(حاوره: بشّار اللقّيس)
أجرت الآداب حوارًا مع الدكتور حسن مقلد، رئيس تحرير مجلّة الإعمار والاقتصاد. هذا نصّه.
***
*أزمة اليوم في لبنان، في أيّ خانةٍ توصّفونها؟
- الأزمة أزمة نظام. أزمة تركيبة كاملة. وهي كبيرة جدًّا، إلى درجةٍ تفوق قدرةَ أيّ ضلعٍ من أضلع النظام على تحمّلها. لقد دخل البلدُ في مرحلةٍ من الإرباك منذ العام 2005. فبعيْد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانسحابِ القوّات السوريّة من لبنان، انتهتْ مرحلةٌ سياسيّة، امتدّتْ منذ العام 1992، ولم تتولّد عنها مرحلةٌ جديدة. فجأةً صرنا كمن يعيش وقتًا مستقطَعًا: لسنا بقادرين على المضيّ قدُمًا، ولا قادرين على العودة إلى الوراء!
هنا لم يكن الخلل ماليًّا فحسب- - وهذا ما يُجمع عليه كلُّ المراقبين، من صندوق النقد الدوليّ حتّى أقصى خبراء اليسار الاقتصاديين - - بل هو بنيويّ أيضًا. إذ ليس من دولةٍ في العالم [غير لبنان] تعيش وفق "منطق" اقتصاديّ يقوم على عدم وجود رؤية اقتصاديّة، وعلى انكشاف الاقتصاد بشكلٍ كلّيّ على الخارج!
في لبنان تُغطّي الدولةُ عجزَها بالدْيْن المتراكم، من دون أيّ سياسةٍ ماليّة، وبالاعتماد فقط على السياسة النقديّة. والسياسة النقديّة، لمراحلَ طويلة، كانت كابحةً لقطاعاتٍ واسعةٍ من الإنتاج الاقتصاديّ.
بهذا المعنى، نحن في أزمة نظام سياسيّ، وأزمة نظام اقتصاديّ، منذ العام 1992، في ظلّ غياب سياسة ماليّة وإدارةٍ للديْن، ومع ارتكازٍ أوحدَ على "سياسة نقديّة."
وعلى الرغم من أنّ النظام كان قد دخل في انعطافاتٍ عدّةٍ في تاريخه السياسيّ والاقتصاديّ منذ اتفاق الطائف إلى اليوم، فإنّنا دخلنا منذ العام 2011 في أزمةٍ حقيقيّة، هو تاريخ انفجار البركان في منطقتنا كلّها، إذ لم تعد المنظومةُ السياسيّة والاقتصاديّة قادرةً على الاستمرار.
* ذكرتم مصطلحيْن: "السياسة الماليّة" و"السياسة النقديّة،" وقلتم إنّ الدولة كانت تعتمد الثانية دون الأولى. حبّذا لو توضحون للقرّاء هذا الأمر.
- في العالم ثلاثُ سياسات: 1) السياسة الاقتصاديّة، وهي الأساس، وتتعلّق بقطاعات الإنتاج. 2) السياسة الماليّة، وتتعلّق بالدولة وسياساتها التخطيطيّة للإنفاق: تحديد حجم القطاعات، واتجاهات نموّها، وحجم هذه الاتجاهات، ونظام الضرائب، وغير ذلك من الأمور. 3) أمّا السياسة النقديّة فتتعلّق بتثبيت سعر الصرف، ووظيفة المصرف المركزيّ في الدولة.
لكنْ، لأنّنا نفتقر إلى سياسةٍ ماليّة وسياسةٍ اقتصاديّة؛ ولأنّ السياسة الضريبيّة كانت مرتبكةً إلى حدّ كبير؛ فقد صارت السياسةُ النقديّة (أيْ مسألة تثبيت سعر صرف الليرة) سياسةَ السياسات. أيْ إنّها حلّت محلَّ السياسات الأخرى كلّها!
*حسنًا، من أين ابتدأت المشكلة؟ من العام 1992؟ من العام 1997، حين انخفضتْ معدّلاتُ النمو؟ من العام 2011؟
- ما من بلد في العالم يعيش من دون أيّ رؤيةٍ اقتصاديّة، وضمن برنامج اقتصاديّ وماليّ يكون النقدُ فيه خادمًا للسياسات الاقتصاديّة الكبرى. نحن مشينا بلا أدنى تخطيط، فدفعنا كلَفًا غاليةً في الاقتصاد. كما دفعنا كلَفًا فعليّة، هي الفوائد.
في المقابل، تكوَّن نتيجةً لهذه السياسات ارتفاعٌ في الودائع. وظلّتْ هذه الودائعُ في ارتفاعٍ طوال مراحلَ عدّة، مراكِمةً أحجامًا مهمّةً في المصارف. ولو أنّنا في تلك المرحلة استثمرنا جزءًا من هذا المال من أجل الإنفاق على قطاعات مُنتجة، لأمكننا ربّما تجاوزُ الأزمة اليوم!
أكثر من ذلك: قبل أربع سنوات، كنّا قادرين على اقتطاع ما بين 10 - 18 مليار دولار من احتياط العملة الصعبة الموجود في المصرف المركزيّ، كي نوظّفَها في الاقتصاد المنتِج مباشرةً. لكنْ، لأنّ السياسات الاقتصاديّة والماليّة لم تأخذْ هذا الأمرَ في الاعتبار، فقد صرفت الدولةُ حجمًا ضخمًا من الودائع محاولةًحمايةَ الليرة اللبنانيّة، وبكلفة عالية.
يعتمد الاقتصاد اللبنانيّ على استيراد 87% من حاجيّاته. كما نستورد ما قيمتُه 24 مليار دولار، من ملابسَ ومأكولاتٍ وغيرِها من الأمور الحياتيّة اليوميّة. وهذا يتطلّب إعادةَ هيكلة الرؤية الاقتصاديّة بأسرها، إذ إنّ في إمكاننا تصنيعَ الكثير من حاجيّاتنا. نحن في حاجة إلى سياسة ماليّة تقول لنا كيف نتعامل مع خدمة الديْن، وكيف نضع ماليّةً للدولة.
ومن هنا، فإنّ تقويم السياسة النقديّة يمكن أنْ تكون سلبيّةً أو إيجابيّةً اعتمادًا على السياسة الاقتصاديّة العامّة، التي يُفترض على السياسة النقديّة خدمتُها. أمّا حين لا تكون لدينا أيُّ سياسات ماليّة واقتصاديّة، فستمسي السياسةُ النقديّةُ مجرّدَ "شراء الوقت" لإنضاج السياسات الاقتصاديّة أو الماليّة الأخرى.
*عندما طُرح خيار "هونكونغ أو هانوي،" اختار لبنان هونكونغ، في التسعينيّات. فهل دخلتْ مسألةُ "تثبيت سعر صرف الليرة" في هذا الإطار؟
- الخيار بين هونكونغ وهانوي كان يشير إلى أمرين:
1) وجهة الاقتصاد وطبيعته.
2) أنّ الجنوب للمقاومة، وبيروت للسياحة والخدمات. الجنوب هانوي، وبيروت هونكونغ. هكذا نظّر البعضُ لإمكانيّة إقامة حيّزيْن منفصليْن، على أساس أنّ بيروت منعزلة عن الجنوب! وهذا أمرٌ عصيٌّ على التحقّق إذا ما اعتبرنا بيروتَ دائمةَ الحضور في كلّ مواجهة بين الإسرائيليين وأهالي الجنوب، وقلّما مرّ علينا عدوانٌ اسرائيليّ (أكان في العام 1993، أمْ في العام 1996، أمْ في العام 1998) لم تكن بيروتُ فيه في مرمى الاستهداف الإسرائيليّ.
هذان العنوانان كانا محطَّ سياسات اقتصاديّة كبرى اتُّخذتْ سنة 1992. فحتى الثياب التي نرتديها لم تكن في منأًى عن تشريعاتٍ عوّمت السياسةَ الاستهلاكيّة. فالمنتَج المصنَّع [في الخارج بشكل كامل] دخل لبنانَ من دون أيّ ضرائب، في حين بلغت الضرائب على الموادّ الأوّليّة المعدّة للصناعة ما قيمته 25%! وهذا خيارٌ قتل الصناعةَ في لبنان والزراعة، لحساب الخدمات والقضايا الأخرى.
عندما تتحدّث في لبنان عن مثل هذا العنوان (هانوي وهونكونغ) فأنت تتحدّث عن خيارات اقتصاديّة تَدخل السياسةُ النقديّةُ في صلبها، لكنّها لا تدخل إلّا بمقدار كونها آليّةً أداتيّةً للسياسات الاقتصاديّة الكبرى. وهذه الخيارات الاقتصاديّة الكبرى هي التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة المتأزمة.
* وما العمل؟
- المطلوب إعادةُ هيكلة كلّ البنى الاقتصاديّة وفق توجّهاتٍ جديدة. فنحن اليوم نأتي بالمال من الخارج بتكلفةٍ عالية، ثمّ لا نُحْسن استخدامَه. واليوم، صرنا أمام إشكاليّة مضافة: هي صعوبة الحصول على هذا المال، في الوقت الذي نواصل فيه سوءَ استخدام المال المقترَض!
نحتاج اليوم إلى خيارات كبرى، أهمُّها:
1) وقف استباحة مال الدولة؛ فالهدر يبلغ سنويًّا 7 - 8 مليارات دولار!
2) توجّه اقتصاديّ جديد، نستطيع من خلاله بناءَ اقتصادٍ مُنتِج. فعلى سبيل المثال، نحن نستورد على مستوى القطاع الصحّيّ مليارًا ومئتيْ مليون دولار سنويًّا، في حين أنّنا نستطيع من خلال "الضمان الاجتماعيّ" و"تعاونيّةِ موظّفي الدولة" تعزيزَ سياسة أولويّة الدواء اللبنانيّ المحلّيّ. وبالتالي نحن قادرون في عامٍ واحدٍ فقط على توفير 500 مليون دولار في قطاع الدواء وحده. أمّا في موضوع العمالة المنزليّة، فنحن قادرون على توفير المبلغ نفسه بسياسات أكثر ترشيدًا. وهذا كلّه يحتاج إلى إجراءات.
* ثمّة مَن يرى أنّنا على شفير الانهيار بعد عدّة أشهر. آخرون يجدون في هذا الكلام نوعًا من المبالغة. ما مدى أزمتنا الماليّة حقيقةً؟
- للكلام على الانهيار سياقه الخاصّ، وأغراضه التي لا أريد الدخول بها. لكنْ من اللازم تأكيد أنْ لا بلد في العالم يحكي فيه الناس طوال أربع سنوات عن انهيار قطاعه الماليّ والاقتصاديّ ويظلّ صامدًا! ثمّ لا تنسَ ما حصل منذ سنتين عند اعتقال الرئيس سعد الحريري في السعوديّة. آنذاك، شُنّتْ حربٌ شعواءُ على لبنان تحت عنوان"بعد شهر أو شهرين سينهار البلد!" وعلى الرغم من ذلك صمدنا.
ما أريد قولَه هو أنّ وضعنا الاقتصادي يتآكل منذ 27 عامًا، حتى صرنا على مقربة من خطّ الخطر، إذ يمكن أيَّ حدثٍ أن يضرب عمقَ بنيتنا الاقتصاديّة. لكننا في الموضوع الماليّ والنقديّ تحديدًا، ما زلنا نملك الكثيرَ من الاحتياطات التي تسمح لنا بالتعاطي مع الواقع وتحدّياته. غير أننا نعاني مشاكلَ بنيويّةً تحتِّم أخذَ إجراءات لم يعد ممكنًا الهروبُ منها.
نحن منذ قرابة ثلاثة أشهر دخلنا في انحدارٍ سريع، لكننا ما زلنا نمتلك - بالأرقام - ما يتيح لنا التعاطي مع أيّ أزمة. غير أنّ العالمَ الاقتصاديّ والماليّ ليس عالمَ الأرقام فقط، كما يعتقد الكثيرون، بل هو عالمٌ تتكامل فيه القدراتُ والإجراءاتُ والمناخُ السياسيّ. بالإجراءات والمناخ السياسيّ، نحن كمن يطلق النارَ على نفسه! لذا، فإنّنا إنْ لم نحسن استخدامَ القدرات، فقد يضيق الوقتُ ونسقط جميعًا. إلى اليوم ما زال الوقتُ معنا. لكنّ هذا رهنٌ بالإجراءات، وإعادةِ الثقة، ووضعِ معايير تتلاءم مع تحدّيات اليوم للتعاطي مع الواقع السياسيّ - - سواء على مستوى كفاءة الوزراء وأهل العمل السياسيّ والشأن العامّ، أو على مستوى آليّات عمل المنظومة الاقتصاديّة بأسرها.
*إلى أيّ مدًى تُحمِّل المصارفَ وسياساتِ المصرف المركزيّ مسؤوليّةَ الديْن وتعثُّرِ الاقتصاد اللبنانيّ؟ وهل بات الدين خارجيًّا حقيقة؟
- لا، لا يزال الديْن الداخليّ دينًا داخليًّا. أمّا الديْن الخارجيّ فلا يزال في قطاع "الأوروبوندز" - - وهذا لا علاقةَ له بالديْن المباشر، إذ إنّه مقترن بالمؤسّسات الدوليّة. ما أريد قوله هو أنّ مصرف لبنان والمصارف الأخرى تتحمّل جزءًا من المسؤوليّة تجاه مسألة البنية الماليّة، ومسألة الديْن وغيره. لكنّ هذا البلد، كغيره، لا تديره جمعيّة المصارف ولا المصرفُ المركزيّ، بل تديره الحكومةُ والرئاسات. اليوم لن نستطيع معالجةَ المشاكل إذا كان تشخيصُنا خاطئًا.
مكمنُ الإشكاليّة الأساس ليس في المصارف والمصرف المركزيّ. هناك مؤسّسات سياديّة، من رئاسة الجمهوريّة إلى الرئاسات الأخرى، عليها أنْ تضع خارطةَ طريق لِما يجب أن ننتهي إليه. إنّ في منطق تحميل المسؤوليّة شخصًا، أو جهةً محدّدةً، الكثيرَ من تسخيف واقع الحال، الذي يجب أن يرتبط بمسؤوليّة الدولة بشكل رئيس. فالمصارف لا يمكن النظرُ إليها إلّا في وصفها مجموعةَ موظّفين؛ فإذا تجاوزوا حدودَهم وَجبتْ محاسبةً مَن سَمح لهم بذلك!
* نحن اليوم على مشارف نهاية الحرب في سوريا، والأمور تتحسّن في العراق. هل ثمّة مَن يفكِّر في استثمار هاتيْن المسألتين لبنانيًّا، على المستوى الاقتصاديّ؟ إلى أيّ مدًى تمْكننا الاستفادةُ من هذه الفرصة؟
- منذ انفصال لبنان عن سوريا يمكن القول إنّ نقاطَ القوّة في الاقتصاد اللبنانيّ هي مكمنُ الضعف في الاقتصاد السوريّ، والعكس صحيح. وقد جاءتنا فرصٌ عدّةٌ للتكامل مع سوريا اقتصاديًّا، آخرُها كان سنة 2000. لكنّ المافيا المهيمنة حالت دون ذلك. واليوم، فإنّ حجمَ احتياجنا إلى التكامل مع الاقتصاد السوريّ استثنائيّة.
وإذا أردنا الحديثَ عن العراق، فقد بلغ حجمُ مداخيل مرفأ بيروت من المواد المصدَّرة إلى العراق 52% من مجموع صادرات المرفأ قبل عام 1975. إنّ توجّهَنا الطبيعيّ في هذه المرحلة يجب أن يكون نحو بناء علاقات اقتصاديّة أفضل مع العراق وسوريا. وإذا سألتني "هل يفكّر المسؤولون اللبنانيّون في ذلك؟" سأقول لك "حتمًا لا!" إذ إنّ المناكفات السياسيّة، وحسابات المصالح الشخصيّة، لا تزال تطغى على ما غيرها. وهذا أسوأ ما في الموضوع اليوم.
لكنْ، في النهاية، ما من سبيلٍ، أمام لبنان وسوريا، للخروج من هذا النفق المظلم، سوى بناء توجّه حقيقيّ إلى التعاون.
*أخيرًا دكتور، أيّ خيارات أمامتا في لبنان اليوم؟
- نحن هنا أمام ثلاثة خيارات: 1) ألّا نفعلَ شيئًا،فنذهب إلى الانهيار. 2) أن نستخدم المقدّرات والاحتياطات الموجودة أفضلَ استخدام، فنقومَ بإصلاحٍ حقيقيّ، ونعيدَ إنتاج بنى اقتصاد منتج. 3) أن نمضي بـ"سيدر" من دون أيّ تغييرٍ بنيويٍّ في الاقتصاد، فنبقى على ما نحن عليه، لكنّ ذلك سيفضي إلى القضاء على أي إمكانيّة لإصلاح البلد اقتصاديًّا في ما بعد. وهذا الخيار الثالث أعتقد أننا ماضون فيه، وهو أشبهُ ما يكون بمسكِّناتٍ موضعيّةٍ للاستمرار بما نحن عليه، إلى أن نبدأ بإنتاج الغاز، وهذا ما يضع لبنان على سكّة استدامة الوضع الراهن.
ثمّة وضوحٌ في ما يجب أن نقوم به لو أردنا أن نبني دولة، لكنّ هذا ما لا تطيقه الطبقةُ السياسيّةُ الراهنة، نظرًا إلى استفادتها من الوضع القائم. وهذا ما يَحُول بيننا وبين اتخاذ الخيارات المنقِذة.
بيروت