توجد بين الحركة الإسلاميّة، والحركة القوميّة والوطنيّة و/أو "الليبيراليّة" والشيوعيّة في الوطن العربيّ، تشابهاتٌ في نسق التفكير، على الرغم من الاختلاف الكبير في المضامين، وفي الأدوار السياسيّة التاريخيّة الكبرى التي تؤدّيها هذه الحركةُ أو تلك. وأهمُّ نقاط الشبه في رأيي هي "السّبعُ العجاف" الآتية:
1- كلٌّ منها ينطلق من تصوّرٍ ما عن "الطبيعة البشريّة": الإنسان في الأساس متديّن، أو قوميّ، أو فرديّ (و/أو وطنيّ)، أو طبقيّ.
2- كلٌّ منها له عصرُه الذهبيُّ المتخيّل: عصرُ الإسلام الأوّل (ويختلف بين السنّة والشيعة، بل داخل كلّ مذهبٍ أحيانًا)، أو عصرُ الوحدة القوميّة (زمن أمجاد العرب القوميّة، أو يحلم بالوحدة العربيّة القادمة على أنقاض الاستعمار والتجزئة)، أو عصرُ الدولة الوطنيّة (وتمثّله التجاربُ الفرعونيّة والفينيقيّة والقرطاجيّة/ أو التجارب القُطريّة الوطنيّة الحديثة في دولنا)، أو عصرُ المشاعيّة البدائيّة/الشيوعيّة المستقبليّة (بالنظر إلى البشر كأنّهم من ذوي طبيعةٍ طيبّةٍ سيعودون إليها بعد مراكمة التطوّر).
3- كلٌّ منها يحلّل التاريخَ بعنصر حاسمٍ سيحقّق تطوّرَنا: دينيّ، أو قوميّ، أو فرديّ/ وطنيّ، أو اقتصاديّ/طبقيّ.
4- كلٌّ منها يفكّر في إنجاز ثورته التي تقضي على البقيّة لتؤسّس نظامَ الحزب الواحد، علمًا أنّ بعضَها لم يعد يفعل ذلك ضعفًا أو تكتيكًا: الثورة الإسلاميّة (نموذجُها الحركة الوهّابيّة أو الثورة الإيرانيّة)، أو الثورة القوميّة (نماذجُها الانقلاباتُ الناصريّة والبعثيّة)، أو الثورة الوطنيّة/ "الديمقراطيّة" (التي تستلهم أتاتورك أو غاندي...)، أو الثورة البروليتاريّة (على الطريقة الصينيّة أو البلشفيّة أو غيرهما).
5- كلٌّ منها كانت له فكرتُه عن "المخلّص": "الفرقة الناجية" وحزبها الإسلاميّ (السنّيّ أو الشيعي)، أو العروبيّون (ناصريّين أو قذّافيّين أو بعثيّين)، أو الحزب الوطنيّ /الجيش الوطنيّ/الزعيم الوطنيّ (مثل "المجاهد الأكبر" بورقيبة وحزبه الوطنيّ في تونس، أو جيش التحرير وقائده الوطنيّ في الجزائر)، أو البروليتاريا والحزب الشيوعيّ.
6- كلٌّ منها يؤْمن بفكرة "نهاية التاريخ" بشكلٍ من الأشكال، بحيث ينتهي التاريخُ يوم ينتصر الإسلامُ ويصبح دينَ الدولة، أو يومَ تتأسّس الدولة القوميّة العربيّة الموحّدة، أو يوم يعمّ قانونُ السوق والدولةُ الوطنيّة أو "الديمقراطيّة" الليبيراليّة، أو يوم تنتصر الاشتراكيّةُ فالشيوعيّة.
7 - وكلٌّ منها يعتبر أنّ فلسفته السياسيّة هي الوحيدة الصحيحة، وكلّ ما خالفها كفرٌ دينيّ أو خيانة سياسيّة: أكانت نظريّة "الخلافة الإسلاميّة" (سنّيّة أو إمامة شيعيّة)، أمْ نظريّة "الثورة العربيّة" (الناصريّة أو العصمتيّة ـــ نسبة إلى عصمت سيف الدولة ـــ أو البعثيّة أو "الكتابيّة الخضراء" الليبيّة)، أم النظريّة السياسيّة الوطنيّة و/أو "الليبيراليّة" (مثل البورقيبيّة في تونس والبومدينيّة في الجزائر ونظريّات الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في بلاد الشام)، أم النظريّة الاشتراكيّة ــــــــــ الشيوعيّة "العلميّة" (أكانت لينينيّةً أمْ ماويّة أمْ تروتسكيّة أمْ فوضويّة أمْ مجالسيّة...)
***
إنّ المتمعّن في هذه "العجاف السبع" من منظورٍ أنسنيّ يدرك أنّنا لم نخرج، إلى اليوم، من فلسفة التاريخ السياسيّة الخلاصيّة، والفردوسيّة العقائديّة التي تجعلنا نتقاتل وننقلب بعضنا على بعض، لنعود إلى المربّع الصفر القديم، أكثر ممّا نخدم بلداننا والإنسانَ المتعدّدَ الأبعادِ في أوطاننا.
لقد وصلنا الآن إلى الهاوية تقريبًا ــــ بل لم يستكمل بعضُنا بعدُ طاقاتِه التخريبيّة. والشعوب الأخرى تتجاوزنا بسنوات ضوئيّة، وتستغلّ بعضُ قواها استعدادَنا للتقاتل وللتخريب لتنفخَ فيه شرقًا وغربًا بشكل مباشر، أو من خلال وكلاء من العرب والمسلمين أنفسهم.
ولا بدّ، والحالُ هذه، من التوقّف والتقويم والتغيير جذريًّا في اتّجاه أنسنيّ وطنيّ/قوميّ واجتماعيّ ديمقراطيّ اليوم. وإلاّ فإنّنا لن نوّرث أبناءنا وأحفادَنا سوى الخراب.
وإذا كان من الضروريّ البدءُ في التفكير بطريقة جديدة في الفكر والسياسة باتّجاه أنسنيّ سياسيّ جديد، يمكن أن يتشارك في خلقه مناضلون ومثقّفون من توجّهات مختلفة، يقطعون مع انتماءاتهم السابقة ويتقاطعون في مشتركات أنسنيّة وطنيّة/قوميّة وشعبيّة ــــ هي الآن أقرب إلى بعض أطروحات اليسار والوسط التونسيّ والعربيّ ـــــ فإنّه من المهمّ الآن البدء بقبول التعايش المشترك بين مَن سيبقون منتمين إلى الحركات الأربع الكبرى المذكورة أعلاه، وذلك بعيدًا عن أمرين:
أ - الولاء للخارج، أو لوكلائه المحلّيّين والإقليميّين.
ب - استعمال العنف في الداخل بين أبناء الوطن الواحد، مع عدم التنازل عن حقّ المقاومة الوطنيّة للاحتلال الإسرائيليّ أو للاستعمار الأجنبيّ المباشر.
وليكن ذلك التعايشُ في إطار ديمقراطيّ سياسيّ، يقبل بالتعايش السلميّ والتداول السلميّ للحكم، ومفتوحٍ على الإصلاح الجذريّ الوطنيّ والاجتماعيّ في صالح الشعب؛ بما في ذلك الإصلاح الجذريّ للديمقراطيّة السياسيّة نفسها في اتّجاهٍ أكثر مباشرةً من ناحية، وأكثر محلّيّةً من ناحية ثانية. وهنا لا بدّ من الاستفادة من تراث روسّو وماركس وباكونين وغيرهم.
***
إنّ أفضل التجارب السياسيّة الآن في العالم هي التجارب الاشتراكيّة الديمقراطيّة الإسكندنافيّة، ومنها ما يقبل برباعيّ تأليفيّ مهمّ جدًّا من الناحية الفكريّة والسياسيّة:
أ - القبول بدين رسميّ للدولة، من دون أن يمنع ذلك من تكوين دولة مدنيّة ديمقراطيّة تقبل بعلمنةٍ تُوفّر حقوقَ الإنسان وحرّياتِه الكونيّة.
ب - هذا "الدين الرسميّ" يحافظ على الوطن/الأمّة، من دون إقصاء الأقلّيّات الداخليّة من ناحية، ومع الانفتاح على الإنسانيّة من ناحية ثانية.
ج - ويوفّر الحريّة والديمقراطيّة السياسيّة من دون شكليّة تمثيليّة نسبيًّا، ولا مثاليّة سياسيّة في الوقت ذاته.
د - ويستفيد من إيجابيّات الليبيراليّة والاشتراكيّة معًا، في تصوّر اشتراكيّ ديمقراطيّ يحقّق منوال تنمية بشريّة هو الآن أفضل المناويل في العالم في بلدان مثل فنلندا والسويد وغيرهما.
على أنّ تجربة هذه البلدان يجب ألّا تصبح "مثالًا نموذجيًّا" يجب تقليدُه حرفيًّا، ويعلن نهايةَ تاريخٍ جديدةً. إنّها تجربة متقدّمة يمكن الاستئناسُ بها محلّيًّا، مع تبيئتها وفق خصوصيّات كلّ بلد أو منطقة.
المطلوب منّا الآن أمران:
- الدعوة إلى الإرساء المشترك لأسس التعايش الوطنيّ السلميّ لتنظيم الاختلاف والصراع الديمقراطيّ.
- العمل على الخلق التشاركيّ لحركة فكريّة ــــــ سياسيّة أنسنيّة سياسيّة جديدة، لا تقدّم نفسَها كعقيدة سياسيّة خلاصيّة جديدة، ولا تدعو إلى التضحية بقرابين جديدة على معبد التاريخ لتنهيه بطريقة أخرى؛ بل كفلسفة أنسنيّة سياسيّة نسبيّة ومفتوحة وديمقراطيّة، تقدّم مشروعًا سياسيًّا جديدًا (اشتراكيًّا ديمقراطيًّا جديدًا وخاصًّا بنا) لوطننا وشعبنا، يليق معرفيًّا وأنسنيًّا بما وصلتْ إليه الإنسانيّةُ اليوم.
***
يا أبناء وطني تعايشوا!
يا أنسنيّي وطني اتّحدوا!
تونس