إنّ سنَّ الكنيست الإسرائيليّ سنة 2011 قانونًا مناهضًا لمقاطعة إسرائيل، والقرارَ القضائيّ الصادر في نيسان (أبريل) 2015 عن المحكمة الإسرائيليّة العليا في هذا الخصوص، يؤشّران بعمقٍ على أنّ جهود الحكومة الإسرائيليّة لمواجهة الضغوط الدوليّة من أجل إنهاء احتلال [أراضي 67] تتركّز على قمع المعارضة الداخليّة الفلسطينيّة. فالقانون يجيز لمستوطنٍ يهوديّ أن يقاضي فلسطينيًّا يدعو إلى المقاطعة الاقتصاديّة أو الثقافيّة أو الأكاديميّة للمستوطنات الإسرائيليّة غير الشرعيّة [بموجب القانون الدوليّ نفسه]، ويجيز له ولأيّة هيئةٍ أن يتلقّيا تعويضاتٍ ممّن يدعو إلى تلك المقاطعة، أفرادًا أو مؤسسات. كما أنّه يأذن لوزير الماليّة بفرض عقوبات اقتصاديّة قاسية على كلّ مَن يتلقّى مساعداتٍ من الحكومة الإسرائيليّة، فردًا كان أو مؤسّسةً أو مجموعة، في حال الدعوة إلى المقاطعة أو المشاركة فيها.
ولقد رفضت المحكمةُ الإسرائيليّة العليا، بالإجماع، عرائضَ تقدّمتْ بها 10 منظّمات لحقوق الإنسان ضدّ هذا القانون، الذي زُعم أنه سُنّ من أجل مواجهة تصاعد نشاط "حركة المقاطعة العالميّة" ضدّ إسرائيل (BDS)، وهي حركةٌ تطالب بمقاطعة إسرائيل والمستوطنات في الضفّة الغربيّة بسبب الاحتلال الإسرائيليّ المتواصل لأراضي 67 والتمييز العنصريّ الممأسس ضدّ المواطنين الفلسطينيين داخل فلسطين 48. غير أنّ هذا القانون لا يمكن تطبيقُه خارج مجاله الجغرافيّ (extraterritorially)، أيْ خارج إسرائيل، بل ينطبق فقط على الدعوات إلى مقاطعة إسرائيل داخل حدود الكيان الإسرائيليّ [فلسطين 48] والقدس الشرقيّة المحتلّة.
هذا هو، في واقع الأمر، سببُ انطباق هذا القانون على فلسطينيّي 48 الرافضين لاحتلالهم، وللتمييز العنصريّ ضدّهم. وهذا ليس مستغربًا. فاليمين اليهوديّ دأب، منذ سنوات، على استهداف هذه الفئة من خلال تشريع قوانين تمييزيّة تطاول مواطَنة فلسطينيّي 48، وحريّةَ تعبيرهم، وحقوقَهم في ملْكيّة البيوت والأراضي، ومشاركتَهم السياسيّة، وغيرَ ذلك. وهذه القوانين تشمل: "قانونَ النكبة،" الذي يحدّ من حريّة التعبير عند إحياء ذكرى النكبة؛ و"قانونَ لجان القبول،" الذي يسمح باستبعاد العائلات العربيّة من بلداتٍ زراعيّة وجماهيريّة تسكنها أقلُّ من ٤٠٠ عائلة؛ وقانونَ "رفع نسبة الحسم" في انتخابات الكنيست من ٢٪ الى ٣،٢٥٪ بهدف إقصاء التمثيل السياسيّ العربيّ من البرلمان الإسرائيليّ.
إحدى أسوأ سِمات قانون المحكمة الإسرائيليّة العليا ليست الحدودَ المفروضةَ على حريّة التعبير فحسب، بل تبنّي هذه المحكمة خطابًا يمينيًّا متطرِّفًا كذلك. المفارقة أنّ هذا الخطاب يزعم أنّه يستند إلى حقوق الإنسان، لكنّه يقلبها رأسًا على عقب؛ فهدفُ هذا الخطاب، في العمق، مختلفٌ تمامًا، وهو تحديدًا: الحفاظ على التفوّق الإثنيّ [اليهوديّ].
فلقد قارنت المحكمةُ الإسرائيليّة العليا بين شرعيّة "قانون مناهضة المقاطعة،" والشرعيّةِ القانونيّة والأخلاقيّة لقانون "حظر التمييز على دخول أماكن التسلية والأماكن العامّة واستخدام معدّاتها" (2000) ــــ والأخير يمنع التمييزَ بين المواطنين على أساس مكان إقامتهم. إنّ مجرّدَ المقارنة بين هذين القانونيْن خطأ من حيث الجوهر؛ فالهدف السياسيّ من وراء الدعوة إلى المقاطعة لا يتناقض مع الهدف الأخلاقيّ من قانون منع التمييز؛ بل الواقع أنّهما يهدفان معًا إلى تحدّي العنصريّة وتفوّقِ مجموعةٍ على أخرى.
ما يميِّز الذرائعَ التي تتمسّك بالسياسات القمعيّة تجاه المجموعات المهمَّشة باسم "الحقوق المدنيّة" هو تصويرُها السيّدَ وكأنّه ضحيّة؛ فضلًا عن معاييرها المزدوجة التي تعلي من شأن حقوق اليهود المدنيّة على حقوق الفلسطينيّين المدنية. فرأيُ الغالبيّة في المحكمة العليا يقول، أساسًا، إنّ الدعوة إلى مقاطعة المستوطنين في الضفّة الغربيّة المحتلّة هي بمثابة عقابٍ جماعيّ لهم! وهذا الرأي خدّاع ومضلِّل، وينبغي دحضُه بشدة.
والواقع أنّ المحكمة برّرتْ، على الدوام، العقابَ الجماعيَّ ضدّ الفلسطينيين: فهي، مثلًا، وافقتْ على إجراءات حصار قطاع غزّة، ودعمت القيودَ الوحشيّةَ على الكهرباء والوقود هناك عقابًا لفلسطينيّي القطاع. كما أنها صادقتْ، مرارًا وتكرارًا، على سياسة هدم البيوت كإجراءٍ عقابيّ. وشرّعتْ، مرّتين، دستوريّةَ القانون الذي يَمنع لمَّ شمل العائلات الفلسطينيّة، مستهدفةً الفلسطينيين في الضفّة الغربية وداخل فلسطين 48؛ فهذا القانون يَفرض حظرًا كاسحًا على كلّ مساعي لمّ الشمل في الداخل بذريعة أنّ جميع الفلسطينين خطرٌ أمنيٌّ محتمل. وقبل يوم واحد فقط من قرار المحكمة العليا بشأن "قانون مناهضة المقاطعة" أصدرتْ هذه المحكمة نفسُها قانونًا آخر يجيز العقابَ الجماعيّ لـ5000 سجين سياسيّ فلسطينيّ في السجون الإسرائيليّة، وذلك بمنعهم من تلقّي الدراسات العليا.
علاوةً على ذلك، فإنّ هذا الخطاب اليمينيّ المتعلّق [زورًا] بـ"الحقوق المدنيّة" غالبًا ما يصف أيَّ نقد يوجَّه إلى إسرائيل بـ"الإرهاب،" ويسعى إلى تصوير مواجهته بأنّه "عملٌ قانونيّ." وقد سلك هذا الخطابُ طريقَه إلى "قانون مناهضة المقاطعة" حين نصّ رأيُ الغالبيّة [في المحكمة العليا] على أنّ الدعوات إلى مقاطعة إسرائيل هي بمثابة ارتكاب "إرهاب سياسيّ." ولكنْ، هل كانت مقاطعةُ نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا (الأبارتهايد) "إرهابًا سياسيًّا"؟ هل كانت مقاطعةُ الشركات التي فرضتْ سياساتٍ عنصريّةً ضدّ الأميركيين من أصل أفريقيّ، أو مقاطعةُ باصات مونتغمري التي فصلتْ مقاعدَ الأميركيين البيض عن السود، "إرهابًا سياسيًّا"؟
الحقّ أنّ المحاكم الأميركيّة، خلافًا للمحكمة الإسرائيليّة العليا، حَمتْ حقوقَ الداعين إلى مقاطعة الشركات أو الولايات الأميركيّة التي ميّزتْ ضدّ الأميركيين من أصل أفريقيّ أو ضدّ النساء أثناء حركة الحقوق المدنيّة؛ وهذه المقاطعة أدّت إلى إنهاء التمييز العنصريّ في الولايات المتحدة.
إذن، "قانون مناهضة المقاطعة" ليس مجرّدَ قانون يحدّ من حريّة التعبير، وإنّما هو قانون إضافيّ يهدف إلى الحفاظ على الاحتلال وتعزيزه، بعيدًا عن أيّ نقد، وبخاصةٍ من فلسطينيي 48 ومواطني القدس الشرقيّة المحتلّة.
والى ذلك أضيف مؤخّرًا قانونٌ آخر يسعى إلى إسكات الأصوات المعارضة لإسرائيل، وقد صدر أولَ العام 2017، ويمكّن وزيرَ الداخليّة من حظر دخول الناشطين الدوليين العاملين في حركة المقاطعة العالميّة (BDS).
وبذلك، فإنّ "قانون مناهضة المقاطعة" وتشريعَ المحكمة العليا له يقدّمان أداةً إضافيّةً لقمع معارضة سياسات إسرائيل الكولونياليّة.
حيفا (فلسطين)