كان الشيخ سبهان يفتخر، بين أصحابه العرب والأجانب، بأنّه يمتلك أكبرَ تمساحٍ في العالم في مزرعته الأشهر، في الشرق الأوسط، بين مزارع التماسيح التي انتشرتْ بكثرة في دول المنطقة.
ذلك أنّ جلود التماسيح أصبحتْ من أكثر الجلود استخدامًا في الآونة الأخيرة، وبخاصّةٍ في صناعة المعاطفِ والقبّعاتِ وأكفانِ المشاهير؛ إذ سادت، في السنواتِ العشرِ الماضية، قناعاتٌ جديدةٌ لدى سكّان المنطقةِ والعالم.
ومردُّ هذه القناعات يعود إلى تراتيل محفورة على لوحٍ فخّاريّ اكتُشف تحت كثيبٍ من الرمل، في قريةٍ نائية بين رمالِ شبهِ الجزيرة العربيّة، في مطلع الألفيّة الثالثة. هناك، اكتشفت الفرقةُ الهولنديّةُ للتنقيب عن الآثار أطلالَ حضارةٍ تعود إلى حقبةٍ مجهولة ما قبل التاريخ. وحدثَ أن تمّ الإعلانُ عن الكنز الذي سيغيّر ملامحَ الحضارة الراهنة: إنّها تراتيلُ الحكمة المحفورة على اللوح الفخّاريّ. وقد استغرق حلُّ لغز اللغة التي نُقشتْ فيها هذه التراتيل سبعَ سنوات من العمل المتواصل.
***
هنّ سبعٌ وعشرون حكمةً، ستغيّر طريقة الحياة بسرعةٍ مذهلة.
فالحكمة الخامسة تقول: "الأجيال القادمة ستعيش في مجاهيل الانحطاط لأنّها ستتورّط بالمنطق."
هذه النبوءة قادت بعضَ الأدباء إلى الانتحار. وقادت الفيزيائيَّ الألمانيّ الشهير فيلهم آيزنهاور إلى الجنون، إذ قررّ أن يُمضي بقيّة حياته عاريًا في الغابات. كما قادت بعضَ العلماء الشباب إلى إنجازاتٍ مذهلةٍ في مجال الرياضيّات والفيزياء الحديثة. وبدا القلق واضحًا في تصريحات علماء كلاسيكيين، ورثةِ مدرسةِ فرانكفورت، من أنّ طروحات فيرنر هيزنبرغ ونيلز بور في فيزياءِ الكمّ هي الحدُّ الأقصى للمنطق؛ "ولو أنّنا في زمنٍ سابقٍ لهاجمناها، إلّا أنّها تُعتبر الحلّ المنطقيّ الأخير والوحيد لمواجهةِ جحيمِ ما يطرحه الطلّابُ الجدد." كما أوصوْا بأنّ على علماء العالم إعلانَ تحذيرٍ واسعٍ وعالميٍّ بأنّ العالم حقًّا في خطر.
***
أمّا الحكمة السابعة فتقول: "جلودُ التماسيح تمتصُّ الذاكرةَ بعدَ وهم الموت، فتنهضُ الحياة من جديد."
وبسرعة البرق، أصبح الطلبُ على جلود التماسيح مذهلًا. صارت تغطّي أرضيّاتِ بعض البيوت الأرستقراطيّة، والأسرّةَ، ويلبسها الرجالُ المتوسّطو الحالِ أحزمةً على خصورهم.
أمّا الفقراء، فكان جلّ طموحهم قطعة واحدة لكلّ عائلةٍ، تعلّقها على الجدار، وتمسح بها جلودَ الأموات في العائلة قبل دفنهم، أملًا أن يصبحَ جسدُ الميّت نقيًّا من الذاكرة. لكنّهم كانوا يدركون، في أعماقِهم، أنّ هذه القطعة الصغيرة لا تكفي لامتصاص صديدِ ذاكرتهم، فيبتسمونَ بأسًى، وأحيانًا يغنُّون.
***
دخل سبهانُ من باب مزرعته الخارجيّ، فاستيقظ الحارسُ الصينيّ مرعوبًا من هدير سيّارته، وهرول لفتح البوّابة.
على حافّة البركة الواسعة، جلس سبهان مفكّرًا. لم يُلقِ بالًا لتحذيرات الحارس بعدم الاقتراب من البركة من دون ذراع الحماية؛ فقد كان مشغولًا بحقائقَ جديدةٍ ومدهشة بدأتْ تتوضّح أمامه كالنبوءات.
كان يدخلُ في متاهات ذاته، يعبرُ من سردابٍ إلى آخر بخفّة. وبدتْ لهُ بحيرةُ التماسيح مكانًا مقدّسًا. تنهّد بعمقٍ لم يعرف مثلَه في حياته السالفة. وبدأتْ ملامحُ سؤالٍ تتشكّل أمام عينيه. بذل جهدًا لاستجلاء الأحرف والكلمات. كان يكتشف مجاهيل الضوء بمتعةٍ فريدة.
وبسرعة البرق، نهض من أعماق البحيرة أكبرُ تمساحٍ في العالم، وابتلع سبهان بحركةٍ واحدة. كان سبهان لا يزال مشغولًا بحلقات الضوء التي تنبثق في أعماقه. فتح عينيه للحظةٍ، وهو في جوف التمساح، واستطاع أن يلتقط الصورة الأخيرة للعالم، قبل أن تسحبَه أمعاءُ التمساح إلى المعدة الساحقة.
كان العالمُ سادرًا قُبيل الفجر. هجسَ سبهان في سرّهِ، للمرّة الأخيرة، بعد أن تشكّلت الأحرفُ والكلمات بوضوحٍ أمام عينيه؛ ثمّةَ ما يستحقُّ الحياةَ في هذا العالم: إنّها اللغة.
***
تَعقيب 1: تتالت الأنباء. هي أنباءٌ متفرّقة، تعبرُ كخبرٍ عاجلٍ وسريع في ذاك الركام المرعب من الأخبار، الذي وصفه طفلٌ من موزامبيق ضمن مسابقةٍ عالميّةٍ لأفضل نصٍّ قصيرٍ في العالم:
"كلَّ عامٍ ننتجُ كوكبًا جديدًا من النفايات المقدّسة؛ من الكلمات والصور والأصوات، ونرميه في الفضاء. قريبًا ستزدحمُ المجرّةُ بالأكاذيب."
فأنباءُ انتحار بعض الكتّاب والشعراء، مثلًا، كانت تفسَّر عبر إحداثيّاتٍ معاصرة: كفجيعة الشاعرِ الأكوادوريّ الشابّ، في العام المنصرم، بحبيبته التي عشقتْ وعلًا في غابات الأمازون، وهجرتْه إلى الأبد، فانتحر.
إلّا أنّ بعضَ العقول المشرقة استطاعت متابعةَ ظاهرة اللوح الفخّاريّ المكتشَف. فقد كشف الباحثُ الإسبانيّ، فريدريكو سالومي، عن رسالةٍ كانت قد وجّهتْها الشاعرةُ الإغريقية سافو إلى عشيقتها ووصيفتها الأقربِ إلى قلبها. وثمّة تقاطعٌ مذهلٌ بين بعض فقرات الرسالة والحِكَمِ الثامنة، والسابعة عشرة، والعشرين. وذهب الباحثُ في الاستنتاج إلى مناطق خطرة، حين أعلن أنّ الزمن إرادةٌ مقلوبة وعاهرة، وأنّ الوعيَ البشريّ اقتطاعٌ تعسّفيّ أفقيّ من حالة الوعي العظيم، المتحرِّرِ من زمنِ الإرادة البشريّة.
كان إعلانُ العالم الإيطاليّ عن اكتشافه قد سبق اختفاءَ الشيخ سبهان في أمعاء تمساحِه بثلاث سنوات. حينها، كانت تجارةُ جلود التماسيح قد اكتسحت العالمَ، وأصبحتْ تحقّق فائضًا في الميزان التجاريّ لبعض الدول، وبخاصّةٍ المصنِّعة للأدوات والملابس والقطع النفيسة من الجلود؛ حتى نشأتْ رغبةٌ مجنونةٌ لدى بعض المراهقين في العالم في زراعةِ جلد التمساح بدلَ الجلد البشريّ. وفشلتْ بعضُ التجارب التي أُجريت على متبرّعين من إفريقيا وآسيا، وبقاعٍ أُخرى من العالم. إلّا أنّ فريق البحث الطبيّ والكيميائيّ، في المعهد الوطنيّ للتنمية في كندا، أعلنَ مؤخّرًا عن إمكانيّة ذلك وفق تقنيّة تفكيك الصيغة الوراثيّة في الخليّة، وإعادة توليفِها وفقَ ميكانيزم خليّة التمساح. وفسّرَ بعضُ المؤرّخين الجددِ هذا التصريحَ بأنّه الفاتحة التي ستكشفُ أمام الإنسان، للمرّةِ الأولى، فكرةَ الخلود، وتُجسّدُها على هذا الكوكب.
قرأ سبهان استنتاجات الباحث الإيطاليّ عن الزمن برعب، شأن الكثير من أصحاب المزارع ووكلاء الشركاتِ المصنّعة في الغرب. وقرأ كذلك رسالة سافو إلى وصيفتها، والحِكَم الثلاثَ الأشدّ غموضًا وبعثًا على الحيرة في اللوح الفخّاريِّ. وقع في شركِ القلق، الذي لم ينقذه من براثنه إلّا خبرٌ عاجلٌ عن مقتل العالم الإيطاليّ في روما على أيدي متطرّفين، والعثورِ في مكتبه على ورقةٍ مطويّةٍ كان قد كتب عليها عبارتَه الأخيرة قبل مغادرته مكانَ عمله:
"لا يمكنُ العقلَ البشريَّ أن يحيا وسط هذا الركام القذرِ من الفلزاتِ والكلمات والأصوات. إنّ ذلك يشبهُ أن يعيش رجلٌ ما وسط برازِه، منذ ولادته، وحتّى كهولته."
وعلّقتْ إحدى الفتيات الروسيّاتِ، عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، على خبر مقتل العالمِ الإيطاليِّ بما يلي: "عالمٌ إيطاليٌّ كبيرٌ يقع ضحيّةَ طفل من موزامبيق!"
***
تعقيب 2: لقد أصبح ما سلف من الماضي؛ أفلستْ شركاتُ الاستثمار في الجلود في السنوات الأخيرة، وانهارت كأحجار الدومينو. وصرّح آخرُ الخاسرين، وهو بروفيسور في طبّ الأعصاب والمشرف الطبّيّ على مسلخ التماسيح الأكبر في العالم، وكان يردّ ساخرًا على مذيعٍ شاب متحمّس سأله عن كارثة انهيار هذه الصناعة، فقال:
"وهل يزرع المواطنُ جلدَه"؟!
ويقال إنّ المقطع المحذوف من المقابلة كان حين التفتَ البروفيسور ليواجه الكاميرا، فبدا محجراه فارغيْن.
سوريا