بيوض زرقاء سماويّة
15-10-2015

كان جابر يفكّر في أوضاع البلاد، وهو يجلس وحيدًا في المضافة الحجريّة الواسعة، ظهيرةَ الثالث من حزيران، بينما جلستْ أمُّه العجوز على الدرج الحجريّ الملاصق للحائط تنظر نحو الوعور بعينيْن مزمومتيْن: إنّها ملامحُ الجحيم؛ انعكاسُ الظهيرة على ظهور الصخور الجاثمة والعنيدة.

ما زال جابر يتذكّر أيّام طفولته البعيدة، حين عثر مع بعض الصِّبْية على صخرةٍ جاثمةٍ وقد التحمتْ فيها عظامُ أسلافِ أسلافه.

كان يجلس وحيدًا متأمّلًا هذا البياضَ المصفِّر للهواء وقد احترقَ وتبخّر واستحال لهبًا شفّافًا، يرقص صاعدًا إلى هاوية الكون والقبّة الزرقاء السماويّة. وسترافقه تلك الذكرى بصفاءٍ حتّى موته، سترافقه تلك اللحظةُ البعيدةُ التي وجد فيها بين صخور الشطوب القريبة من البيوت بيوضًا صغيرةً ومشعّةً بنقاءٍ ساحر. بدتِ الكراتُ المتناثرة شفّافة، وتشعُّ بلونٍ أزرقَ سماويّ. شعر في تلك اللحظة من طفولته البعيدة بأنّه حرّ للمرّة الأولى، لكنّه يذكر أيضًا الجرحَ العميقَ الذي أحدثته سخريةُ والده ورجال القرية من خياله ـــــــ خيال الولد المعتوه. فقرّر، منذ ذلك الحين، أنّ الأشياء ستبدو دائمًا كما نرسمها بالكلمات.

سيكون العار، الذي سيتجنّبه على الدوام، في أن يفكّر يومًا أن يرى الأشياء كما هي!

ذلك المساء، يتذكّر أنّ روحه عرفت العارَ للمرّة الأولى. كان يبكي بصمتٍ، ويصرخ مقرّعًا ذاته:

ـــ إنّها بيوضُ حشراتٍ قذرة، وليست كراتٍ زرقاء سماويّة مشعّة!

لكنّه، في لحظات وحدته وصفاء ذاته، يدرك أنّ الصورة التي حفظَتْها الذاكرةُ، تلك اللحظةَ، لن يمحوَها سوى الموت.

كان بيتُ أبي جابر في القرية القديمة المهجورة إلّا من بعض المسنّين الذين نسوا عدَّ الأيام، فجلسوا على المصاطب منتظرين، برضا، قافلةَ الموتى ليلتحقوا بها.

تنهّدتْ أمّ جابر، وهمستْ:

ـــ بعد سبعة أيّام سنباشر الحصاد...

الندى سيعقب هذا الجحيم.

فكّر جابر في المحصول؛ سيكون محصولًا ثمينًا في هذه الظروف. لكنّه يخشى اللصوصَ الذين يتسلّلون ليلًا إلى الأراضي المزروعة ليسرقوا العدسَ والحمّصَ والقمحَ والشعير، ثم يعودون إلى بيوتهم القذرة ليستخرجوا الحبوبَ، وهم يطلقون أنفاسًا لاهثةً بمتعةٍ وضيعة.

استوى في جلسته، وبدأ صوتُه الداخليّ يردّدُ مبادئَ الحزب العظيمةَ، التي تؤكّد أنّ الثورة قامت أولًا ضدّ اللصوص، لصوصِ الأوطان!

بعد خمسة أيّام، هجستْ أمّ جابر بكلماتٍ كان ينتظرها بصبرٍ. قالت كمن يزفُّ خبرًا ثمينًا:

ـــ بكرا ندى.

الندى أيضًا يأخذ مخيّلتَه إلى تلك البيوض الزرقاء السماويّة. نهض من مكانه، وتوجّه نحو الباحة الخلفيّة للدار، متفقّدًا ثيابَ الحصاد.

عند الفجر، كان يخبّ بنشاط، وحيدًا نحو أرضه. حدّق طويلًا في أرجائها، متفحّصًا سنابلَ القمح وشتلات العدس والحمّص. غمره لونُ الفجر غبطةً وسرّيّة: أزرقُ سماويٌّ غامق، كأنّه يشعّ عن بيوض زرقاء سماويّة!

مسح الأرض بناظريْه: لقد زرع هذه السنة بذارَ عشرين مُدًّا من الأرض. لا بدّ من أنّ اللصوص يفكّرون في نهشِ ما تيسّر لهم منها. تحسّس مسدّسَه في الحزام، ثم انحنى نحو الأرض وبدأ في اقتلاع السنابل بهمّةٍ عالية.

مال لونُ الفجر إلى الأصفر، فانشغل في التفكير في ضوء الصباح الباهت، يفكّر في الحمقى الذين يغنّون لِنور الصباح. وفجأةً، تغيّر العالم. وقف أمام المواجهة المؤجّلة من زمن طويل. وقف مصعوقًا أمام اللصوص. هالَته رؤيتُهم وهم يأخذون محصوله حبّةً حبّة... وبأعداد هائلة! كانوا يسيرون في خطّ متعرّج وطويل، إلى مكانٍ مجهول. كلُّ نملةٍ تحمل في فكّها حبّةً من القمح. كان لا بدّ من التصرّف السريع. حمل معولًا ومشى خلف اللصوص متعقّبًا أثرَهم. وحين وصل إلى وكرهم الذي بدا مسرحًا لآلافٍ منها، محمّلين بحبّات محصوله الثمين، هوى عليه بمعولِه، بكلّ ما فيه من ثوريّة ومبادئ عظيمة تعلّمها في حزبه العظيم. وحين أصبح الوكر حفرةً تتشظّى فيها أقنية الوكر ومحصول صغير من الحبوب، جلس لاهثًا، متشفّيًّا، يراقب كلّ هذا الخراب. نظر إلى أسفل الوكر بدهشة: فبيْن ذرّات التراب في العمق، ظَهرَتْ، مرّة أخرى. إنّها البيوض الزرقاء السماويّة!

أحسّ لوهلةٍ بأنّ شيئًا أشرق في صدره. كزَّ على أسنانه وصرخ بصوتٍ حاسم ـــــ تمامًا كما فعل قبل خمسين عامًا: "هذه بيوضُ حشراتٍ لعينة ولا بدّ من حرقها!"

أسرع إلى الدار، وعاد يحمل تنكة الكاز. سكب الكاز في حفرة الوكر، فوق البيوض والممرّات المحطّمة. هاجت النملات بأعداد هائلة محاولةً استجلاء مكانها. أشعل عودَ ثقابٍ، ورماه في الحفرة. وفي دقائق، كانتِ النار تلتهم النملَ والحبوبَ الصغيرة. ولكنّه لم ينتبه إلى النار التي شبّت بين سنابل القمح الجافّة؛ فقد كان منتشيًا بنصره على اللصوص، أعداءِ الثورة والشعب.

ومع نشوته المتعاظمة، انتقلَتِ النار إلى أراضٍ محيطة، وراحت تلتهم محاصيلَ الأهالي بسرعةٍ مع هبوب ريح مواتية. في تلك اللحظة، كان يقف منتصبًا وهو يسمع "مارشًا" عسكريًّا يتذكّره جيّدًا، ويتذكّر الفخرَ والاعتزازَ اللذيْن كانا يستبيحان جسدَه حين يسمع مارشات مماثلة فيسير وفقًا لإيقاعها.

نظر نحو الأفق كقائدٍ عظيمٍ:

حتى لو أكلتِ النارُ قمحَ العالم برمّته، فلن أسمي بيوضَ الحشرات اللعينة تلك بيوضًا زرقاءَ سماويّة. لن أقع في الفخّ مرّةً أخرى.

موفّق مسعود

قاصّ ومسرحي وسيناريست سوريّ، ولد سنة 1967.

من أعماله المنشورة: الغريق السومري (مجموعة قصصيّة 2002)، غوايات البهاء وكأس سقراط الأخيرة (مسرحيّتان 2008)، الرجل الدائريّ (مسرحيّة 2008)، وله العديد من الإسهامات المسرحيّة تأليفًا وإخراجًا.