باحث سوريّ مقيم في بريطانيا. يُعدّ رسالة دكتوراه في اللغويّات في جامعة إيسكس. كتب في عدد من الصحف والمجلات العربيّة، وكان له مقالة رأي أسبوعيّة في صحيفة السفير.
أعلن الرئيسُ الفنزويليّ الراحل، هوغو تشافيز، خلال ولايته الرئاسيّة الثانية، وتحديدًا في العام 2005، أنّ بلادَه ستبني اشتراكيّةَ القرن الحادي والعشرين ــ وهو نموذجُ الاشتراكيّة التي نظّر لها الاقتصاديُّ الألمانيّ هاينز ديتريخ، الذي اعتبَر أنّ اقتصادَ السوق الحرّ واشتراكيّةَ القرن العشرين أخفقا في معالجة الفقر والجوع والاستغلال. اشتراكيّة القرن الحادي والعشرين ترى دورًا تدخّليًّا أقلَّ للدولة، وابتعادًا عن الشعبويّة، وتركيزًا على إتاحة المجال أمام الأفراد من أجل تطوير أنفسهم بشكل حرّ بعيدًا عن التخطيط المركزيّ.[1]
نظريًّا، كان من المتوقّع أن يكون تطبيقُ هذه النظريّة ممكنًا وناجحًا في السياق الفنزويليّ، حيث يتمّ الانتقالُ التدريجيُّ نحو الاشتراكيّة وإقامةُ المشاريع المختلفة التي تزيد الطاقةَ الإنتاجيّة للشعب الفنزويليّ، وذلك بفضل توفّر التمويل القادم من عوائد النفط، زمنَ طفرة أسعار النفط. ولقد شرعت الحكومةُ الفنزويليّة بالفعل في وضع يدها على بعض المصانع والورشات والمناجم والحقول الزراعيّة التابعة للقطاع الخاصّ، لتقوم بإدارتها بشكل مباشر. إلّا أنّها أبقت يدَها بعيدًا عن العديد من القطاعات الحيويّة، وعلى رأسها القطاعُ المصرفيّ. كما أنّها لم تمسّ ملْكيّات الأراضي الكبيرة.
ولكنْ بعد عقدين من حكم تشافيز ومادورو، لم يتغيّرْ حالُ الجوع والفقر والاستغلال في فنزويلّا إلّا باتجاه التضاعف مرّاتٍ ومرّات. إلى أن تفجّر مؤخّرًا بالشكل الذي جعل الأزمةَ الفنزويليّةَ تحتلّ عناوينَ الأخبار، وانقسم الفنزويليّون بين مؤيّدي مادورو ومؤيّدي زعيم المعارضة المدعوم غربيًّا. فما الذي حصل وأين أخفق الفنزويليّون؟ ولماذا يهمّنا أن نبحث في أسباب الإخفاق، بدلًا من أن نكتفي بإظهار التضامن معهم في وجه العدوان الأميركيّ المبيَّت؟
إنّ هدفَ التحوّل الاشتراكيّ، وفقَ الشعار الذي تبنّاه كارل ماركس، هو أن يصل الاقتصادُ إلى مرحلةٍ يحصل فيها الناسُ على ما يريدون وفق حاجتِهم، لا وفق قدرتِهم على الإنتاج. لذا، فإنّ أيَّ محاولةٍ للانتقال إلى الاشتراكيّة وبناءِ القدرة الإنتاجيّة الذاتيّة في بلدٍ ما ستواجِه مقاومةً أو عرقلةً من الفئات المستفيدة من بقاء الوضع الراهن. ولهذه المقاومة أو العرقلة أداتان رئيستان: السيطرةُ على الخبرات اللازمة للاستمرار في تشغيل المنشآت الاقتصاديّة التي تحاول الحكومةُ تغييرَ مسارِها ووظيفتِها، والسيطرةُ على أدوات التمويل وقنواتِه.
عندما أمّم جمال عبد الناصر قناةَ السويس، كان الردُّ الغربيُّ هو سحْبَ 154 مرشدًا من أصل 207 دفعةً واحدةً بغرض شلّ حركة قناة السويس. هذا كان رهانَ رئيس الوزراء البريطانيّ، أنتوني إيدن. إلّا أنّ رفضَ المرشدين اليونانيين المغادرةَ ساعد في التغلّب على المؤامرة البريطانيّة. وفي أعقاب الثورة الكوبيّة، هاجر، على أقلّ تقدير، 3000 من أصل 6000 من الكوادر الفنيّة والإداريّة إلى خارج البلاد.[2]
في السياق الفنزويليّ، لم يكن لمسألة السيطرة على الخبرات تأثيرٌ معرقِلٌ كبير، وذلك لعامليْن: الأول هو وجودُ جهاتٍ خارجيّةٍ مستعدّةٍ لتقديم الخبرات اللازمة إلى المشاريع الفنزويليّة (وهنا نتحدّث بشكل رئيس عن كوبا والصين). والثاني هو أنّ السلطات الفنزويليّة لم تنطلقْ على نطاق واسع في مشاريع إنتاجيّة كبيرة؛ فلم يكن هناك بناءٌ لمصانع جديدة أو مزارع أو ما شابه، ولا استثمارٌ في تطوير القدرات الإنتاجيّة للنفط الفنزويليّ نفسه، بل كان هناك تركيزٌ حصريٌّ على المشاريع السكنيّة والصحّيّة والتعليميّة.
حالُ فنزويلّا كانت أفضلَ بكثير من حال كوبا في أعقاب الثورة. فقد كان بإمكان الأميركيّين التخلّي بسهولة عن وارداتهم من قصب السكّر الكوبيّ، ما فرض على كوبا البحثَ عن أسواقٍ جديدة. الفنزويليّون لم يواجهوا مثلَ هذه المشكلة في ما خصّ صادراتِهم من النفط، وكان القيدُ الوحيد على قدرتهم التصديريّة هو قدرتَهم الإنتاجيّة التي تحكمها البنيةُ التحتيّة. وعلى الرغم من أنّ فنزويلّا تمتلك أكبرَ احتياطيّ نفط في العالم، فإنّ إنتاجها اليوميّ لم يتجاوز في ذروته، سنة 1998، 3.5 مليون برميل يوميًّا، وبقي في حدود 2.5 إلى 3 مليون خلال السنوات الماضية، قبل أن ينهار خلال العامين الأخيرين إلى 1.5 مليون برميل يوميّا.
صورة توضح حجم التضخّم الاقتصاديّ في فنزويلّا
فاقمتْ سياساتُ تشافيز ومادورو من الطبيعة الريعيّة غير الإنتاجيّة للاقتصاد الفنزويليّ. ففي حين قاد تضاعفُ أسعار النفط العالميّة بين العاميْن 2003 و2012 إلى زيادة حجم الصادرات الفنزويليّة بنسبة 257%، نمت الوارداتُ بنسبة 454%.[3] كان المصدر الوحيد للحصول على العملات الأجنبيّة هو النفط، وقد غطّت العائداتُ الحكوميّةُ ما بين 90 إلى 98% من عائدات البلاد من العملات الأجنبيّة، في حين غطى القطاعُ الخاصّ الباقي. وهذا يشير إلى فشل تطبيق نموذج اشتراكيّة القرن الحادي والعشرين، الهادفة إلى زيادة قدرات الأفراد على الإنتاج. ما حصل في فنزويلّا يشار إليه باسم "المرض الهولنديّ": فشل تطوير القدرات الإنتاجيّة للبلاد بسبب توفّر عائدات من الموارد الطبيعيّة تجعل الاستيرادَ أسهلَ من الإنتاج.
الخطأ الفنزويليّ الكارثيّ كان، في الحقيقة، في الإدارة الماليّة والمصرفيّة. كانت السلطات الفنزويليّة تضخّ العملاتِ الصعبةَ في الاقتصاد، وذلك لتغطية حاجة البلاد المتزايدة من الواردات؛ فتنامي حجم الواردات يعني استنزافَ العملات الأجنبيّة وانخفاضَ قيمة العملة المحليّة أو انهيارَها في حال تراجُع عائدات العملات الأجنبيّة. وعلى الرغم من أنّ السلطات الفنزويليّة فرضتْ في العام 2003 ضبطًا لأسعار الصرف، وعملتْ على رفع قيمة العملة المحليّة بالاستفادة من العوائد النفطيّة، فقد ضخّت ما بين 2003 و2012 حوالي 317 مليار دولار في الأسواق لتغطية وارداتِ القطاع الخاصّ. ففي العام 2003 كان القطاع الخاصّ يستورد 3 أضعاف قيمة صادراته، أمّا في العام 2012 فقد بات يستورد 20 ضعف صادراته.[4]
الركن الأساس في استراتيجيّة غيفارا كان جعلَ التمويل في يد الحكومة
المساهمة الأهمّ لتشي غيفارا في نهضة الاقتصاد الكوبيّ كانت قدرتَه على إيجاد تطبيقات عمليّة للأفكار الاشتراكيّة. غيفارا كان رئيسَ المصرف الوطنيّ الكوبيّ (وهو المصرف الكوبيّ الرئيس إلى أن أُنشأ المصرفُ المركزيّ سنة 1997). الركن الأساس في استراتيجيّة غيفارا كان جعلَ التمويل مركزيًّا، في يد الحكومة، على الأقلّ في ما يخصّ تمويلَ المشاريع الحكوميّة وواردات البلاد.[5]
القطاع الفنزويليّ الخاصّ لا يزال يسيطر على أكثر من 75% من القطاع الخاصّ. على أنّ المشكلة ليست هذه فحسب. المشكلة تتّضح عندما نعلم أنّ أكثر من 65% من الأموال الحكوميّة تودَع أولًا في مصارف القطاع الخاصّ قبل أن يصارَ إلى إعادة توزيعها.[6] إلّا أنّ عدمَ سيطرة الحكومة الفنزويليّة على القطاع المصرفيّ قاد إلى خسارة أكثر من 200 مليار دولار جرى تهريبُها إلى الخارج خلال العقد التالي لضبط سعر الصرف، 2003 - 2012؛ وهذه المبالغ التي أخرجتْ من البلاد كانت تكفي لتمويل مستوردات البلاد الغذائيّة لعقديْن من الزمن![7] النموّ الأكبر في الاقتصاد الفنزويليّ كان في الحقيقة في المجال المصرفيّ، إذ بلغ، بين العامين 2003 و2012 ما يعادل 370% من النمو التراكميّ.[8]
ما حصل في نهاية المطاف في فنزويلّا كان مزيجًا من المرض الهولنديّ، والاقتصاد الريعيّ، وإعادة إنتاج الرأسماليّة. إشارتي المتكرّرة إلى أرقام تعود إلى سنوات حكم تشافيز، وصولًا إلى العام 2012، هي للإشارة إلى جذور المشكلة الفنزويليّة التي يحاول البعضُ اليوم تحميلَها خلَفَه مادورو بالكامل.
الولايات المتّحدة ليست كلّيّةَ القدرة. العقوبات المفروضة على كاراكاس، خلال السنوات الماضية، هي، في مداها وتأثيرها، لا تختلف كثيرًا عن العقوبات التي كانت مفروضةً على دمشق قبل الحرب السوريّة، أو على طهران قبل العام 2011، وهي لا تقارَن بالعقوبات المفروضة اليوم على طهران أو بيونغ يانغ أو هافانا أو حتى موسكو. لم تمنع هذه العقوباتُ من أن تكون الولاياتُ المتّحدة شريكَ فنزويلّا التجاريّ الأكبر، استيرادًا وتصديرًا. إحدى المفارقات هي أنّ الولايات المتّحدة، التي تمتلك ميزانًا تجاريًّا خاسرًا مع معظم دول العالم، تمتلك ميزانًا تجاريًّا رابحًا مع فنزويلّا؛ أيْ إنّها تصدِّر لها أكثرَ ممّا تستورد منها. كان يمكن أن يكون تأثيرُ العقوبات معدومًا لو لم تهوِ أسعارُ النفط، وكان يمكن التخفيفُ من تأثير انهيار أسعار النفط لو لم تعتمدْ حكومةُ كاراكاس على عائدات النفط بشكل حصريّ لدعم اقتصادها طوال عقدين من الزمن.
***
أزماتُ فنزويلّا لم تنتهِ بعد، بل هي إلى تفاقم. تهاوي أسعار النفط دفع الحكومةَ الفنزويليّة إلى تغطية وارداتها عبر الاقتراض. أكبرُ دائني فنزويلّا اليوم هو الصين، التي يقدَّر بأنّها أقرضتْ فنزويلّا أكثرَ من 60 مليار دولار. والصين، بغضّ النظر عن استبشار بعض العرب بها لكونها "تتحدّى الغرب،" هي في نهاية المطاف دولةٌ ذاتُ مصالح، وليست جمعيّةً خيريّة. فترة السماح الخاصّة بالقروض الصينيّة تشارف على الانتهاء، ما سيَفرض المزيدَ من الأعباء على كاراكاس التي خصّصتْ ثلثيْ صادراتها من النفط خلال العام الماضي لسداد فوائد القروض الصينيّة.[9] وقد رأينا ما حصل للدول التي لم تستطع سدادَ القروض الصينيّة، كما حصل مع سريلانكا وغيرها.
تصادفنا عبارةُ "سوء الإدارة" في تفسيرِ ما يحصل في فنزويلّا، وكأنّ سوءَ الإدارة مجرّد تفصيل هامشيّ. والحقّ أنّ سوء الإدارة هو أصلُ البلاء. ما الفارق، حقًّا، بين سوء الإدارة نتيجةً للتبعيّة للولايات المتّحدة، وسوءِ الإدارة وقِصر النظر وخسارةِ فرص التنمية نتيجةً للتركيز على المشاريع التي تحقِّق شعبيّةً عاليةً مع الاستمرار في ممارسة الخطاب الشعبويّ؟ تشافيز ومادورو لم يفتقرا إلى مَن ينصحهما؛ وهناك الكثير من الأوراق البحثيّة العلميّة المنشورة، حتى في بلدان أميركا اللاتينيّة، حول مشاكل الاقتصاد الفنزويليّ والفرصِ التي تفوِّتها فنزويلّا على نفسها.
***
نعم، نحن نتعاطف مع الشعب الفنزويليّ الذي ستزيد معاناتُه مع مضيّ البلاد نحو نزاعٍ أهليّ يمكن أن يَشهد تدخّلًا عسكريًّا أميركيًّا في أيّ لحظة. ولكنّ هذا يجب إلّا ينسيَنا أخطاءَ القيادة الفنزويليّة، خصوصًا أنّ مثل هذه الأخطاء ليست حصرًا على فنزويلّا. في سورية مثلًا، اليوم، وهي تحاول الاقترابَ من نهاية الحرب، نرى أنّ كلَّ التركيز في حديث المسؤولين والاقتصاديين السوريين هو على إقامة مشاريع سكنيّة عملاقة، ومشاريع سياحيّة ترفيهيّة، ومشاريع استهلاكيّة لا تخلق وظائفَ تتناسب مع حجم الاستثمارات اللازمة ولا تخلق قدرةً تصديريّة. والحكومة السوريّة، بحسب ما نشرتْه الصحفُ الحكوميّة السوريّة، مستعدّة لإعفاء هذه المشاريع من الضرائب، بل لتحمّل جزءٍ من كلفها التشغيليّة.[10] الحكومة السوريّة هنا تكرِّر خطأَ الحكومة الفنزويليّة في عدم دعم المشاريع الصغيرة والمتوسّطة التي تحقّق فرصَ عملٍ منخفضةِ الكلفة، والتركيزِ بدلًا من ذلك على المشاريع البرّاقة.
ما حصل في فنزويلّا يجب أن يكون فرصةً للتعلم وأخذِ العِبر والبحث عن مواطئ الخلل. نعم نتعاطف مع الفنزويليّين، ولكنّ التعاطف والتضامن الحقيقيّ يتحقّقان بمنع تكرار الأخطاء الفنزويليّة في أماكنَ أخرى.
لندن
[1]M. Lebowitz, ”What Is Socialism for the Twenty-First Century?” [online] Monthly Review, 2016, Available at: https://monthlyreview.org/2016/10/01/what-is-socialism-for-the-twenty-fi... [Accessed 1 Mar. 2019].
[2]H. Yaffe, Che Guevara: The Economics of Revolution (London: Palgrave Macmillan, 2009), p. 72.
[3]M. Sutherland, “To Nationalise Foreign Trade is to Curb Fraudulent Imports, Inflation and the Next Devaluation” [in Spanish]m Rebelion, July 11, 2013.
[4]المصدر السابق
[5]Yaffe, op. cit.
[6] J. Caicedo, 2014. “The Concentration of Banking Capital and the Need to Nationalise the Bank of Venezuela” [in Spanish]. Centro de Investigacio´n y Formacio´nObrera CIFO-ALEM. www.rebelion.org/docs/183720.pdf.
[7] M.A.Santos, “Venezuela: Running on Empty,” In: LASA Forum, vol. 48, no. 1, 2017, pp. 58-62.
[8]المصدر السابق
[9]Argus Media, “Venezuela´s next debt default may be China,” (2018) [online] Available at: https://www.argusmedia.com/en/news/1776778-venezuelas-next-debt-default-... [Accessed 1 Mar. 2019].
[10] ميليا إسبر، "في أحدث دراسة للإحصاء: 325 ألف ليرة شهريًّا متوسّط الإنفاق التقديريّ للأسرة لعام 2018،" صحيفة تشرين السورية، 24/02/2019.
باحث سوريّ مقيم في بريطانيا. يُعدّ رسالة دكتوراه في اللغويّات في جامعة إيسكس. كتب في عدد من الصحف والمجلات العربيّة، وكان له مقالة رأي أسبوعيّة في صحيفة السفير.