كان شعرُ ذيله مُجمَّعًا في ضفيرة، بينما لاح جلدُه شاحبَ البياض في ضوء المساء. اقترب الرجلُ منه، مُدْنيًا يدَه من فمه. قرّب الحصانُ وجهَه من الكفّ المفتوحة، ولعق طابعَ السُّكّر. داعب الرجلُ غُرّةَ الحصان بيده الطليقة، بينما وقفتُ ساكنًا أراقبُه. رَبَّتَ بلطفٍ على فكّ الحصان الأسود، ثمّ ألحقه ببقيّة الجياد في الإسطبل، قبل أنْ ينصرفَ ويتوارى في عتمة بيته.
استقبلتْني رائحةٌ قويّةٌ خانقة، هي مزيجٌ من رائحة الخيل والتبن والأرض. اقتربتُ من الحشوة التي سأقضي عليها ليلتي وأنا أردِّد في نفسي: "سأعتاد هذه الرائحة. يجب أنْ أعتادَها؛ فهي أفضلُ من رائحة الدم والخوف التي خلَّفتُها ورائي."
طوال الأيّام الماضية، راقبتُ الروتينَ اليوميّ لأصحاب المزرعة. كان الرجل يعمل نهارًا في الأرض، فيحرثُها بالجرّار، ويُشغّل مضخّاتِ الماء كي يسقيَها، ويهتمُّ بإطعام الجياد. أمّا المرأة فكانت تغيب داخل البيت صباحًا، وتخرج أوّلَ المساء إلى الباحة كي تهتمّ بترتيب عناقيد العنب وثمارِ المشمش في الصناديق الخشبيّة.
لم أشاهدْهما يغادران المزرعةَ إلّا مرَّةً بالسيّارة. وقتَها، توجَّها للتبضّع من متجر كارفور، الذي يقع وسط مدينة فوفير (vauvert) البعيدة أربعين كيلومترًا.
كانت المرأة الأربعينيَّة متجهّمةً دومًا. وكان مزاجُ الرجل الستينيّ عصيًّا على الفهم. علاقتُهما أيضًا لم تكن مفهومة. من الممكن أنْ تكون ابنتَه، أو قريبتَه، أو زوجتَه. لم أرَ أيَّ علامات ودٍّ بينهما، ما عدا مرّةً شاهدتُها فيها وهي تحلق شعرَه وذقنَه، في حين جلس أمامها على كرسيّ خشبيّ بسكونٍ واستسلامٍ تامّيْن.
كان لديهما أربعةُ جياد: ثلاثة بيضاء، وواحد أسود. حين لمحتُ، أوّلَ مرّة، الأوشامَ الدائريّةَ على أجسادِها، تخيّلتُ الألمَ الذي شعرتْ به. تخيَّلتُ اقترابَ الحديد الحامي من لحمها، وهُيّئ إليّ بأنّني شممتُ في الهواء من حولي رائحةَ اللحم المكويّ. تذكّرتُ رائحةَ الشوارع في حلب، والأشلاءَ في كلّ مكانٍ حولي، واللحمَ المحترق. سمعتُ من جديدٍ صوتَ الصراخ والعويل. وضعتُ يدي على أذنيّ، لكنّ الصراخَ تواصل داخل رأسي. رأيتُ الوجوهَ المتشنّجةَ بالألم، والمُسودَّةَ بالسخام، وتعالى من حولي صوتُ انهمار البراميل المتدحرجة من السماء فوق البيوت والطرق.
"الخيول لا تنام إلّا واقفةً،" سيقول لي الرجلُ لاحقًا. "لو وجدتَ يومًا حصانًا جالسًا على الأرض فمعنى ذلك أنّه يعاني خطبًا ما. قد يصاب الحصانُ بتسمّمٍ أو بعدوى من الماء. الجياد كائنات حسَّاسة يجب الحذرُ عند العناية بها."
سيعلِّمني الرجلُ لاحقًا كيف أمسكُ الحصانَ من فكّه المغلق، وكيف أربِّتُ على وجهه بلطف حتّى يعتادَني. سأحفظ جدولَ النظام الغذائيّ لكلّ حصان، وسأتعلّم أنَّ لكلّ حصان حمْيتَه: فما يأكلُه ماكسْ لا يأكله كابْري، حصاني المفضّل بالتماعة جلده الأسود في ضوء النهار.
سأعرف وأتعلّم كلّ ذلك لاحقًا.
لكنّني الآن هائمٌ على طُرُق لالونْ، التي تنتشر فيها المزارعُ وكرومُ العنب. أحملُ رأسي فوق كتفيَّ مثلَ حبَّة جوزٍ فارغة. أنا سجينُ خوفي ومناماتي. كلّما نمتُ، رأيتُ نفسي داخل برميلٍ يتدحرج على الأعشاب الطريَّة المرتوية بدماء أهلي وجيراني. يتدحرج البرميلُ الأحمرُ حتى يَعْبرَ الحدودَ وينْفذَ بي إلى أرض الخلاص، بينما يقتحم حصانُ طروادة المشؤومُ بلدي. كلّما رأيتُ هذا المنامَ صرختُ، واستيقظتُ مذعورًا.
عندما يشتدُّ عطشي، كنتُ أفكّرُ في الشرب من مياه المستنقعات المنتشرة حولي، ثمّ أتراجع. فبعد كلِّ ما مررتُ به، سيكون من الغباء أنْ أموتَ من ماءٍ ملوّث! كنتُ أقاوم حتّى آخر النهار، ثمّ أقتربُ من أعلى مبنًى في المنطقة: كان برجًا متوسّطَ الطول، يعلوه تاجٌ دائريّ. فهمتُ، بعد مراقبته، أنْ لا أحدَ يحرسه، وأنّ ثلاثة رجالٍ يعملون داخله ويتحرّكون في دائرةٍ زمنيّةٍ محدَّدة تنتهي عند الرابعة مساءً. بعد انصراف سيّارة آخرِ واحدٍ منهم، أدفعُ البوّابةَ وأدخل. ألتقطُ قواريرَ الماء البلاستيكيّة التي أجدها، وثمارَ الحديقة الموجودة في الباحة الخلفيّة. أشرب الماءَ الساخن، ثم أغرس أسناني في حبَّات المشمش مستمتعًا بنسغها المنعش.
آخرَ المساء، حين يصبح الهواءُ مُنعشًا، كنتُ أنهض لأتجوَّل، فتدهشني الحيواناتُ من حولي. تدهشني حركةُ السناجب الرشيقة. وتدهشني رؤيةُ طائرٍ واقفٍ بثبات على ظهر ثورٍ ينقره، بينما الثورُ يمضغ العشبَ بلامبالاة. أمشي حتّى أتعب، ثمّ أنامُ في العراء على أيّ رقعة أرض، تهدهد نومي أصواتُ الحشرات الليليّة ونقيقُ الضفادع. صباحًا، يوقظني صهيلُ الخيل ووقعُ حوافرها على أرض الحقل المجاور.
كنتُ أشعر بشيءٍ يشبه السلام، لولا خوفي من رجال الشرطة. فلقد مررتُ بشتاءيْن قاسييْن حتّى وصلتُ هنا. عبرتُ البحرَ مع ثلاثين شخصًا كانوا هاربين من الموت مثلي. تكوّمنا كتلةً واحدةً على زورقٍ، صوتُ محرِّكِه يشبه صوتَ عجوزٍ كثيرِ التدخين. وحين بلغتُ إسطنبول تغذّيتُ، مثلَ غيري، بقسائم الأمم المتّحدة. ثمّ تدبَّرتُ أمري، وعملتُ عتّالًا، حتى تقوَّس ظهري.
***
أنا هنا، لكنّني لا زلتُ هناك.
أتابعُ أخبارَ الأحياء العالقين هناك، وأخبارَ المجزرة التي لا تنتهي: تتوقّف أيّامًا، تمرُّ بسرعة مثل لحظات، ثمّ تستردّ المجزرةُ أنفاسَها وتعاود الهجوم.
الشتاء الماضي كان قاسيًا علينا في حلب. حوصرنا في ليلةٍ شبيهةٍ بالقيامة. تصاعدتْ أصواتُ استغاثاتنا حتى السماء، لكنّ بقيّة سكّان العالم اكتفوْا بمشاهدة موتنا البطيء على شاشاتهم. في تلك الليلة عاد الناسُ من أعمالهم، فارتدوْا بيجاماتِهم القطنيّة، وجلسوا ليشاهدوا أخبارَ الساعة بكلّ هدوء. ربّما وضعوا في تلك الليلة مشروبًا يليق بما شاهدوه وهم يُقلّبون القنواتِ الإخباريّة. ليلةٌ مثل تلك الليلة كانت تحتاج إلى فودكا روسيّة، أو إلى نبيذٍ من شيراز، لا هو بالمرّ ولا بالحلو.
في اليوم الذي وجدني فيه الرجلُ ممدَّدًا على الأرض، عانيتُ الحرَّ والعطش. كنتُ أتنفّس بصعوبة، متسائلًا كيف يمكنني أن أجدَ طعامًا وماءً وأنا لم أرَ أيَّ متجرٍ أو محلِّ بقالة في هذه المنطقة. تابعتُ بنظري يعسوبًا طويلَ الجناحين، وسط سرب حشراتٍ دقيقةٍ ما انفكّ يحلّق فوق وجهي. فقط لو أجد عملًا. لا أحتاج إلّا إلى وثائقَ رسميَّة تُثْبت حسنَ نيَّتي. لكن المُهرِّب أمرني بالتخلّص من أوراق هويّتي فور عبوري الحدودَ.
أستطيع تغييرَ اسمي، وتركيبَ عدسات لاصقة فوق عينيّ الداكنتين. وأستطيع أيضًا تشقيرَ شعري. لكنّني سأظلّ عربيًّا مجهولًا من دون أوراق ثبوتيّة، ومن دون إجاباتٍ لأسئلتهم. سيسألونني كيف عبرتُ حدودَ بلادهم، وربّما زجّوا بي في السجن، أو أعادوني من حيث أتيت.
في الأيّام الماضية كنتُ أرتعب كلّما مرّت سيّارةٌ على الطريق، وأنكمشُ محاولًا جعلَ نفسي غيرَ مرئيّ. لحسن الحظّ، المزارع هنا بعيدةٌ بعضُها عن بعض، وتسيِّج بعضَها أشجارُ صنوبر عالية؛ ما سهَّل اختبائي عن الأنظار.
في اليوم الذي وجدني فيه صاحبُ المزرعة ممدَّدًا على الأرض وفاقدًا الوعيَ، كنتُ مختبئًا بين شجرتين. ثمّ لفت انتباهي وقعُ خطوات. أوّلَ الأمر، لم أرَ الكائنَ المقتربَ منّي. كان يركض في الممرّات الضيّقة الترابيّة، التي تفصل بين شجيْرات العنب، بصمتٍ وحذر. ظننتُ أنّه أحدُ الأرانب البرّيَّة التي اعتدتُ رؤيتَها تتقافز على حافّة الطريق الإسمنتيّ. لكنْ، حين نبح، وكشّر أنيابَه في وجهي، رأيتُه.
ركضتُ مذعورًا نحو السياج من دون تفكير. صعقتني كهرباءُ السياج، فصرختُ، قبل أن يُغمى عليّ.
وقتَها، أدركتُ لماذا لم تكن توجد في المكان أجهزةُ كاميرا لمراقبة المتسلِّلين.
*La laune: منطقة ريفيّة تابعة لمحافظة فوفير (vauvert) في جنوب فرنسا، شهيرة بكروم العنب والخيل ومصارعة الثيران.