاجأة حتمًا، ولعلّها ستغفر له ذنبًا قديمًا: فقد تخلّف عن جنازة عبد الكريم، ابنِها الوحيدِ الذي توفّي بعد وعكة صحّيّة مفاجئة؛ كما أنّه لم يحضرْ جنازة زوجها الذي سبق أن رقد في المستشفى شهرًا كاملًا من دون أن يزوره.
***
أخذ مكانَه في عربة الدرجة الأولى، ثمّ فكّر في النزول ليقتني بعضَ الجرائد، ولكنّ الأبواب أُغلقتْ. وفي الساعة المحدّدة، دوّت صافرةٌ مرعبة، وانطلقتْ عرباتُ القطار تطوي الأحياءَ والأسواقَ والشجر. كان ينظر من النافذة المحاذية وكأنّه يشاهد التلفزيون المسطّح في بيته؛ كانت الصور تمرّ أمامه بسرعة، تخترقُها بين الحين والآخر صورةُ عبد الكريم مبتسمًا. اختلطت عليه الذكرياتُ والأفكارُ والأصواتُ والمشاهد حتّى شعر فجأةً أنّه لا يرى شيئًا، ولا يسمع ضجيجَ القاطرة وأزيزَ العجلات فوق السكّة. أغمض عينيه، واستسلم لنومٍ عميق.
حين أفاق، وجد نفسه وحيدًا. تساءل، هل نزل المسافرون؟ أين أنا؟ نظر من النافذة فلم يتبيّن شيئًا. كان الظلام كثيفًا مرعبًا. "هذه ليست العاصمة،" قال يخاطب نفسَه، "أين الأضواء والصخب والحركة؟"
تبلّل جسدُه من أعلى رأسه إلى قدميه بعرق بارد. نظر حوله مرّةً أخرى، فلم يجد أحدًا يسأله. وقبل أن ينهض للنزول من العربة، لمح رجلًا يقترب منه، فصاح من هول المفاجأة:
ـــ من؟ عبد الكريم!
جمد في مكانه برهةً، ثمّ قال متسائلًا بحيرة:
ـــ أنت من جديد؟
ابتسم ابنُ خالته كعادته. عانقه طويلًا وهو يقول:
ـــ كنتُ متأكّدًا أنّي سأجدكَ هنا. لقد تأخّر القطارُ قليلًا ولكنْ، حمدًا لله، لقد وصلتَ في النهاية.
تونس