بعد نزولِ القهوة إلى المعدة، وصعودِ النيكوتين إلى الرأس، بدأ يومٌ آخر من الألم الذي يسبِّب لوليد، أحيانًا، طنينًا تحت الأذن، ومغصًا في المعدة. ربّما كان مرضَ القلب، أو أعراضَ سرطانٍ قاتل؛ هكذا كان يحدِّث نفسَه. لكنْ، مع تقدّم ساعات اليوم الطويلة، كان الألمُ يخفّ تدريجيًّا.
بعد السيجارة الثانية كان وليد يترك مكانَه في المقهى ويتّجه إلى عمله في مركز الموارد المائيّة. كان عملُه بسيطًا كأجره: أوراق معاملات إداريّة روتينيّة. ثماني ساعات من الانحناء فوق المكتب، يختفي فيها وجودُه. حضورُه أو غيابُه سيّان؛ لا أثرَ يتركه في الآخرين، باستثناء عاملة النظافة، التي كان يعينها بمبلغٍ زهيدٍ يضمن لها، ولأخيها الذي يعاني إعاقةً ذهنيّة، بعضَ البيض والخبز كي لا يموتا جوعًا. ولم تكن إعانةُ وليد لها سوى تمثّلٍ لفكرةٍ ماركسيّةٍ مبتورة، سبق أن قرأها عرضًا في إحدى المجلّات اليساريّة الصغيرة التي كانت ما تزال تَصْدر ردًّا على ظلم العالم وعبثه.
بعد انتهاء دوام العمل، كان يحلو لوليد التجوّلُ قليلًا في وسط المدينة، مارًّا بالأحياء الشعبيّة التي كانت توقظ فيه شعورًا بالانتماء الذي يفتقده في حياته. كان يحلم أنْ يشتري منزلًا في أحد هاته الأحياء، أنْ يتزوّج، وأن يكون له أولاد. ولكنّ هذه الأفكار لم تتعدَّ الأحلام، إذ كانت حياتُه تمضي من غير أنْ يبذل جهدًا كبيرًا؛ وكان ذلك يكفيه. وقد قرأ مرّةً لأحد الشعراء أنّ الحياة تصير متحمّلةً "عندما نحلم بالمستحيل،" أمّا هو فلم يحتملها إلّا حين يحلم بالممكن. وأحيانًا كان يتساءل: "ماذا يمكن أنْ أحقّق؟" أو "بمَ أرغب؟" وكانت أسئلتُه الوجوديّة تنحسر عن رأسه عند قدوم طنين الأذن مجدّدًا.
في هذا اليوم لم تخفَّ درجةُ الألم كثيرًا. كان يجلس في غرفته وحيدًا. أحيانًا، كان يُغمض عينيه ويتنفّس بعمق، علّ الألمَ يزول. كان الألم يختفي بضعَ لحظات، ثمّ يعود أقوى ممّا كان، كأنّما ليعوّضَ من اختفائه. حاول وليد الانغماسَ عبثًا في قراءة روايةٍ أهدتْه إيّاها جارتُه الطالبة الجامعيّة. جارتُه هذه نصحتُه أيضًا بالذهاب إلى الطبيب، لكنّه كان مقتنعًا أنّ ألمَه ليس بسبب مرضٍ عضويٍّ أو نفسيّ. والحقيقة أنّ هذا الألم لم يكن يزعجه كثيرًا في ذاته؛ ما يزعجه هو قدومُه المفاجئ وذهابُه المفاجئ. فعلى الرغم من أنّ حياة وليد لم تكن "مهمّة،" فقد كان كلُّ شيء لديه مضبوطًا زمنيًّا.
بعد أيّام، فقد وليد، لأوّل مرّةٍ في حياته، الإحساسَ بالزمن. فقد طرأتْ أسئلةٌ ملحّةٌ على ذهنه: هل ثمّة آخرون يحسّون بألمٍ مثلِ ألمي؟ وأين هم؟ وهل يمكن التواصلُ معهم؟ ناقش هذه الأسئلة في إحدى الليالي مع جارته الطالبة، إلّا أنّها لم تستطع أنْ تجيبَه. وربّما أحسّت بالانزعاج، إذ لاحظ سكوتَها المفاجئ وإجاباتِها المقتضبة على غير عادتها. في تلك الليلة، عندما بات وحده مع طنين أذنه الذي بلغ الذروةَ في صخبه، تمدّد على سريره، ووضع رأسَه تحت الوسادة شادًّا عليه بقوّة. حاول أنْ يَشْغلَ ذهنَه بأيّ فكرة. وفجأةً، حضرتْ له فكرةٌ شديدةُ الغرابة:
تخيّلَ العالمَ فارغًا من كلّ شيء، حتّى منه. وتخيّلَ وعيَه وألمَه عدمًا. كان حضورُ الفكرة قويًّا جدًّا إلى درجة توقّف الألم. حين توقّف وليد عن التفكير بهذه الفكرة، عاد الألمُ مجدّدًا. عندها، استحضر ذهنَه وذكاءه، وبدأ يفكّر في العدم مرّةً أخرى، فاختفى الألم.
في صباح اليوم التالي، كان وليد يجلس في مكانه المعتاد في المقهى يدخّن سيجارتَه وتظهر عليه علاماتُ الفخر والمرح. لاحظ ذلك أحدُ روّاد المقهى الفضوليين، فاقترب منه وسأله: "أنت مرحٌ على غير عادتك، ما السبب؟" نهض وليد، وأطفأ سيجارتَه، وأجاب: "نعم أنا مرح اليوم على غير العادة لأنّ خواء العالم لم يعد يسبِّب لي طنينًا في الأذن."
بغداد