أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.
أثار البطريركُ المارونيّ بشارة الراعي مؤخّرًا موضوعًا جدليًّا بطرحه مسألةَ "حياد لبنان." فقد جاءت دعوتُه في وقتٍ يَشهد فيه المشرقُ العربيّ صراعًا دوليًّا كبيرًا بين كتلتيْن: أطلسيّة بقيادة الولايات المتحدة وعضويّةِ أوروبا الغربيّة وتركيا، وأوراسيّة بقيادة الصين وروسيا وإيران؛ وفي وقتٍ تمارِس فيه الولاياتُ المتحدة ضغوطًا على لبنان لنزع سلاح المقاومة، الذي يشكِّل تهديدًا لـ"إسرائيل،" بحجّة تحييدِ لبنان عن الصراعات الإقليميّة والدوليّة. والمعلوم أنّ المشروع الأميركيّ للمنطقة يستهدف إعادةَ رسم جغرافيّتها السياسيّة، بما لا يدع لبنانَ في منأًى عن المصير نفسه. وهذا ما يتناقض مع دعوة "الحياديّين" نفسِها، ويجعل من دعوة البطريرك انحيازًا للمحور الأميركيّ ضدّ المحور الآخر.
يمهِّد ما سبق لطرح الأسئلة الآتية: هل الحياد ممكنٌ في لبنان، الواقعِ في منطقةٍ ملتهبة، والمعرَّضِ - شأنَ المنطقة بأسْرها - للمشاريع التقسيميّةِ الغربيّة؟ وهل البطريرك الراعي، بشخصه وبما يمثّله، كان حياديًّا في الموقف الذي اتّخذه؟ وهل الكنيسة المارونيّة عبر تاريخِها الطويل كانت حياديّةً، أمْ منحازةً إلى القوى الغربيّة، أقلّه منذ القرن الثامن عشر؟
لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، نورد مثالًا من القرن الثامن عشر، وتحديدًا من العاميْن 1736-1737. المثال مرتبط بانعقاد المَجْمع الكنسيّ المارونيّ في اللويْزة لإجراء إصلاحاتٍ كان قد طالب بها بابا روما لمنع "الشوائب التي تشوب طقوسَ الكنيسة المارونيّة." هذه الإصلاحاتُ تَدخّل فيها، وبشكلٍ سافرٍ على ما سنرى، قنصلُ فرنسا في صيدا، السيّد مارتين، للضغط على البطريرك المارونيّ آنذاك، يوسف ضرغام الخازن، من أجل القبول بكلّ مطالب الموفد البابويّ، المونسنيور السمعاني؛ وهي مطالبُ كان يعارضها رجالُ الدين والرهبانُ الموارنة. وفي هذا الإطار سأورد ثلاثَ رسائل أبرق بها مارتين إلى موريبا، وزيرِ خارجيّةِ بلاده فرنسا، يُعْلمه فيها بتفاصيل ما قام به لتسهيل مهمّة السمعاني، ذاكرًا الضغوطَ التي مارسها على البطريرك الخازن، وعلى ابنِ أخيه الشيخ نوفل الخازن، قنصلِ فرنسا في بيروت.
ظروف انعقاد مجمع اللويزة
يُعتبر مجْمعُ اللويزة (1736) من أهمّ المجامع الكنسيّة الحاسمة في تاريخ الكنيسة المارونية.[1]فهو قد أجرى إصلاحاتٍ جذريّةً على العقيدة اللاهوتيّة والطقوس الكنسيّة، بما يتماهى كلّيًّا مع الطقوس اللاتينيّة الغربيّة، متخلّيًا بذلك عن التقاليد اللاهوتيّة التي درج عليها الموارنةُ قرونًا طويلةً، وهذا بخلاف الروم الكاثوليك الذين ارتضوا الاعترافَ بسلطة البابا عليهم لكنّهم تمسّكوا بطقوسهم الشرقيّة.
شارك في المجْمع البطريرك والمطارنةُ والكهنوتُ والرهبانُ الموارنة، إضافةً إلى مندوبين عن الإرساليّات الفرنسيّة والإيطاليّة في الشرق والكنائس الكاثوليكيّة الشرقية.[2] ويقال إنّ عقْدَ المجمع في دير سيّدة اللويزة كان لأسبابٍ عدّة، أهمُّها: بُعدُه عن والي طرابلس؛ ووقوعُه في منطقةٍ ذات غالبيّةٍ مسيحيّة؛ وبُعدُه عن سلطة آل الخازن -- ما يدلِّل على أنّ البطريرك الخازن وأفرادَ أسرته، الذين كانت لهم دالةٌ كبيرةٌ على الكنيسة، كانوا يعارضون الإصلاحات التي طالب بها البابا.
رافقتْ عقْدَ هذا المجمع مشاكلُ عديدةٌ، أبرزُها تعيينُ البابا كليمنت الثاني عشر للقاصد الرسوليّ يوسف السمعاني رئيسًا للمجمع، وكان ذلك ضمن "براءةٍ رسوليّةٍ" في تشرين الثاني 1735.[3]ويبدو أنّ قرارَ التعيين هذا كان نتيجةً لِما اعتبره البابا مماطلةً من قِبل البطريرك الخازن في عقد المجْمع الذي كان يُفترض أن يُقِرّ إصلاحاتٍ "لنزع الشوائب من الممارسات الدينيّة للموارنة."[4]
الجدير ذكرُه أنّ السمعاني وُلد في حصرون سنة 1687، ودرس في الكلّيّة المارونيّة في روما، وعمل في مكتبة الفاتيكان، وكان إسهامُه كبيرًا في جمع المخطوطات الشرقيّة وتصنيفِها وتلخيصِها. عُيّن لفترةٍ مطرانًا على صور. من أهمّ مؤلَّفاته: المكتبة الشرقيّة الكليمانيّة الفاتنكانيّة (4 مجلّدات، تشمل تاريخَ السريان بفروعهم الثلاثة، الكلدان واليعاقبة والنساطرة).[5]
أعمالُ المجْمع
افتُتحتْ أعمالُ المجْمع في 30/9/1736 بحضور البطريرك المارونيّ، ومشايخِ وجهاءِ الموارنة، وأربعةٍ من أساقفة الطوائف الشرقيّة، والرئيسيْن العامّيْن للرهبان اللبنانيّين ورهبان مار أشعيا، وعشرة مندوبين عن المرسلين اللاتينيّين، إضافةً إلى جمهورٍ كبيرٍ من رجال الدين والرهبان. إلّا أنّ أعماله توقّفتْ بعد يوميْن نتيجةً للمعارضة الشديدة التي أبداها رجالُ الدين الموارنة تجاه الإصلاحات التي طالب بها المونسنيور السمعاني نيابةً عن البابا.[6]
هنا طلب السمعاني من القنصل الفرنسيّ في صيدا، السيّد مارتين، التدخّلَ لممارسة ضغوطٍ على البطريرك للرضوخ لإملاءات البابا. وبعد تدخّل مارتين، رضخ البطريرك، وانعقد المجْمعُ مرّةً أخرى بعد أسابيعَ قليلة، وأقرَّ كاملَ الإصلاحات المطلوبة.
ارتبطتْ هذه الإصلاحاتُ بالإيمان الكاثوليكيّ، ودورِ القساوسة والأساقفة والمدارسِ والكنائسِ والأديرة، والدستورِ العامّ للموارنة، ومسألة توزيع الميرون، وولايةِ البطاركة والمطارنة. وقد اعترف المجْمعُ بالمجامع الكنسيّة التي سبقتْه، وحدّد صلاحيّاتِ البطريرك وعلاقتَه بالكرسيّ البابويّ والأساقفةِ والرهبان، وأقرّ إدخالَ اسم "البابا" في القدّاس، وحصَر الزواجَ بالرُّتَب الكهنوتيّة الدنيا.[7]كذلك أقرّ إنشاءَ أبرشيّاتٍ ليُقيم فيها الأساقفةُ كي يكونوا قريبين من الرعيّة، وحَرَمَ سكنَ الرهبانِ والراهبات في ديرٍ واحد. وأقرّ التعليمَ المجّانيَّ في الأديرة. وقد أُقرّتْ أعمالُ المجْمع في العام 1741 من قبل البابا بنديكتوس الرابع عشر.[8]
الكونت دو موريبا (Comte de Maurepas)
رسائلُ قنصل فرنسا إلى وزير خارجيّته
لم يكن لهذا المجْمع أن يتوصّلَ إلى هذه النتيجة لولا تدخّلُ القنصل مارتين بطلبٍ من المونسنيور السمعاني كما ذكرنا. ويشرح مارتين تفاصيلَ ما قام به لتسهيل أعمالِ المؤتمر وما تلاها في ثلاث رسائل تُظْهر جليًّا النفوذَ والسلطةَ اللذيْن كانا لفرنسا على البطريرك المارونيّ وابنِ أخيه قنصلِ بيروت، ومدى التدخّل الذي مارسه مارتين في إدارة أعمال المؤتمر، ناهيك باللهجة الآمرة التي كان يستخدمها مع البطريرك وقنصلِ بيروت -- وهما الأعلى شأنًا في الطائفة المارونيّة.
في ما يأتي الرسالةُ الأولى التي يشرح فيها مارتين لوزير خارجيّته ما قام به لدفع البطريرك إلى القبول بمطالب السمعاني. أما الرسالتان التاليتان فيَشرح فيهما ما فعله لمعالجة الخلافات التي نجمتْ عن المؤتمر. والرسائلُ الثلاث موجودةٌ في مجلّدات الوثائق القنصليّة التي جمعها المؤرِّخ عادل إسماعيل، وقد قمتُ بترجمتها إلى العربيّة.
***
نص ّالرسالة الأولى من السيّد مارتين، قنصل فرنسا في صيدا، إلى القنصل الكونت دو موريبا، وزيرِ الخارجيّة الفرنسيّة
صيدا في 15 تشرين الأوّل 1736
سيّدي،
منذ نحو ثلاثة أشهر وصل إلى هنا رجلُ دينٍ موفدًا من البابا لعقد مجْمعٍ لرجال الكهنوت الموارنة لإلغاء بعض النقاط من طقوسهم. هذا المبعوث البابويّ حمل رسالةَ توصيةٍ من دوق سانت أنيان، وقد صيغت بعباراتٍ قويّةٍ وحاسمةٍ لتوفير كامل الخدمات اللازمة له.
لم أدّخرْ جهدًا للتأكيد للقاصد الرسوليّ ما يترتّب عليّ في هذه التوصية. لكنْ، لأنّه من هذه البلاد ويعرف مقاصدَها أكثرَ منّي، فقد طلب منّي الاكتفاءَ باستخدام السلطات التي منحني إيّاها الملكُ [الفرنسيّ]، في حال ظهور انقساماتٍ في المجْمع الذي سيَعْقده.
هذا القاصد وصل بعد أيّام عدّة إلى حضرة البطريرك المارونيّ [يوسف ضرغام الخازن 1733-1742] وقدّم إليه مراسيمَ الكرسيّ الرسوليّ، طالبًا منه أيضًا عقدَ مجمعٍ لكهنته. في البداية نُفِّذ الأمر. لكنْ خلال الجلسة الأولى، حصلت اعتراضاتٌ قويّةٌ، دفعتْ بكلّ كاهنٍ إلى العودة إلى داره. ولمّا كان هذا القاصدُ يلقى تأييدَ بعض الكهنة، فلقد جرى تنبيهُه إلى أنّ البطريرك، الذي كان يُضمر الضغينةَ لأنّ الكرسيّ الرسوليّ لم يتوجَّهْ إليه لترؤّس الجلسة، قد تولّى إحداثَ انشقاقٍ عبر الشيخ نوفل الخازن، وهو قنصلُ بيروت وابنُ أخيه في الوقت ذاته.
وعندما تأكّد القاصدُ الرسوليّ من الأمر، استعجل بإرسال بريده إليّ لإعلامي بأنّه لم يكن يتوقّع من شخصٍ مرتبطٍ بفرنسا، مثل الشيخ نوفل الخازن، أن يكونَ أداةً لإحداث الشرخ في المجْمع، الذي أمر الحَبرُ الأعظمُ بعقده في هذه البلاد من أجل نشر الإيمان الكاثوليكيّ. كما أعلمني أيضًا بأنْ لا شخصَ سواي يمكن أن يعالجَ الوضع.
لذا لم أجد بديلًا من الكتابة إلى الشيخ نوفل الخازن. وقد لجأتُ إلى استخدام العبارات الأقسى، موجِّهًا إليه اللومَ، قائلًا إنّ من المعيب أن يكون متَّهَمًا بإحداث شرخٍ في السينودس الذي عُقد بناءً على أوامر الكرسيّ الرسوليّ. وقلتُ إنّ عليه ألّا ينْكرَ أنّ كلَّ ما يصدر عن ديوان روما مرتبطٌ بجلالة الملك [الفرنسيّ] شخصيًّا، وإنّ عليه إدراكَ أنه إذا كرّر هذه الفعلة التي يمكن أن تؤدّي إلى أقلّ الصعوبات، فسألومه وحده، وسأبلغ سيادتَكم [بذلك] في أقرب فرصة.
أرسلتُ نسخةً من هذه الرسالة سرًّا إلى المونسنيور السمعاني، القاصدِ الرسوليّ الذي عيّنه البابا، مع الرجاء بإخفائها في حوزته بعد قراءتها.
البطريرك يوسف ضرغام الخازن
عندما وصلت الرسالةُ إلى يد الشيخ نوفل، أبرق إلى البطريرك والكهنة من محازبيه لائمًا إيّاهم على توريطِه في هذه المسألة التي سبّبتْ له من دون شكّ حزنًا عميقًا. والبطريرك، الذي كان يخشى على مصير ابن أخيه، كتب إليّ رسالةً مطوّلة، يشرح لي فيها مآخذَه على الكرسيّ الرسوليّ، من دون أن ينسى التأكيدَ أنّ ابنَ أخيه لم تكن له يدٌ في الانقسامات التي حدثتْ في السينودس. وأرفق ذلك بكمٍّ كبيرٍ من الأسباب التي أرى من غير الفائدة إطلاعَ عظمتكم على محتواها.
وقد رددتُ عليه بجوابٍ بسيطٍ قائلًا له إنّه لم يكن من اختصاصي النظرُ في ما يعتقده أسبابًا دفعتْه إلى السير في الطريق الذي سلكه للاعتراض على مراسيم الكرسيّ الرسوليّ. وقلت إنّه كان الأجدى به عدم دعوة كهنته إلى الاجتماع بعد أن قرّر رفضَ مقترحات القاصد الرسوليّ، لأنّ ما قام به يُلْحق بالدين ضررًا كبيرًا، خصوصًا في مثل هذه البلاد التي يسيطر عليها الهراطقة.
أمّا الشيخ نوفل الخازن، فإنّني أعرف كيف أتصرّفُ معه حيال ما قام به. وإذا لم تتغيّر وجهةُ الأمور، فلا يمكنني تحميلُ المسؤولية إلّا إيّاه وحده. كما أنّني طلبتُ إليه [أيْ إلى البطريرك] إنهاءَ هذه المسألة بالتي هي أحسن، بما يُرضي طلباتِ البابا منه ومن كهنته. وقلت له إنّه إذا كان لديه ما يؤرِّقُه، ففي وسعه أن يقدِّمه إلى الكرسيّ الرسوليّ، لكنْ عليه أوّلًا الخضوعُ لإرادة الكرسيّ الرسوليّ. ثمّ عدتُ وكتبتُ إلى الشيخ نوفل الخازن المضمونَ ذاتَه تقريبًا. وأرسلتُ الرسالتيْن [رسالتي إلى البطريرك ورسالتي إلى الشيخ نوفل] إلى المونسنيور السمعاني، كي يعرف ما جرى.
ما إن تلقّى البطريرك رسالتي حتى أبرق إلى الموفد الرسوليّ يفيده بأنّه سيعقد مجْمعًا جديدًا لكهنته. وقد امتطى الشيخ نوفل وإخوتُه أحصنتَهم وتوجّهوا بأنفسهم إلى الكهنة. في النهاية، سيّدي، عاود السينودس الانعقادَ في أقلّ من ثمانية أيّام، وكانوا صوتًا واحدًا في الموافقة على الانضمام إلى ما كان يطلبه الكرسيُّ الرسوليّ!
يجب عليّ القولُ أيضًا، سيّدي، إنّ هناك مرسومًا من الكرسيّ الرسوليّ في أن يشاركَ مندوبان عن كلّ جماعةِ تبشيرٍ في السينودس، وأن يُبْدي المندوبون موافقتَهم على مضمونه. إلّا أنّنا نشتبهُ في أنّ إحدى جماعات التبشير كانت وراء تأجيج الانقسام خلال المجْمع الأوّل. ولأنْ لا دليلَ قاطعًا [لدينا] على ذلك، فإنّني أجدُ من غير المفيد شرحَ المزيد في هذا الخصوص.
التوقيع: مارتين[9]
***
نصّالرسالة الثانية من السيّد مارتين، قنصلِ فرنسا في صيدا، إلى الكونت دو موريبا، وزير خارجيّة فرنسا
صيدا 14 شباط 1737
سيّدي،
لي شرفُ إعلام عظمتكم مرّةً أخرى بالصعوبات التي وقعتْ خلال السينودس، الذي أراد البابا عقدَه في كسروان من أجل إلغاء بعض الممارسات السيّئة التي دخلتْ إلى الرهبان الموارنة، بل إلى صفوفِ الكهنة أيضًا. وبناءً على الإجراءات التي اتّخذتُها للتوفيق بين البطرك والكهنةِ المنقسمين فيما بينهم، فلقد أمكنني أن أعيدَ الأمورَ إلى نصابها وفقًا لما ابتغاه الكرسيُّ الرسوليّ. وقد انعقد السينودس للمرّة الثانية من دون وجودِ معوِّقات، وقبِل كلَّ ما طلبه البابا.
ولم يشأ المونسنيور السمعاني، الذي كان الكرسيُّ الرسوليُّ قد أرسله موفدًا، الرحيلَ من دون أن تُقدَّم تعهّداتٌ مكتوبةٌ وموقّعةٌ من قِبل البطرك والكهنة. إلّا أنّ هذا خلق مشكلاتٍ جديدةً، وأدّى إلى فوضى أكبرَ بكثيرٍ ممّا توقعناه. ذلك لأنّ البطرك نشر وثيقةً يَرفض فيها الاعترافَ بالمونسنيور السمعاني موفدًا من البابا لكون صفته انتهت بمجرّد انتهاء أعمال السينودس.
وكان هذا الموفد قد نشر حُرْمًا كنسيًّا في حقّ بعض الكهنة، ما جعلني أستنتج أنّه يذهب بعيدًا إلى حدٍّ ما. وفي الوقت الحاليّ، ولأنّه رأى أنّ هذه العمليّة لم تؤدِّ إلى نتيجةٍ كبيرة، فقد لجأ مرةً أخرى إليّ لكي أُفهمَ البطرك وكهنتَه أنّ مهمّتَهم يجب أن تستمرَّ إلى حين تلبية كلّ البنود المنصوص عليها في السينودس الأخير، التي يستند هو إليها.
هذا سيدفعني مرّةً أخرى إلى وضعٍ محرجٍ قد أجد أنني لا أستطيع التفلّتَ منه.
ولقد كتبت بنبرةٍ قاسيةٍ إلى البطرك والشيخ نوفل لدفعهما إلى إنهاء هذه المسألة. وإذا لم أتلقَّ جوابًا مناسبًا، فسألجأ إلى الأمير [الشهابي] ، الذي أعتقد أنه سيكتب إلى البطرك بطريقةٍ تجعله يرضى بالرضوخ إلى المطالب المحقّة للموفد البابويّ.
التوقيع: مارتين[10]
***
نصّ الرسالة الثالثة من السيّد مارتين، قنصلِ فرنسا في صيدا، إلى الكونت دو موريبا وزير خارجيّة فرنسا
صيدا 17 تمّوز 1737
سيّدي،
إنّ المشكلات بين البطرك المارونيّ والمونسنيور السمعاني لم تُحلَّ بعد. على العكس: المسائل وصلتْ إلى حدٍّ يجعلني أخشى من حصول تطوّراتٍ تدعو إلى الغضب. فالبطرك يسيِّره كاهنٌ ذو نوايا سيّئة تجاه المونسنيور السمعاني، هو المونسنيور يوحنّا طربيه، المترجِمُ الأوّل في طرابلس.
المونسنيور السمعاني كان قد رجا منّي قبل فترةٍ أن أرسلَ إليه المدعوَّ فونتور لمحاولة تهدئة النفوس. وفكّرتُ طوال يومين بإقالة هذا المترجم، لشعوري الدفين أنّه كان يُفسدُ الأمورَ بدلًا من إصلاحها. وهذا ما حدث فعلًا.
ولقد نصحتُه بقوّةٍ بأن يتنبّهَ إلى طريقة تصرّفاته، وأن لا يتدخّلَ إطلاقًا في المسائل الخلافيّة القائمة بين البطرك والمونسنيور السمعاني، بل أن يكتفي بأن يساعدَني في لعب دور الوسيط بينهما لاتخاذ إجراءاتٍ مناسبةٍ لوقف التجاذبات بينهما، التي كانت تُلْحق بالدين ضررًا كبيرًا. ولقد سلّمتُه رسالةً إلى الطرفيْن في هذا المضمون. لكنّ هذه المحاولات لم تفلحْ إلّا قليلًا، بما يؤجِّج الأمورَ.
البطرك ضمّ إلى صفّه مبشِّرًا كرمليًّا يعيش في طرابلس، وقد كتب عدّةَ كتاباتٍ تَمَكّن من جعل المونسنيور يوحنّا يوقّعُها وتزعم أنّهم كانوا يؤيّدونه.
المونسنيور يوسف السمعاني
السيّد فونتور أجاب بأنّه - وفقًا لما أشار عليه به المونسنيور السمعاني، وبعد كتاباتٍ تضمّنتْ جدلًا حول نقاطٍ لاهوتيّة وحول قراراتٍ لمجْمع ترينت - قد وصل إلى طريقٍ مسدودٍ، ملمِّحًا إلى مسؤوليّة قنصل طرابلس عن ذلك، ومُدْليًا بتصريحاتٍ غيرِ مدروسة ضدّ الكاهن الذي هو مستشارُ البطرك والنائبُ البطريركيّ الأول، الأمرُ الذي استفزّ الطرفيْن كليْهما.
ونحن نأخذ على هذا المترجِم أنّه طلب إلى أمير الدروز وضعَ حاميةٍ في إحدى الرهبنات الدينيّة. لكنّ هذا المترجمَ ينفي الواقعة.
ختامًا سيّدي، فإنّ الأمور وصلتْ إلى حدٍّ لا أجد فيه إمكانيّةَ التوفيق بين الأطراف المختلفة. وفي الوقت الذي حصلتْ فيه كلُّ هذه الأحداث، كنتُ في عكّا، ولم أدرِ بكلِّ ما جرى إلّا بعد عودتي. وقد كتبتُ في البداية إلى السيّد فونتور أطالبُه بالعودة. ونصحتُ المونسنيور السمعاني بعدم التصعيد، وبأن يصبر بعضَ الوقت حتى تهدأ النفوسُ، وأن ينتظر أوامرَ جديدةً من الكرسيّ الرسوليّ.
وأنا أؤكّد لكم، سيّدي، أنّ جميعَ هذه الأمور تسبِّب لي إحراجًا كبيرًا لأنّ الطرفيْن يُغْرقانني بالشكاوى.
المنونسنيور يوحنّا أوفدَ إليّ السيّد برو، مترجِمي الخاصَّ، حاملًا حزمةَ أوراقٍ كبيرةً تتضمّن المراسلاتِ بين أطراف النزاع. وقد أُرفقتْ بها مراقباتُ الأب الكرملي، التي "فبركها" من دون شكّ. وقد أجبتُه، عند بدء مطالعتي هذه الأوراقَ، بأنّها مليئةٌ بأمورٍ خارج صلاحيّاتي، وقد اتّخذتُ قرارًا بردِّها إليه وعدمِ المضيّ في مسعاه. وقلتُ إنّني أعتقد أنّه كان من الأفضل له ألّا يَدخلَ في هذه المشاجرات التي ليست من اختصاصه ولا اختصاصي على الأوراق، وقد يأسف عليها لاحقًا. ولمّا كنتُ أعرف أنّ المونسنيور السمعاني فاض به الكيلُ منه ومن السيّد طربيه، وأنّه أبلغ الكرسيَّ الرسوليَّ بأعمالهما، فلقد نصحتُه بالبقاء هنا حتّى لا يؤدّي إلى المزيد من تأجيج النفوس.
التوقيع: مارتين[11]
***
خلاصة
بالاستناد إلى ما ورد في رسائل القنصل إلى وزير خارجيّته، نجد أنّ القنصلَ، بصفته ممثِّلًا لفرنسا، كانت له دالةٌ كبيرةٌ على البطريرك حتى تَمَكّن من التدخّل وحملِه على قبول مطالب المونسنيور السمعاني. فالواضح أنّ البطريرك كان مدعومًا من قِبل الغالبيّة الساحقة من الكهنوت المارونيّ في مواجهة الموفد الرسوليّ، إلّا أنّه اضطرّ إلى القبول بمطالب القنصل لجهة إرضاء المونسنيور السمعاني.
كذلك نجد أنّ القنصلَ الفرنسيّ كان يتابع تفاصيلَ المشادّات التي طبعت انعقادَ المجْمع، وكان يتدخّل في كلّ مرّةٍ لتسيير الأمور في الوجهة التي تهمّ بلادَه وتُرضي الفاتيكانَ خصوصًا، علمًا أنّ فرنسا في ذلك الوقت كانت تُعتبر الدولةَ الكاثوليكيّةَ الأولى في العالم بعد تراجُع دور النمسا-المجر.
كذلك تبدو جليّةً لهجةُ القنصل مارتين "الحاسمة" في التعاطي مع البطريرك. بل نراه يتعاطى مع الأخير وكأنّه جزءٌ من "النفوذ" الفرنسيّ في بلادٍ "غير صديقة،" ولا سيّما عندما يُسِرّ إليه بأنّ أعمالَه تُضرّ بالدِّين "خصوصًا أنّنا في بلاد الهراطقة" (أي المسلمين أو غير الكاثوليك).
وبناءً عليه، نجد أنّ العلاقةَ بين الكنيسة المارونيّة وفرنسا في القرن الثامن عشر كانت علاقةَ موالاة؛ وهو ما ستَدْرج عليه لقرنيْن تالييْن. وحين ضمر دورُ فرنسا بعد الحرب العالميّة الثانية، وَثّق البطاركةُ والقادةُ الطائفيّون الموارنةُ علاقاتِهم بالبريطانيين، ثم بالأميركيين، وباتت تعتبرهم خلفاءَ فرنسا في "حماية" المسيحيين الكاثوليك، وموارنةِ الشرق ضمنًا.
ولمّا كان دورُ الكنيسة المارونيّة في بداية القرن العشرين حاسمًا في الدفع إلى إقامة دولة لبنان الكبير، فقد أدّت هذه الكنيسةُ (وعلى رأسها البطريرك إلياس الحويِّك آنذاك) دورًا أساسًا في فرض منطقِها على لبنان الكبير، وهو منطقُ الصيغة القائمة على أدوارٍ رئيسةٍ للكيانات الطائفيّة داخل الوطن الواحد. لذا وَجدت بقيّةُ الطوائف أنّها ملزَمةٌ بالانتظام في دوائرَ طائفيّةٍ لمحاكاة الكنيسة المارونيّة ذاتِ الدور الرياديّ في لبنان. وهذا ما دفع الى إقامة "إسلاميّة سياسيّة" في مواجهة المارونيّة السياسيّة. ومع الوقت تحوّلتْ هذه الإسلاميّةُ السياسيّة إلى سنّيّةٍ سياسيّةٍ، وشيعيّةٍ سياسيّةٍ، ودرزيّةٍ سياسيّة.
ولمّا كانت المارونيّةُ السياسيّة تستفيد من دعم القوى الغربيّة الكبرى، فقد بحثت الطوائفُ الأخرى عن قوًى إقليميّةٍ أو دوليّةٍ تدعمها: فوجدت السنّيّةُ السياسيّةُ دعمًا لها في العراق الهاشميّ، ثمّ في مصر الناصريّة، ثمّ في المملكة العربيّة السعوديّة. وفي موازاة ذلك وجدت الشيعيّةُ السياسيّةُ دعمًا لها في إيران الإسلاميّة. وهلمّجرًّا.
لذا فإنّ البطريرك عندما ينادي بـ"حياد لبنان،" فإنّه يخالف الصيغةَ التي قام عليها البلد، وهي صيغةٌ قائمةٌ على تحالف كلّ مجموعةٍ طائفيّةٍ مع قوّةٍ خارجيّة. كذلك فإنّ دعوتَه إلى الحياد هي دعوةٌ إلى الآخرين، وخصوصًا إلى الطائفة الشيعيّة، إلى فكِّ تحالفاتهم الإقليميّة، في الوقت الذي ترتبط فيه القياداتُ الداعمةُ لخطاب البطريرك "الحياديّ" بالولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
ومن هنا، فإنّ فكرةَ "حياد لبنان" لا يمكن أن تقومَ في منطقةٍ تتعرّض لمشروعٍ أميركيّ من أجل إعادة هيكلتها وإزالةِ كياناتها، ومن ضمنها كيانُ لبنان، وإقامةِ كياناتٍ رديفة. كما أنّها لا يمكن أن تستقيمَ في ظلّ نظامٍ طائفيٍّ يُعْلي من شأن الطائفة على حساب الوطن الجامع، ويُعْلي من شأن التحالفات الإقليميّة للطوائف على حساب الولاء للوطن.
بيروت
[1] يوسف الدبس، من تاريخ سورية الدّنيوي والدّيني - الجامع الفاصل في تاريخ الموارنة المؤصل، العدد 9، منشورات جواكر، د.ت، ص. 492.
[2]فيليب حتّي، تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصرنا الحاضر (بيروت: دار الثقافة، 1972)، ص 493.
[3]الدبس، 493.
[5] عبد الرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين (بيروت: دار العلم الملايين، ط 3، 1992)، ص 348.
[6]الدبس، 494-495.
[7]حتّي، 493.
[8]الدبس، 495-496.
[9]Adel Ismail, Documents Diplomatiques et Consulaires Relatifs a l’Histoire du Liban et des Pays Du Proche- Orient du XVII Siècle a Nos Jours (Beyrouth: Editions Des Ouevres Politiques et Historiques, 1975), 2, pp 19 – 23
[10] الرسالة 14 المصدر نفسه، ص 46-47.
[11] الرسالة 154 المصدر نفسه، ص 47-49.
أستاذ التاريخ والعلاقات الدوليّة في الجامعة اللبنانيّة. من كتبه: صراع القوى الكبرى على سوريا، السياسة الخارجيّة التركيّة، سوريا ومفاوضات السلام في الشرق الأوسط.