"ستحظى بوقتٍ ممتعٍ اليوم،" قال الرجل ذو الشارب بهدوءٍ وثقة.
"لا أظنّ ذلك،" قلتُ في نفسي، "إنّ الأب الذي يجعل طفلَه المدلّل يغفو على أنغام تشايكوفسكي وبيتهوفن، ويحاول تعليمَه الشطرنجَ في سنّ الرابعة، من دون أن يكون لدى هذا الأب أيُّ ولع بكرة القدم أو المصارعة أو تسلّق الأشجار... حسنًا... هذا الأب ليست لديه، بكلّ تأكيد، أيّة فكرة عن معنى قضاء وقت ممتع!"
وما نحن بصدده الآن لا يبدو مختلفًا كثيرًا عن محاولة فاشلة للاستمتاع بـ "بحيرة البجع،" أو لتعلّم خطّة نابليون في الشطرنج؛ فالجلوس على هذه المقاعد المصطفّة، أمام قماش كبير أخرق، أمرٌ لا يشي بتحوّلاتٍ كبرى، ولا يبشّر بقضاء وقتٍ ممتع. بل إنّ الأسوأ كان على وشك الحدوث؛ إذ فجأةً أظلم المكانُ ظلمة مرعبة. تأبّطتُ، مذعورًا، ذراعَ أبي الذي كان يحاول أن يهدّئ من روعي، حين انبثق عمودُ ضوءٍ سحريّ.
بدأ العرض، وبدأ معه الذهولُ والسحر، والدهشةُ والفرجة. خلطة سرّيّة عبقريّة لن تتذوّقها إلّا في هذا المكان الذي اصطحبني إليه الرجلُ ذو الشارب. لم أكن قد تجاوزتُ الخامسة من عمري، لكنّي في تلك اللحظة ــــ على ذلك المقعد ــــ كنتُ سيّدَ العالم، والقابضَ على الزمن. تسمّرتُ، مأخوذًا بالكامل، وأنا أشاهد ذلك الرجلَ القصيرَ، بقبّعته الخرقاء وعصاه الغريبة، يتراقص على ما كان قبل لحظاتٍ قطعةَ قماشٍ صمّاءَ كبيرةً. إنّها المتعة الخالصة!
حسنًا، لقد نجح الرجلُ ذو الشارب في إبهاري هذه المرّة. وتعبيرًا عن امتناني الشديد، تمسّكتُ ببنطاله، بكلّ قوّتي، أمام صالة السينما، مستجديًا العودةَ إلى الداخل لحضور الفيلم مرّةً أخرى. حاول إغرائي بعرضٍ لا يمكن رفضُه عادةً: رزّ بالحليب مع البوظة البيضاء، من الكافيتيريا الشهيرة المحاذية لسينما الكندي. لكنّي، في ذلك اليوم التاريخيّ، رفضتُ العرضَ الكبير؛ فقد أردت شيئًا واحدًا غير قابل للرشوى أو التفاوض: العودةَ إلى ذلك المقعد.
انصاع ذو الشارب أخيرًا، ربّما رأفةً ببنطاله الموشك على التمزّق. كال لي بعضًا من شتائم المثقّفين، وتوعّد بعدم اصطحابي معه إلى أيّ مكانٍ مجدّدًا. لم يحصل هذا طبعًا؛ فبعد يومين اصطحبني إلى فيلمٍ آخر.
أعرف الآن أنّها كانت أيّامًا سينمائيّةً احتفاءً بكلاسيكيّات الأفلام الكوميديّة؛ فأحدُ الفيلمين كان لتشارلي تشابلن، والآخرُ للوريل وهاردي. كما أعرف أنّ الرجل ذا الشارب مرّر لي، في ذلك اليوم، شغفَه العتيقَ كعدوى ممتازة. بعد سنوات أدركتُ أنّه كان منذ زمن بعيد مهووسًا بالسينما، امتلأت دفاتره المدرسيّة بملاحظاته الدقيقة عن كلّ فيلم شاهده. ولأسباب لا يعرفها سوى والده، طارت منه فرصةُ دراسة السينما في الاتّحاد السوفييتيّ.
لم يأخذْني بعدها إلّا في مناسباتٍ قليلة؛ فقطاعُ السينما في سوريا كان آخذًا في الانهيار، وحياةُ الرجل ذي الشارب كانت قد دخلتْ في طور الطحن المتواصل. غير أنّ العدوى كانت ممتازة على أيّة حال: فأفضلُ المغامرات في مراهقتي كانت وجودي لنهارٍ كاملٍ في صالة السينما، في الوقت الذي يعتقد فيه الجميعُ أنّني في المدرسة؛ وأمتعُ القراءات كانت سيناريوهاتٍ ونقدًا لأفلامٍ لم أشاهدها إلّا بعد سنوات طويلة. من غرائب التسعينيّات أن تتعرّف إلى فلليني وكوبولا وبولانسكي وسكورسيزي عبر الكتب والدوريّات السينمائيّة، لا عبر تجربة بصريّةٍ ساحرةٍ كما يُفترض أن تكون. هكذا كانت الحال قبل نعمة الأقراص المدمجة.
***
مرّت سنواتٌ أخرى ولم أتخصصْ في السينما لكوني أحمق كبيرًا أراد أن يصبح مارادونا ومايكل جوردان وغاغارين وغارسيا ماركيز وسكورسيزي وكوبريك ودون خوان دي ماركو مجتمعِين، لينتهي بي الأمر خلف مكتب وشاشة كمبيوتر أُدير شيئًا لا أطيق إدارته، في بلدٍ لا أطيق الوجودَ فيه.
ولأنّي كنتُ أفتقد الرجل كثيرًا، فقد دعوته مرارًا إلى زيارتي. وحين جاء أخيرًا، بعد طول إلحاح، لم أجد ما هو أفضل من بثّ الحياة في تلك الذكرى العتيقة، فاصطحبتُه إلى السينما.
ما حدث لدى ذهابنا كان غير متوقّع أبدًا، ومحبطًا إلى حدّ بعيد: فقد تململ الرجلُ الستينيُّ كثيرًا أثناء العرض، قبل أن يطلب منّي أن نغادر المكان. ألقيتُ باللوم بدايةً على السيد ريدلي سكوت (مخرج الفيلم)؛ فسقطاتُه الساذجة تكرّرتْ كثيرًا في أعماله الأخيرة. لكنّ الحقيقة كانت أعمق من ذلك: فالرجل الذي استحال لونُ شاربه رماديًّا داكنًا شهد الهزائمَ الكبرى في منطقتنا، واختبر الانحدارَ المتسارعَ للبديهيّات إلى محض "وجهاتِ نظر" وأشياءَ "تقبل الاختلاف." إنّه لَيَشعر أنّه قد أصبح عجوزًا جدًّا كي يشْغفَ بأيّ شيء، وبات يكتفي بلحظاتِ سكينةٍ صافيةٍ يعيشها كلّما سقى نبتتَه الجميلةَ ومسح أوراقَها كي تلمع في ضوء النهار، وكلّما تذكّر ذلك الجديَ الصغيرَ الذي اعتنى به لبضعة أيام ــــ ذاتَ صيف بعيد جدًّا ــــ قبل أن يسلبَه إيّاه حلولُ العيد.
***
كفيلم من دون مونتاجٍ جديرٍ بأوسكار "أفضل حزن،" دار في رأسي كلُّ هذا وذاك، فيما يداي منهمكتان بنقل نبتة السكينة التي تخصّه من أصيصها البيتيّ إلى تربة الأرض، قريبًا جدًّا من شاهدة قبرٍ كُتب عليها: "هنا يرقد الرجلُ ـــــــ الأب."
اللاذقيّة