قصيدة لهرم بيروت الجديد
04-02-2016

 

 

تتطوّر حضارتُنا بسرعةٍ تفوق قدرتَنا على ذكر إنجازاتها. وها هي حكومتنا الرشيدة في بيروت تعلي هرمَها الأوّل، وتختار أن ترفعه أمام مرفأ بيروت العريق، شاهدًا على عظمة هذه الأرض والحضارة، دولةً وشعبًا!

والهرم الجديد جاء متدرّجًا. وهو كالأهرام كلّها مدفن عظيم؛ فيه ستُدفن أحلامٌ ماتت شابّة، وبعضها كان وليدًا، وبعضها جنينًا، ومنها ما لم يتعدّ مرحلة الشبق بين اثنين.

أتأمّل الهرمَ يعلو ويشمخ. أفكّر بقصيدةٍ عصماء ألقيها بين يدي المسؤولين الكثر يومَ تدشين الصرح العالي، سأقول فيها...

 

لرجل الدولة!

أنت الرجل الوهميّ الأكثر حقيقةً في التاريخ.

لو يمّم معارضوك وجوههم شطر بيت المقدس ومكّة ونهر الغانج، وحجّوا عشرَ مرّات، ورضي اللهُ عنهم عشرين مرّة، لما حصلوا على رجلِ دولةٍ مثلك.

فسادك لا لبس فيه. ذُلّك أسطورة تتغنّى بها. ضيقُ أفقك عديمُ العلاج. كذبك إسهالٌ لا يتوقّف. لا تخفي عوراتك، بل تدلّل على عورات أترابك دليلَ صحّة الموقف. ومعًا ترقصون أمام الأقوى منكم، ومعه ترقصون أمام الأقوى من الأقوى منكم، علّه يرضى في بلاده البعيدة.

لا يزعجك بلاءٌ ولا وباء،  ولا موتٌ يستوطن أبوابَ المستشفيات، ولا جهل يُحقن في المدارس. لا يزعجك إلّا ليلٌ تنقص أموالُ النهار فيه حين العدّ.

وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث ولا حرج: بيوت وسيّارات وأراضٍ وطائرات وموائد وكرتونة إعاشة ذليلة ووعود.

 وأمّا بحشرجة عجوز... وأمّا بقهرٍ يُزهر دمعةً مالحة في عين رجل... وأمّا بضحكة شارٍ يتلمّس جسدًا اشترى انسحاقه بحفنة من الريالات... وأمّا بكلّ ذلك فعِفَّ وغُضَّ الطرفَ.

رضا الإله عندك من النِعَم، لا تني ترضي إلهك برضى رجالِ أديانه. تفتتح بيوتًا له، وتضع قوانين لهم تحميهم وتحمي امتيازاتهم... وفي المقابل، يرضى الإله عنك فيرسل إليك كهنته وشيوخه والعارفين يذودون عنك، ويرفعون شأنك فوق المزابل.

تدافع عن إلهك بزعيقٍ يملأ المنابر. تحشد الناسَ نصرةً للدين القويم. تعلو فوق المذابح، وتقول اللهمّ إنّي قد بلّغت. ثمّ تقبّل أترابك وتشاطرهم المحصول، وتدفنون قتلاكم المصدِّقين، وتنكرون الأحياءَ منهم ــــــــــ إذا قصدوكم ــــــــــ عشر مرّات، بل عشرين.

لا ينتهي الكلام عليك. أنت الأعجوبة، الهراء الذي صار دولة.

 

لرجل الشعب!

لو صلّى رجلُ الدولة عمرًا وصام دهريْن ورضيتْ عنه آلهةُ المجرّة، لما حصل على رجلِ شعبٍ مثلك.

الصابر القابل الغفور الحقود العنيف الذليل المؤمن الجاحد الطيب الخبيث.

القابل أن يحمّلوك أسلحة بآلاف الدولارات، وفي جيبك قروشٌ قليلة.

المقاتل فقيرًا آخرَ حمّلوه الأسلحةَ نفسَها.

الشاتمُ الكلَّ، المنتخبُ الكلَّ مجدّدًا ومجدّدًا.

القابع في عتم الكهرباء وسوادِ دخانِ المولّدات.

الشاري الماءَ مرّتين.

الدافعُ ثمنَ التعليم مرّتين.

القابعُ أمام المستشفى مستدينًا المالَ لإخراج جثّة.

رجل الشعب أصليّ. كان يرانا في الطريق، نرفع قبضاتِنا، ونطالب بسقوط هذا النظام الذي يشتمه هو نفسُه، فيحمل هاتفه ويصوّرنا ويبتسم. رجل الشعب هذا ينتظرنا أن نفشل حتّى يقول: "لا شيء يتغيّر... هذه هي الأحوال. البلد هيك."

الراكض من الوظيفة الأولى إلى الوظيفة الثانية يهاتف زوجتَه العائدةَ من عملها، بعد أن أحضرتِ الأطفالَ من منزل ذويها. يتّفقان على سهرةٍ لطيفة، يَنتخبان فيها أجملَ صوتٍ، وأحلى رقص، وحياةً في الأحلام. كأنّ الحياة يجب أن تكون كذا. كأنّ العمل طوال النهار، واللهاث وراء القروض المصرفيّة، والبقاء في قلق العوز رغم القيام بكل ما يتوجّب عليه، هي في الحياة طبيعة.

رجل الشعب يشتم الحكومة، ولكنّه يَعبد رجالها. يشتم رجالها، ولكنّه يعيد إنتخابَهم. يصرخ ألمًا، ولكنّه يقيس ألمه بثمن العلاج فيصبر. رجل الشعب يخاف أن يحلم بحياة أفضل فيفسد نهاره ذا الوظيفتين لأنّه قهر. يتمسّك بحياة النملة كي لا يُرمى من بيته، أو يُقطع ماؤه وكهرباؤه، ويوقّف أطفاله أذلّاء في الممرّات خارج الصفوف، أمام زملائهم في المدارس حتّى يدفع الأقساط. لكنْ... لرجل الشعب رأيٌ حاسمٌ في زواج المثليين في أميركا!

يعود إلى بيته بعد أن صَلَب متّهمًا على العمود كالنعجة. تغسل أمُّه يديه، وتحضّر له العشاء. يَقطع قضيبَ رجلٍ من خارج الطائفة لأنّه تجرّأ على الزواج من أخته. تصفّق زوجته لنخوته.

يصلّي الجمعة. يصلّي الأحد. ولا يسأل: من أين لرجال السياسة والدين كلّ هذا؟

رجل الشعب تمرّد قليلًا على تكدّس النفايات. لأنّه لم يجد كعادته بديلًا من تقصير الدولة، كما فعل في الماء والكهرباء. لكنّه عاد ليعتاد الرائحة والمنظر في الطريق، فاستكان.

رجل الشعب خرافيّ، مليء بالنزق. كثير الضجيج قليل الانتفاض.

 

لقائد الحراك!

لم أكن أعرفك، لكنّني أسلمتُ إليك أمري، ونزلتُ إلى الشارع حين دعوتني.

قلتُ لنفسي إنّك لا بدّ من أن تكون أفضل منّي، أقلَّ تشوّهًا ربّما. وقلتُ لنفسي إنّك أخبرُ بالتكتيكات، فيك مرونة العصر. بينما أنا متصلّب بمبادئ تملّكتني وصارت دليلي.

لم أعرفك. لم أنحشر فيك وأنت تتّخذ قراراتنا. سلّمتك أمر أن تقول لي أين أذهب، أن تدلّني على المخارج، أو احتمالاتها. قلتُ لنفسي إنّه زمن آخر، فليكن شبابٌ، فليكن شجعان لا يهابون، غيرُ ملوّثين، عندهم أنفةُ أن يقولوا "لا" لكلِّ ما عهدناه.

لقد كنتَ شجاعًا. لقد كنت قويًّا لم تهادن. لقد كنت صبورًا على التعب، معطاءً، مخلصًا في شعاراتك.

أحببتكَ، وأحسستُ أن لا بأس، هنالك مستقبل لنا في هذه البلاد.

ولكنّك ستسامحني، حين أرى مآلَ الحَراك اليوم، أن أقولَ لك ما كنتَه أيضًا، من دون أن أتراجعَ عمّا ذكرتُه أعلاه.

لقد كنتَ أيضًا قليلَ الحيلة، تنهل من نماذج الحراكات المدنيّة التي درستَها. لم تستطع أن تنبثق بأفكار من عنديّاتنا، إذ لم يغرق بلدٌ بنفاياته مثلنا. تنوّعتْ حركاتُك بين النُظُم القديمة للاحتجاج، كالمسيرة والاعتصام وصولًا إلى المواجهة العنيفة، حيث يحلو لأمثالي المخضرِمين أن يصرخوا "عسكر على مين؟" وصولًا إلى حركات اللاعنف التي لم أستطع (وكثيرين) أن نستسيغَها.

عندما يهدر بضعة آلاف في الشارع، يا عزيزي، لا تستطيع أن تحبطَهم بخطابٍ متردّدٍ لا يعرف إلى أين يسير.

وكنتَ يا عزيزي قليل المناعةَ أمام الكاميرات. وصار النشاط يُقاس بمدّة تصويره. وصار النجاح في التغطية الإعلاميّة. وصارت المشاكل والكوارث فرصًا تحتاج إلى مَن يقتنصها، ويصوّرُها بذكاء مؤتمت، ويفسبكها.

وأخيرًا، كنتَ ـــــــ لدرجات متفاوتة ـــــــــ تشبه السلطةَ التي أنتجتْ وعيَنا عبر سنين وسنين من البثّ والممارسة. فبغرض إعادة توزيع المغانم لم يكن من مشكلة عند السلطة أن تغرقنا في العتم، وفي الجفاف، وفي الفقر، وأخيرًا في الزبالة. وبغرض التنافس على الـ"نجاح" في قطف اللحظة، لم تجد أنتَ أحيانًا مشكلةً في إنهاك الحراك، وتشتيته، ومنع توحّده. لقد خفتَ من الاستعداد للذوبان في إطارٍ أكبر، في مواجهة سلطة لا تتوحّد إلّا في مواجهتنا.

قائدَ الحراك: لقد كنتَ فرصةً، ومضةً ستشعل شرارة أكبر. لكنّك أكثرتَ النفخَ فيها، فراحت تخمد.

 

لياسمينة!

ابنتي، إنّه "كليشيه" أن أقول إنّك المستقبل. لكنّه كليشيه حقيقيّ.

لقد اصطحبتكِ معي سابقًا إلى حراك "إسقاط النظام الطائفيّ،" وكنتِ حينها في التاسعة. اشتريتُ لك علمًا لبنانيًّا بناء على طلبك، لأنّك تذكّرتِ المسيرة التي صادفناها في بانكوك، والتي وجدنا نفسينا فيها من حيث لا ندري، وأعطاك مواطنٌ بانكوكيٌّ لطيفٌ علمَ بلاده لتحمليه. أتذكرين سعادتنا يومها؟

ثمّ فرط الحراكُ يومها، وسألتِني لماذا لم نعد نذهب؟ حرتُ ماذا أقول لك.

وفي آب 2015، نزلتُ معك مجدّدًا. إنّه حَراكٌ آخر، قضيّةٌ أوضح، مطالبُ معقولة يمكن النجاحُ في فرضها. سرنا بين الناس. سألتِني يومها كيف اجتمعوا. سألتِني عن الشرطيّ الذي بدا متوتّرًا وهو يرصّ صفوفَ العسكر. قلتِ لي إنّهم خائفون.

أحسستُ يومها أنّي أقبض على الريح. لا حياة لمجتمعٍ لا تخاف شرطتُه ناسَه!

لقد خوفّناهم يومها، أنا وأنتِ ومئاتٌ، بل آلافٌ، مثلنا. أخبرتُكِ يومها عن الفَرْق بين الشرطيّ العائد إلى بيته يحسب أيّام شهره والشرطة التي تحمي السارقين، بين السلطة والنظام، بين احترام القانون واستغلاله.

كنت أكبح أحلامي، لكن أفرحُ بكِ، وبعشراتٍ من أترابك يملأون الساحات. كنتُ أهرب بك عندما يمتلئ الهواءُ غازًا فوق الرؤوس. أعيدكِ إلى البيت وأرجع إلى الساحة، إلى أن أفقد القدرة على الاحتمال، فأترك المكانَ لشبابه.

حلمتُ بكِ ترمين حجرًا في وجه كلّ سُلط الأرض الغاشمة. حلمتُ لك ببلدٍ يستحقّكِ، ككلّ الأطفال الجميلين الذين يستحقّون بلدًا يحبُّهم.

ثمّ سألتِني لماذا لم نعد ننزل...

سيأتي يومٌ وننزلُ فيه. لا أعرف إنْ كنتِ ستكونين طفلة. لكنّني آمل ألّا يكونَ ذلك يوم تنزلين مع ابنتكِ، وتخبرينها كيف نزلتِ مع جدّها، من زمان، وفشلتما.

بيروت

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.