التمساح اللطيف
27-03-2017

 

 

ربّما كان محلّ الحاج بكري السيّد، لبيع سمك الزينة والأكواريوم، هو السبب في ولع طارق بالكائنات المائيّة وعوالمها. كان يمرّ بجانب المحلّ يوميًّا، وهو في طريقه إلى المدرسة. يقف طويلًا أمام واجهته، متأمّلًا ما تتيحُه له من أسرار هذا العالم المائيّ الساحر. أحيانًا كان يدخل المحلّ ليستفسر عن الأنواع وثمنها، وأسعارِ الأحواض وإكسسواراتها، وعن الأطعمة والأدوية.

يومًا بعد يوم كان هوسُه بالموضوع يتزايد، حتى أطلق عليه الحاج بكري لقب "ماكينة الأسئلة المائيّة." ثمّ صارت برامجُه التلفزيونيّة المفضّلة تلك المتعلّقة بعالم الحيوان. أهمل كتبَه الدراسيّة، وانكبّ على استعارة ــــ أو شراء ــــ ما تيسّر له من كتبٍ علميّةٍ تُعنى بالمخلوقات المائيّة. لم يكن الإنترنت قد دخل حياته بعد، وهذه الأبحاث كانت مضنية؛ لكنّها كانت شديدة المتعة بالنّسبة إليه.

بمرور الوقت، امتنع عن شراء الطعام في المدرسة، وراح يجمع من خرجيّته المالَ أملًا في تحقيق حلمه في حيازة مملكةٍ مائيّةٍ كان قد تخيّل كائناتِها البديعةَ الملوّنة، وزينتَها من نباتاتٍ جميلةٍ وأصدافٍ وقواقعَ وحصى.

لم يثنِ طارق عن مشروعه هذا إلاّ فرخُ التّمساح الذي تصدّر، في أحد الأيام، واجهةَ محلّ الحاج بكري. كان الفرخ بحجم كفّه. شعر بأنّه يناديه. دخل فورًا، ومن دون أن يلقي التحيّة سأل الحاج بكري عن سعره. حسبَ المبلغ الذي كان مخصّصًا للمملكة المائيّة التي هدمها التمساحُ بحركةٍ من ذيله الصغير، فتبيّن أنّ ما جمعه من مال يكفي ويزيد. لكنّ الحاج بكري أخبره بأنّ عليه أن يؤمّن له بيئةً مناسبة، وزوّده بتوجيهات كان يعرفها أصلًا من خلال قراءاته ومشاهدته لأفلامٍ وثائقيّةٍ كثيرة. لم يتخيّل يومًا أن يجد تمساحًا في محلٍّ في مدينته الداخلية، وأن يكونَ في متناول يده أيضًا. أعطاه المبلغَ المطلوب وطلب منه أن يحتفظ بالتمساح أيامًا معدودةً ريثما يحضّر له حوضًا. ذهب إلى عمّه النجّار، وطلب منه أخشابًا كانت زائدةً عن حاجته. ثمّ ذهب إلى السوق، واشترى بضعة أمتارٍ من النايلون العازل، وكميّةً من الرّمال.

سطحُ المنزل كانَ ملْكًا لطارق في نظر كلّ أفراد العائلة؛ فالغرفة الصّغيرة هناك مخصّصة لدراسته وقراءاته. أصلًا لم يكن صعودُ الآخرين إلى السطحِ ممكنًا؛ فلدى الجدّة والأمّ ما يكفيهما من آلام المفاصل، ولدى الأب من المشاغل ما يجعله غائبًا معظم الوقت.

عمّر طارق بيديه الحوضَ الخشبيّ الملفوفَ بالنايلون العازل. وصنع على جانبه يابسةً من الرمال كي يصعد إليها التمساحُ ويشعر بأنّه في مكان طبيعيّ. ملأ الحوض بالمياه، وجهّز له غطاءً خشبيًّا. بعد أيّام، أحضر معه الساكنَ الجديد سرًّا إلى البيت، وهرّبَه إلى مملكته بعيدًا عن أنظار أمّه وجدّته.

صار طارق يعود من المدرسة ركضًا إلى البيت كي يُطعم صديقَه الأسماكَ الصغيرةَ التي استطاع شراءها من مصروفه اليوميّ؛ يفتح له الغطاء كي يتشمّس ويرمي إليه بالأسماك. وعندما يضطرّ إلى النزول بناءً على إلحاح أهله، كان يودّع تمساحَه، ويغلق الغطاءَ الخشبيّ فوق الحوض، ثمّ يضع أحجارًا للتثقيل. على هذا المنوال الهانئ استمرّت حياةُ طارق وصديقِه الأخضر الصغير قرابةَ شهرٍ من الزّمن.

مرّةً كان طارق قد شمّس التمساحَ فترةً طويلةً. لاعبَه ورمى إليه وجبةً محترمةً من الأسماك السيّئة الحظّ، وإذ بصوت جدّته يناديه كي يساعدها في تبديل أسطوانة الغاز. ودّع تمساحَه أبكر ممّا كان يأمل، وأغلق الغطاءَ الخشبيّ، ثمّ نزل مسرعًا، ناسيًا تثبيتَ الغطاء بالأحجار. ساعد جدّته في تبديل الأسطوانة، ثمّ دعته إلى مشاركتها الغداء؛ فأمّه كانت في السّوق، والجدّةُ لا تريد أن تأكل وحدها. تغدّيا، ثم جلسا يشربان الشايَ أمام التلفاز. وكعادته أداره على محطّةٍ وثائقيّة، وشرعا يشاهدان برنامج "عالم الحيوان."

طارق:

في الحقيقة لم يكن كلانا جالسًا. جدّتي هي التي كانت جالسةً على أريكةٍ مقابلةٍ لباب الغرفة، وشالُ الصّوف يغطّيها من الركبة نحو الأسفل. أمّا أنا فكنتُ مضطجعًا على أريكةٍ متعامدةٍ مع أريكة جدّتي، أتابع بشغفٍ حلقةً عن الزرافات. حين كانت زرافتان تتعاركان، سمعتُ كأس جدّتي وهي تتكسّر. نظرتُ إليها فوجدتها ــــ وهي التي تمشي بمساعدة عكّاز ــــ تقفز مثل لاعبةِ سيركٍ إلى أعلى الأريكة، وهي تشير بإصبعها إلى باب الغرفة، وتناديني بصوتٍ شديد الارتجاف: "طارق... طارق..."

أدرتُ وجهي ناحيةَ الباب، وإذ بصديقي الأخضر يهزُّ ذيلَه مقتربًا من وسط الغرفة. حاولتُ إمساكَه فلم أقدرْ. أخذتُ شالَ جدّتي ورميتُه عليه، ما مكّنني من تثبيته وإعادته إلى الحوض على السطح. أغلقتُ عليه، محكمًا التثبيتَ هذه المرّة. عدتُ إلى جدّتي. ناولتها كوب ماءٍ؛ كانت ماتزال ترتجف، وأدركتُ أنّها فهمت القصّة كاملةً من نظراتها المليئة بالعتب. قالت لي: "عليك أن تختار: أنا أو هو في هذا المنزل."

كان من الطبيعيّ لأيّ مخلوق أن يختار جدّته، بخاصةً أنّها كانت تدلّلني كثيرًا. وأنا أحبّها وأخاف زعلَها. فوعدتُها بأن أعيده حالًا من حيث أتى. وفعلًا أعدتُه إلى الحاج بكري من دون أن أستعيد مالي. قلتُ له: "اعتبرْه هديّةً منّي إليك لأنّك رجلٌ طيّبٌ يشاركني حبَّ الكائنات المائيّة." وخرجتُ من دون أن ألقي نظرةً على صغيري الذي اضطررتُ إلى التخلّي عنه لأسبابٍ لن يفهمها ربّما. وصرتُ أغيّر طريقي، فلا أمرّ قرب محلّ الحاج بكري كي لا ألمحه.

بعد سنوات، وحين كنتُ أتابع دراستي في أوروبا، معتقدًا أنّني نسيتُ التمساح، تعرّفتُ إلى فتاةٍ جميلة. كنتُ على وشك أن أحبّها، لولا أنّها في ثالث لقاءٍ بيننا كانت تحمل حقيبةً جميلةً. أبديتُ إعجابي الشديد بها، فتباهت بقولها إنّها مصنوعةٌ من جلد تمساح. أسرعتُ إلى الحمّام. تقيّأتُ والدموعُ تملأ عينيّ. وكانت تلك آخرَ مرّةٍ تراني فيها.

الجدّة:

بصراحة، هذه الحادثة أنستني كيف كنّا جالسيْن، وماذا كنّا نشرب. سبحانَ الله كيف رجعتُ ــــ في لحظةٍ ــــ تلك الفتاةَ التي تقفز على الحبل في حَوش دار أهلها. حين رأيتُ ذلك الشيطانَ الأخضر يدخل الغرفة لم أستوعب أنّه حقيقيّ. ظننتُ لوهلةٍ أنّني قد أصبتُ بـ"خرف العجائز،" وصرتُ أتخيّل الحيوانات التي كان حفيدي يشاهدها على التلفزيون تسرح بيننا في الغرفة. غير أنّ هذه الفكرة لم تمنعني من القفز على حبلٍ غير موجود. سمعتُ اصطكاكَ ركبتَيّ المتورّمتين، ورأيتُ الوحش يتقدّم نحوي فاتحًا فكّيْه. حاولتُ أن أنادي طارق، فخذلني صوتي أوّل الأمر، وبعد محاولاتٍ عدّة نجحت. انقضّ حفيدي البطل، وألقى بشالي على ما عرفتُ في وقتٍ لاحقٍ أنّه تمساح. خسرتُ شالًا كنتُ أحبّه؛ لكنّني تسلّيت بحياكةِ شبيهٍ له. لم أخبر أمَّ طارق أو أيّ أحدٍ بما حصل. بقي هذا سرّنا الصّغير، أنا وحفيدي. صارت محبّةُ طارق في قلبي أكبرَ بعد أن فضّلني على حيوانه. وكي أكون صادقةً فقد كان بإمكاني التعايش مع التمساح شريطة أن يُحكَم الإغلاق عليه، لكنّه كان سيكبر وسيستحيل أن يستبقيه في المنزل، وعندها سيكون التّخلص منه أكثر إيلامًا له.

التمساح:

يومها شعرتُ بالضّجر. كنتُ واعدًا نفسي بوقتٍ أطول مع طارق تحت أشعّة الشّمس. بعد أن أغلق عليّ، سبحتُ قليلًا ثمّ صعدتُ إلى اليابسة. ضربتُ الغطاء برأسي فاهتزّ على غير عادته. أعدتُ المحاولة، فتسلَّلتْ أشعة الشمس إليّ. بعزمٍ أكبر ومحاولاتٍ متتالية، استطعتُ إزاحته والخروج. تمشّيتُ قليلًا على السّطح، ثمّ سمعتُ ضجيجًا آتيًا من الأسفل. أثار الموضوع فضولي. تبعتُ الصوتَ، فقادني إلى مكانٍ لا تدخله الشّمس ولكنّه ليس مظلمًا تمامًا. دخلتُ. رأيت كائنًا يشبه طارق، ولكنّه يلبس لونًا أسود، ويضع على جسده شيئًا. أحببتُ هذا الشيء، قبل أن أفاجأ بطارق يرميه عليّ. حتّى اليوم لم أعرف الذّنْب الذي اقترفتُه وجعل ذلك الكائنَ يقفز مثل سمكة شبّوط، وجعل صديقي اللطيف يهجم عليّ ويلفّني بذلك الشيء الّذي أحببت. أعادني إلى البركة وقتًا لم يكن كافيًا لتوديعها، ثمّ أخذني إلى مكانٍ شعرتُ بأنّني عرفتهُ من قبل. ورحل من دون أن يودّعني بكلمةٍ أو نظرةٍ أو تربيتةٍ على الرأس.

كبرتُ في منزل شخصٍ آخر، لم أحبّه ولم يحبّني. الآن أقصُّ عليكم ما حصل وأنا في طريقي إلى التحنيط، أعلم أنّني بعدها سأعلَّق على حائط بيتٍ ما. أتمنّى أن يكون بيت طارق، فحينها لن أكون مؤذيًا لجدّته أو أولاده.

 سوريا

 

نسرين أكرم خوري

كاتبة وشاعرة من مدينة حمص في سوريا. حائزة إجازة في الهندسة المدنيّة. تُحضّر رسالة ماجستير اختصاص "هندسة الإدارة والإنشاء".

صدر لها بجرّة حرب واحدة (شعر 2015).