د. هشام صفيّ الدين لـ"الآداب": الأزمة المالية اللبنانية: جذور ليبرالية وحلول جذرية
27-11-2019

 

(أجراه: بشّار اللقّيس)

أجرت الآداب حوارًا مع د. هشام صفيّ الدين عن الأزمة الماليّة اللبنانيّة. وصفيّ الدين أستاذُ تاريخ الاقتصاد السياسيّ العربيّ الحديث في جامعة كينغز كوليدج، لندن، وصدر له بالإنكليزيّة كتاب بعنوان: Banking on the State: The Financial Foundation of Lebanon (الرهان على الدولة: أسس لبنان الماليّة) عن دار ستانفورد.

 

*كيف تفهم السياسةَ النقديّة اللبنانيّة، د. هشام؟ وعلامَ أسّست؟

- السياسة النقديّة في لبنان أشبهُ بدوغما تتركّز حول تثبيت سعر الصرف؛ أضف إليها مؤخَّرًا سياساتِ خدمة الدَّيْن العامّ.

تعود السياسة/الدوغما هذه إلى عهد الاستقلال، وتَعتبر أنّ الضمانة الوحيدة لاستقرار العملة هي تغطيتُها بمعدنٍ ثمين (الذهب) و/أو ربطُها بعملةٍ صعبة (هي الفرنك حتّى العام 1948، والدولار منذ العام 1997). إذًا، منذ الاستقلال، لم تَربطْ هذه السياسةُ استقرارَ العملة بالنموّ الاقتصاديّ، وبتحسينِ شروط التبادل التجاريّ لصالح لبنان، بل على العكس: كانت وسيلةً لتأبيد طغيان قطاع الخدمات وتجارة الاستيراد على حساب قطاعَي الزراعة والصناعة. فالعملة الثابتة ذاتُ القيمة المرتفعة تخدم المستورِدين، وتضع ضوابطَ على قدرة الدولة على تحفيز النموّ الاقتصاديّ عبر تكبيل قدرتها على التحكّم بالكتلة النقديّة. وقد أدّى ذلك إلى وجود عجزٍ دائمٍ في ميزان لبنان التجاريّ - - وهو عجزٌ كان يجري تعويضُه تاريخيًّا من خلال تحويلات المغترِبين، وجذبِ الرأسمال المشبوه الذي كان يحتمي خلف السرّيّة المصرفيّة، أو غير المشبوه الذي يبغي الاستفادةَ من الفوائد المرتفعة، ومن خلال الدخل الناجم عن قطاع الخدمات (وعلى رأسها السياحة). وهذه الموارد تراجعتْ جميعُها في السنوات الأخيرة، فانقلب العجزُ في الميزان التجاريّ إلى عجزٍ في ميزان المدفوعات، أيْ إلى عجزٍ في دخول الأموال إلى لبنان مقابل خروجها.

 

* ما معنى تثبيت سعر صرف الليرة كلّ هذه السنوات؟ وهل يُحسب الأمرُ إنجازًا لحاكم مصرف لبنان؟

- أوّلا، يجب أنْ نميّز بين استقرار سعر الصرف، أيْ عدم وجود تحوّلاتٍ كبيرةٍ وزئبقيّةٍ فيه، وهو أمرٌ محمودٌ وضروريٌّ في أيّ اقتصادٍ صحّيّ؛ وبين التثبيت المطلق، أيْ الالتزام بسعرٍ محدّدٍ لليرة مقابل عملةٍ أخرى مهما كلّف الثمن، كما هو الحال اليوم.

فتثبيت سعر الصرف المطلق كلَّ هذه السنوات - كسياسةٍ يتيمةٍ - ذو مفاعيل اقتصاديّة واجتماعيّة سيّئة: اقتصاديًّا، بالإضافة إلى ما ذكرتُه من عجز الدولة عن زيادة الكتلة النقديّة (أيْ طبع الليرة) بما يتناسب مع سياساتها التنمويّة، يؤدّي تثبيتُ سعر الصرف إلى تبعيّة ماليّة أوتوماتيكيّة؛ أيْ يتأثّر سعرُ العملة المحلّيّة بشكلٍ تلقائيّ بهبوط العملة المربوطة بها وصعودِها، ويصبح الاقتصادُ المحلّيّ (لبنان في هذه الحالة) مرهونًا باستقرار الاقتصاد الأجنبيّ (الفرنسيّ في حال الربط بالفرنك والأميركيّ في حال الربط بالدولار). أمّا اجتماعيًّا، فيؤدّي تثبيتُ سعر الصرف لمدّة طويلة - مرفقًا بالتهليل الإعلاميّ لهذه السياسة، وبالسماح بتداول العملتيْن في الداخل اللبنانيّ - إلى ثقةٍ عمياءَ بسعر الصرف أساسًا للاستقرار النقديّ عند عامّة الناس، بحيث يصبح أيُّ خروج عنها مدعاةً لانهيارٍ كاملٍ للثقة بها. بمعنًى أخر، تتحوّل الثقةُ الكاملة إلى شكٍّ كامل بين ليلةٍ وضحاها.

ثانيًا، وفي ظلّ فرق فائدة كبير بين الودائع على العملتيْن، كما هو الحال في لبنان، يشجِّع تثبيتُ سعر الصرف على المضاربات الماليّة، بحيث يجني المضارِبُ فائدةً مرتفعةً على أمواله بالعملة الوطنيّة، مع ضمان تحويل الأرباح إلى عملةٍ صعبةٍ من دون خسائر. فما بالكم عندما يكون المُضارِبُ هو القطاع المصرفيّ برمّته؟!

قد يُحسب لحاكم مصرف لبنان تثبيتُه للعملة في المرحلة الأولى لأنّه تمكّن من خلق ثقةٍ بالعملة الوطنيّة عقب انهيارها أثناء الحرب الأهليّة وبعيْدها - - مع أنّه كان الأجدى تثبيتُها مقابل سلّةٍ من العملات كي لا تتشكّلَ تبعيّةٌ كاملةٌ للدولار. لكنّ ذلك التثبيت يُحسب عليه بعد أنْ بات التثبيتُ لازمةً غيرَ مرتبطة برزمةٍ متكاملةٍ من السياسات النقديّة الهادفة. ويُحسب عليه أيضًا عدمُ سعيه، مع الوقت، إلى فكّ هذا الارتباط تدريجيًّا قبل انهيار الثقة وفوات الأوان - - كما هو حاصل اليوم - - فتصبح هذه السياسةُ إدانةً لحكمه إذا ما نظرنا في كيفيّة جعل السعر الثابت وسيلةً لجني الأرباح المصرفيّة عبر المضارَبات، نتيجةً لسياسات مصرف لبنان نفسها، المعروفة بـ"الهندسات (إقرأ الخزعبلات) الماليّة."  

 

* ما هي الأخطاء التي أدّت إلى تركّز رأس المال في يد حفنةٍ من المُودعين؟ وإلى أيّ مدى أثّرت المضارباتُ العقاريّة في ذلك؟

- المضاربات العقاريّة هي، في الأغلب، نتيجةٌ وليست سببًا في تركّز رأس المال. ولهذا تصبح تلك المضاربات ملاذًا لفائض رأس المال المركّز، خصوصًا بسبب غياب ضرائب عليها، أو غياب فرصٍ أخرى للاستثمار المربح كما هي الحال في لبنان. وفي المقابل، هناك آليّتان أساسيّتان لتركّز رأس المال: الأولى هي الاحتكار الذي يولّد فائضَ أرباح طائلة لدى حفنةٍ من الرأسماليين (أوليغارشيّة) مع غياب المنافسة؛ والثانية هي النظام الضريبيّ غير العادل الذي لا يقوم بإعادة توزيع الثروة.

في الحالة اللبنانيّة تحديدًا، أضف إلى ذلك سياساتٍ ماليّةً حقّقتْ فائضًا في أرباح المصارف وكبارِ المودعين. وهذه الأرباح هي حصيلةُ نوعٍ من أنواع احتكار سوق الدَّيْن العامّ. ومن ثمّ لا يمكن وصفُ هذه الآليّات بالأخطاء، بل بسياساتٍ وبُنًى ماليّةٍ تخدم مصالحَ طبقة معيّنة على حساب طبقةٍ/ات أخرى.

وبالمناسبة، فإنّ ظاهرة تركّز رأس المال اليوم هي ظاهرة عالميّة لا تقتصر على لبنان، وإنْ كان نظامُ لبنان الضريبيّ وغيابُ الرقابة على الاحتكارات المرتبطة بسلطة زعماء الطوائف من أسوإها.

 

* ما شكلُ العلاقة اليوم بين الدولة والقطاع المصرفيّ؟

- العلاقة كانت دائمًا على شكل تبعيّة الدولة للقطاع المصرفيّ، لا العكس، وإنْ تفاوتتْ درجةُ هذه التبعيّة عبر تاريخ لبنان الحديث بحسب الظروف السياسيّة والاقتصاديّة. وقد تمأسستْ هذه العلاقةُ من خلال "قانون النقد والتسليف" (1963)، قبل أن تستعيدَ الدولةُ شيئًا من سلطتها على القطاع بعد أزمة بنك إنترا من خلال إصلاحات عديدة. لكنْ ما لبثتْ أن عادت التبعيّةُ لتسيطر على هذه العلاقة في عقد السبعينيّات. ثمّ دخلتْ مرحلةً من التذبذب أثناء الحرب الأهليّة، لتعودَ وتميلَ بشكلٍ فاضحٍ لمصلحة القطاع المصرفيّ منذ ما بعد الحرب الأهليّة حتّى يومنا هذا.

لا يمكن أنْ نفهم هذه التبعيّة من دون أنْ نفهم دورَ كلٍّ من "مصرف لبنان" و"جمعيّة المصارف" في تأسيس هذه العلاقة وإعادةِ إنتاجها، خصوصًا مع نموّ ديْنٍ عامّ لم يشهد البلدُ له مثيلًا في تاريخه.

 

* ما هو دور "مصرف لبنان" و"جمعيّة المصارف،" ولا سيّما بُعيْد العام 1992؟

- بحسب "قانون النقد والتسليف،" فإنّ مهمّة "مصرف لبنان" هي المحافظة على النقد لتأمين نموّ اقتصاديّ واجتماعيّ، وذلك عبر المحافظة على سلامة النقد والاستقرار الاقتصاديّ، وسلامةِ أوضاع النظام المصرفيّ، وتطويرِ السوق الماليّة والنقديّة. كما يقدّم "المصرف" المشورةَ إلى الحكومة بصدد سياساتها الماليّة والاقتصاديّة.

أمّا "جمعيّة المصارف،" فهي "لوبي" خاصّ لأصحاب المصارف، تأسّس سنة 1959 للدفاع عن مصالح القطاع، ومنها منعُ "المصرف المركزيّ" من تنظيمه. وقد نجحت المصارفُ في ذلك إلى حدّ بعيد. وبعد الحرب الأهليّة، ساعد دورُ المصارف المحلّيّة في تمويل الدَّيْن العامّ على تعاظم سطوة المصارف على الدولة حتى باتت أشبهَ بمؤسّسات سياديّة.

 

* هل نحن ذاهبون إلى الانهيار النقديّ؟

- ليس سرًّا أنّنا دخلنا في أزمةٍ نقديّةٍ حادّة، وبتنا على حافّة الانهيار. لكنّ حصول انهيار كبير يَعتمد، في المحصّلة الأخيرة، على أمريْن أساسيْن ومترابطيْن:

الأوّل، والأكثر إلحاحًا، هو قدرةُ المصرف المركزيّ على إمداد السوق الماليّة، بما فيها البنوك، بما تحتاجه من الدولارات. وقد تعهّد حاكمُ مصرف لبنان بذلك مؤخّرًا عبر عرضه الدولارات لقاء 20% فائدة. لكنّ البنوك فضّلتْ وضعَ قيودٍ على السحوبات. وعليه، لن نتمكّن من معرفة الطلب الحقيقيّ على الدولار، وقدرةِ مصرف لبنان على تأمينه، إلى حين تعليق هذه الضوابط، أو انفجار الأزمة المعيشيّة بشكلٍ كارثيّ.

والثاني هو قدرة الدولة على إعادة هيكلة الدَّيْن العامّ، أيْ: قدرتُها على دفع ما يتوجّب عليها من فوائد على الديْن، أو دفع أصل الديْن، أو إعادة تدوير الديْن. فالتمنُّعُ عن سداد الديون، أو الفشلُ في إعادة هيكلتها في أيّ دولةٍ لا تملك سطوةً (عسكريّةً أو غير ذلك) على دائنيها، يؤدّي عادةً إلى هبوطٍ حادٍّ في سعر العملة، وأحيانًا إلى انهيار كامل.

والمؤشِّرات اليوم غير مطَمْئنة، حتى باتت احتمالاتُ الانهيار النقديّ عاليةً. فقد تضخّم الدَّيْنُ العامّ إلى أحد أعلى المستويات في العالم (١٥٠٪ من الناتج المحليّ) في بلدٍ غير منتِج، وترافق ذلك مع انهيار الثقة بالقدرة على الدفع. وما الهبوطُ الدراماتيكيّ لأسعار سندات الخزينة مؤخّرًا إلّا دليلٌ على ذلك.

صحيح أنّ استحصال أموال مؤتمر سيدر، المستبعَد حاليًّا، من شأنه أنْ يخفّفَ من عبء هذا الدَّيْن مرحليًّا، لكنّه يعزِّز من المشكلة في المدى البعيد؛ ذلك لأنّه يُراكم ديونًا جديدة - - أيْ يؤجّل الانهيارَ ولا يعالجه.

من دون إجراءاتٍ جذريّة، ستستمرّ كرةُ النار في التدحرج. ومن دون تدقيقٍ في حسابات القطاع البنكيّ ومصرف لبنان، سيبقى الخوفُ من الانهيار الكامل موجودًا، لكنّه غيرُ معلوم بشكل قطعيّ.

 

* هل ثمّة إمكانيّة لإجراء مراجعة للسياسات النقديّة في لبنان، مع افتقارنا إلى سياسات اقتصاديّة وماليّة أصلًا؟ ومن أين يبدأ الحلّ لتصحيح الوضع النقديّ في لبنان؟

- في المدى القريب، هناك خطوتان أساسيّتان لا بديلَ منهما قبل الشروع في أيّ خطّةٍ إنقاذيّةٍ عامّة:

1) وضع قيودٍ على خروج الأموال من لبنان. وهذا ما رفض إقرارَه مصرفُ لبنان، ولكنْ تمارسه الآن المصارفُ الخاصّةُ بقرارٍ استنسابيّ - - وهو يكشف مَن يملك السلطةَ الفعليّة،  ألا وهو جمعيّةُ المصارف لا المصرف المركزيّ.

2) إصدارُ كشفِ حساب شفّاف وشامل عن موجودات مصرف لبنان خصوصًا، والقطاع المصرفيّ عمومًا؛ وإصدارُ جردةٍ بكلّ الأموال التي جرى تحويلُها إلى الخارج؛ وجردةٍ بتركيبة الدَّيْن العامّ من ألفها إلى يائها. حينها فقط يمكن حسابُ تبعات الإحجام عن تسديد الديْن العامّ، وتقديرُ حجم الأزمة بشكلٍ موضوعيّ، ومن ثمّ محاسبةُ المسؤولين وتحميلُ المنتفعين الكلفةَ الكاملة.

إنّ "قانون النقد والتسليف" يعطي مفوَّضَ الحكومة حقَّ الاطّلاع على جميع سجلّات المصرف ومستنداته. لكنْ من غير المتوقّع أنْ تقوم السلطةُ السياسيّةُ بذلك ما دام "حاميها حراميها،" كما يقول المثلُ الشعبيّ؛ فسارقُ الشيء لن يعطيه.

في غياب هذه المعطيات، سيستمرّ اللغطُ حول الحلول، وسيصعب التنبؤُ بما سيحدث، وسنغرق في لعبة طرح الخطط الإنقاذيّة. وحتى اللحظة، فإنّ معظمَ تلك الخطط هي خطط إصلاحيّة، لا جذريّة ثوريّة. فالأولى (أي الخطط الإصلاحيّة) تطالب بإجراءاتٍ عامّةٍ من قبيل: فرض ضرائب تصاعديّة، وتخفيض الفائدة على سندات الخزينة، وفرض التداول بالعملة الوطنيّة، ورفع الفائدة على أرباح الفوائد والأرباح العقاريّة. وتَستخدم تلك الخططُ مصطلحاتٍ عموميّةً، مثل نظام ضريبيّ "عادل،" ولا تُعارض الخصخصةَ بالمبدأ بل "في هذه الظروف فقط،" إلخ. وهي كانت لتَصلُحَ لإنقاذ النظام من نفسه ما قبل الأزمة؛ أما وأنّ النظامَ بات اليومَ في مأزق، وباتت الأزمةُ إلى تفاقم، فإنّ الظروفَ الاستثنائيّة تتطلّب حلولًا استثنائيّة.

وإذا كان الخلافُ في جوهره طبقيًّا، بين قلّةٍ من الأثرياء وبين عامّة الشعب، فالحلّ هو في إعادة توزيع الثروة بأبسط الطرق، ألا وهو حجزُ أموال هذه الطبقة الأوليغارشيّة من دون استثناء، ومصادرتُها، واستخدامُها (إلى حين النهوض باقتصادٍ تنمويّ) من أجل وضع شبكة أمان اجتماعيّة: كالتغطية الصحّيّة الشاملة، وفرض سقوف منخفضة على الإيجارات، معطوفًا على مصادرة الشقق الفارغة (كتلك الموجودة في وسط البلد) من قِبل العائلات المحتاجة، ومجّانيّة التعليم. وكلّ ذلك بهدف حماية عامّة الناس من تداعيات الانهيار، بدل التركيز فقط على حلول فرديّة، أيْ حماية مقتنيات كلّ فردٍ على حدة.

حينها يصبح سيناريو شطب الديْن وهبوط العملة غيرَ كارثيّ، بالمعنى النسبيّ؛ ذلك أنّ قيمة أيّ عملة لا تكمن في سعر الصرف، بل في قدرتها الشرائيّة. وعندما تتأمّن حاجيّاتُ الإنسان الأساسيّة، من طبابةٍ وتعليمٍ ومسكن، فإنّ العوَز الفرديّ الناتج من تبخّر أموال الناس لا يؤدّي إلى تبعاتٍ اجتماعيّةٍ كارثيّة.

إنّ هذه المقاربة المتكاملة، والجذريّة نسبيًّا (فهي ما زالت تحت سقف الدولة البورجوازيّة ولكنْ دولة الرعاية الاجتماعيّة)، هي التي تحمي اللبنانيين في نهاية المطاف في حال انهيار الليرة، إلى حين وضع خطة تنمويّة إنتاجيّة. إنّ أيّ مشروع تنمويّ ممكن، لكنّه ليس بالأمر السهل في بلدٍ - كلبنان - لا يملك سوقَ إنتاج داخليّة، وفي ظلّ أزمة اقتصاديّة عالميّة تجعل من التصدير حقلًا شديدَ المنافسة.

إنّ السلطة في لبنان أبعدُ ما تكون عن مقاربةٍ كهذه؛ مقاربةٍ هي بمثابة انتحارٍ طبقيٍّ وسياسيٍّ لها. لذا، فإنّ وسائلَ مصادرة الأموال المنهوبة واستعادتِها تتطلّب قراراتٍ حكوميّةً عبر وقف التحويلات الى الخارج - - وهذا صعبُ المنال حاليًّا. البديل هو التركيز على الممتلكات غير القابلة للنقل: كالعقارات ("سوليدير" مثال ممتاز)، والشركات والأملاك العامّة المنهوبة التي يستطيع الشعبُ أن يسيطرَ عليها من دون وساطة الحكومة. لكنْ شرطُ ذلك توافرُ أعداد كبيرة، وأطرٍ تنظيميّةٍ متينة، تحمي هذه الخطوات من ردّة فعل النظام العنيفة المتوقّعة. هذا خيارٌ تصعيديّ، يذهب أبعدَ من "الاستعادة الرمزيّة" للأماكن العامّة، على ما نشهده اليوم؛ وأبعدَ من التركيز على المرافق العامّة دون الممتلكات الخاصّة للأوليغارشيّة، التي ما زالت في أغلبها بمنأًى عن الاحتجاجات.

فهل تتبنّى قوى التغيير داخل الانتفاضة هذه المقاربةَ بشكلٍ واسع، وتتوحّد حولها، وتخطِّط لها؟

لندن