فأمطر الربّ على سدوم وعمورا كبريتًا ونارًا من عند الربّ من السماء،
وقلب تلك المدن، وكلّ الدوائر، وجميع سكَّان المدن، ونبات الأرض.
ونظرت امرأتُه من ورائه، فصارت عمود ملح
سفر التكوين
ـــــ 1 ـــــ
ـــــــــ لقد قتلت رجلاً، غادر المكان بسرعة.
يقف على مفترق الطرق، خلفهُ البلدة القديمة تميل شمسها نحو الغرب، والطريق الجنوبيّ ما زال خاليًا من المارَّة.-
هيّا بسرعة، ماذا تنتظر؟ اهرب قبل أن يمرّ أحدهم ويرى الجريمة، وعندها إن لم تفقد حياتك فستفقد حرِّيَّتك إلى الأبد. لكنْ ماذا لو أنَّ الرجل لم يمت بعد، كيف أتركه يموت هنا وحيدًا، ربَّما استطاع الأطبَّاء إنقاذه.لا بدَّ أنَّك فقدت عقلك. حسنًا، تريد أن تحمله إلى المشفى، فإنْ مات هناك سيتَّهمونك بالجريمة التي ارتكبتها، وإن عاد الرجل حيًّا سيتّهمك هو بمحاولة قتله. لكنْ كيف سأتركهُ هنا وحيدًا غارقًا في دمه. سأخبرهم بالحقيقة يا سيِّدي القاضي. أنا لم أقتلهُ، هو من ظهر لي فجأة وأنا متّجه إلى السوق، لأصلح حذائي القديم قبل الذهاب إلى عملي. طلب منِّي نقودًا، فأخبرتهُ أنِّي لا أحمل نقودًا، وأنِّي فقير الحال مثله بل ربَّما أكثر. هاجمني وحاول أن يسلبني ما أملك، لا شكَّ أنَّهُ أراد سرقة معطفي الجديد. يا سيِّدي القاضي، أنا لم أؤذ أحدًا في حياتي كلّها، لم أسرق ولم أقتل. لم أخالف وصيَّة واحدة من وصايا السماء. والسماء ليست تدري بوجودي. كنتُ يا سيِّدي القاضي دائمًا أحيا على طرف الهاوية، أحيا فقط، لأنّني لم أمت بعد. لا تحاول استعطاف المحكمة بقصصك هذه. أنت قتلت رجلاً، ويجب أن يُحكم عليك بالإعدام.-
هيّا، قم وانفض الغبار عن ملابسك، واذهب إلى أيِّ مكان. لم يَرَ أحد الجريمة، فأنت لست القاتل، ولن يستطيع أحد أن يوقع بك ما لم توقع أنت بنفسك. تصرَّف وكأنَّ شيئًا لم يكن، تابع حياتك ببساطة. انسَ أنَّك في هذا اليوم كنت متّجهًا إلى سوق البلدة القديمة لتصلح حذاءك القديم. انسَ أنَّك كنت هنا، انسَ أنَّك رأيت وجه القتيل، هيّا غادر المكان.-
نظر الرجل نظرة أخيرة في وجه القتيل، كان وجه القتيل عابسًا كنائم يرى كابوسًا. اقترب من القتيل قليلاً وانحنى على وجهه. لقد مات لا شكّ، قال الرجلُ ومضى.
ـــــ 2 ـــــ
ذهب يوسف نحو سوق البلدة القديمة. كان يلتفت للخلف كلَّما سمع صوتًا. سيحلّ المساء قريبًا ولن يكتشفوا الجثَّة حتى صباح الغد، أو ربَّما يمرّ أحدهم ويُخبر الأمن. كانت الأفكار تتزاحم في رأسه بسرعة. أيهرب من البلدة ويتّجه شمالاً؟ تلك المدينة في الشمال لا يعرفه أحد فيها! هناك سيجد عملاً في مزارع البرتقال ويمضي بقيَّة حياته. هل فقدت عقلك؟ تريد أن تهرب ولا دليل ضدَّك. بل إنَّ هروبك سيكون الدليل الذي تقدِّمه للسلطات حتى تقبض عليك، سيربط المحقِّقون بين هربك والجريمة. هذه بلدةٌ صغيرة لا يُقتل فيها رجل كلّ يوم. ستهرب. وفي الصباح يكتشفون الجثَّة، ويكتشفون غيابك عن عملك وعن منزلك وعن البلدة، ستقدِّم لهم الدليل أنَّك أنت القاتل.
كان السوق مُزدحمًا. باعة في كلِّ مكان يصرخون على بضاعتهم، ونساء ورجال يساومون ليحصلوا على السعر الأقلّ. البلدة في الظهيرة تبدو وكأنَّها في يوم العيد، الأطفال يتراكضون ويسرقون بعض الفاكهة، فيعلو صوت الباعة يشتمون السارقين الصغار. يقترب يوسف من باعة اللحم الذين صفُّوا رؤوس الذبائح على طاولات فوق الرصيف، وعلى إحدى الطاولات وُضِع رأس عجل، كان يبدو أنَّهُ قد ذُبِح هذا الصباح. خيطٌ من الدم كان يسيل من الجزء المتبقِّي من الرقبة المقطوعة ويصل حافّة الطاولة، ثم يقطر على الأرض الترابيَّة التي شكَّل الدمُ فيها مع التراب بركة صغيرة لزجة. لم يستطع يوسف أن يشيح ببصره عن الرأس، كان يرى أنَّ الذباب يجتمعُ تارة فوق بركة الدم وتارة فوق شفاه العجل. وجه العجل كان عابسًا كوجه الرجل القتيل، والفارق الوحيد بينهما هو هذا العرْي الكامل لرأس العجل عن باقي جسده. السوق يموج بالحركة، ويوسف متجمِّدٌ في مكانه كحجر. لم يعد يحسُّ بالوقت، كم وقف ينظرُ في الرأس المقطوع! أهي لحظة أم ساعة أم نهار كامل؟
هل أعجبك الرأس يا سيِّدي؟ إن شئت أن تشتري أعطيتك إيَّاه بأفضل سعر في السوق. حديث البائع أعاد يوسف إلى الواقع وجعلهُ ينتفضُ. بدأ يحسّ أنَّ في قلبه خليَّة نحل تنبض. ينظرُ تارة إلى صاحب المتجر وتارة إلى رأس العجل المُدمّى الموضوع على الطاولة، ثم يستديرُ ويبدأ يركضُ. يوسف يختفي في الزحام، والبائع مذهول من تصرُّفه الغريب. لا بدَّ أنَّ الرجل فقد عقله يقول البائع، ويعودُ إلى دكَّانه يطردُ الذباب عن الجثث المُعلّقة.-
يركض يوسف وقد أفلتت فردة حذائه، فيعود يلتقطُها ويعاود الركض. توقَّف. ماذا دهاك؟ لماذا تركضُ هكذا كحيوان أفلت من الأسر؟ سيعتقد الجمعُ أنَّك سرقت شيئًا، ويمسكون بك وسيدفعونك إلى الشرطة، وهناك ستعترف بجريمتك قبل أن يكتشفها أحد. لكنْ ألم تَرَ الرأس المقطوع كيف كان عابسًا، إنَّهُ يشبهُ وجه الرجل الميِّت. لقد انتهيت. لا أستطيع أن أجلو صورة القتيل عن خيالي. فما الحلّ إذًا؟ اذهبْ واعترفْ أنَّك قاتل، ودعهم يُدخلوك السجن ثم يُنفِّذوا فيك حكم الإعدام. لست أخاف من الموت. صدّقني. وقد فكَّرتُ في هذا، لكنِّي أخشى تلك المسافة الزمنيَّة بين باب الزنزانة وحبل المشنقة. لطالما فكَّرت بماذا يحسّ الإنسان وهو يُدرك أنَّهُ سيموت بعد دقائق. يُحكى أنَّه في الثورة الشيوعيَّة في روسيا، عندما كان الحمر الشيوعيُّون يأسرون أعدادًا كبيرة من البيض (الملكيِّين)، كانوا يحفرون قبرًا كبيرًا، ويدفعون الأسرى في جماعات تضمّ الواحدة منها عددًا معيَّنًا. يطلبون منهم المسير حتى حافَّة الحفرة الكبيرة، وهناك يُطلقون النار عليهم، فيسقطون من تلقاء أنفسهم في قبرهم الكبير. لقد كان الشيوعيُّون يفعلون هذا ليختصروا الوقت والجهد في حمل الجثث. تخيّل اختصار الوقت والسرعة حتى في القتل. لكنْ في بعض الحالات، كان الأسرى بالمئات. أي أنَّ المجموعة الأخيرة من المسافرين في رحلة الموت كانت تنتظر دورها لساعات. تخيّل نفسك تنتظرُ دورك في الموت لساعات، وكلَّما قُتل أمامك بعض من رفاقك، ترى الموت ولا تحصل عليه، بل تنتظرهُ. إنَّ هذا الإحساس في انتظار الموت يُعادِل كلّ شيء عرفتهُ البشريَّة. ثم هل يتألَّم الإنسان كثيرًا عند لحظة الموت شنقًا، هل يتألَّم بين سقوط جسده وذاك القطع القاتل في الحبل الشوكيّ وفي الحنجرة؟ لا تخشَ هذا، فإنَّ السلطات لا تُخبر المحكومين بالإعدام بمواعيد التنفيذ حتى يعيشوا حياةً طبيعيَّة حتى تلك اللحظة، لكنْ عندما يقتادونك في الفجر، تلك المسافة وأنت ذاهب إلى منصَّة الإعدام ما أطولها وما أقصرها! ما أقبح البشريَّة! اقتل نفسكَ إذًا، وهكذا تتجنّب الكثير من الألم، بطلق ناريّ مثلاً وستموتُ في ثوانٍ. لكنِّي لا أمتلك الشجاعة لأقتل نفسي، مع أنَّ حياتي كلّها لا تستحقّ أن تستمرّ. فلا حلّ لديك سوى أن تتحكَّم بتصرُّفاتك وقد غدوت أشبه بمجنون، تماسك وتصرَّف بطبيعيَّة، فلا خيار آخر أمامك.-
وقف يوسف يلهثُ تحت شجرة الجوز الكبيرة في منتصف الطريق بين السوق والبلدة. كان كلّ جسده ينتفضُ، وركبتاه ما عادتا قادرتين على حمله، فجلس في ظلِّ الشجرة. لا بدَّ أنَّ الساعة قد تجاوزت الرابعة، وأمامي ساعتان لأبدأ عملي، كان ينظرُ جهة النهر عندما مرَّ رجلٌ وامرأة من أمامه وجلسا على الصخرة القريبة. كانت المرأة الجميلة لا تكترثُ لوجود الرجل قربها، وكأنَّهما قد تخاصما للتوّ. ربَّما لم يقدّم لها الرجل هديَّة في عيد ميلادها، أو أنَّهُ نسي أن يُبدي إعجابهُ بتسريحتها الجديدة. أحداث يوميَّة تصنع الوجه الحقيقيّ للحياة. نظرت المرأة جهة يوسف، فقام يوسف من فوره وتابع سيره. كان يتجنَّب أيّ احتمال للحديث مع الآخرين. مشى قليلاً وجلس على ضفَّة النهر. لم يفض النهر بعدُ، ولا شكّ أنَّهُ سيفيض غزيرًا هذا الربيع، فهناك من أخبره أنَّ الثلج في الجبال يصل لقامة إنسان. لكنِّي ربَّما لن أرى فيضان النهر هذا العام، ربَّما أكون خلف القضبان، أو مُعلَّقًا بحبل مشنقة. نعم، لن ترى فيضان النهر إن أنت بقيت أحمق هكذا. أنّى اتّجهت تجذب الأنظار نحوك. اسمع، لِمَ لا تصرخ هنا وتقول إنَّك القاتل، وتأخذ السلطات لتُريهم الجثَّة حتى قبل أن يكتشفوها. تماسك يا رجل. ثم ما بالك تتسكَّعُ هنا وهناك كالمشرَّدين، وتنظر إلى النساء الجميلات. قم واذهب إلى عملك، وإن سألك الحارس عن سبب قدومك باكرًا، قل لهُ إنَّ متجر الأحذية كان مُغلقًا، وإنَّك لن تذهب إلى بيتك، فالطريق طويل. هيّا قم واذهب إلى عملك.-
لكنَّ يوسف بقي جالسًا ينظرُ إلى المياه الأزليَّة، كان تيَّار الماء يشكّل دوَّامات على امتداد الضفَّة التي تدور فيها الأغصان والأوراق في رقصة عشوائيَّة. التقطَ يوسف غصنًا ونظر إليه، كان الغصن أخضر، ولا بدّ أنَّه انفصل عن الشجرة الأمّ منذ فترة قريبة. غرز الغُصن في التراب، وقال يخاطبهُ: أيُّها الغُصنُ، إنَّك تستحقُّ الحياة التي لا أستحقّها أنا، فهل من العدل أن تموتَ أنت وأنجو أنا؟!-
التفت يوسف حولهُ؛ وعندما تأكَّد أنْ لا أحد ينظرُ إليه، قام ومشى على ضفَّة النهر. كانت قوارب الصيد تستعدّ لرحلتها الليليَّة. يذكرُ أنَّهُ حين كان صغيرًا، أخذه أحد أقاربهُ في رحلة صيد ليليَّة كهذه. وقال لهُ، وهم في عرض النهر، إنَّه على الضفَّة الأخرى تقع الطريق إلى مدن الشمال. هناك حيث كلّ شيء جميل. وبعد تلك المدن، يأتي البحرُ الكبير، ثم يأتي خلفة دولٌ يحيا فيها الإنسان كتلك القصص التي ترويها الجدّات عن مُدن مسحورة. حين عاد يوسف إلى بيته، نام ليلتهُ وهو يحلم بتلك المدن. وأصبح هاجسهُ أن يترك كلَّ شيء خلفهُ ويسافر، أن يترك خلفهُ اسمهُ وماضيه وكلّ انتماء يربطهُ بهذه الأرض. حاول كثيرًا، لكنَّه كان دائمًا يفشل. كان صباه خليطًا من العمل والغبار والخبز الأسود.
كندا
* تصدر قريبًا عن دار الآداب، بيروت.