بعيدًا عن هناك، في تلك الليلة، داخل المنزل المحاصَر، عذّبني كابوسٌ لئيم: حلمتُ بأنّني أقرأُ روايةً، وبأنّ كاتبَها كان ينظر إليّ بطريقةٍ ما. لم يكن جالسًا قُربي. المؤكّد أنّه رآني وأنا أضعُ كأسَ الشاي على صفحةٍ من صفحات الرواية، لتخلِّفَ بقعةً حمراء؛ بقعةً صارت تتمدّد بشكلٍ مرعب، وكأنّ أحدَهم ذبح بطلَ الرواية من الوريد إلى الوريد. شعرتُ بإحراجٍ وخزيٍ هائليْن، ولم أعد أعرف ما العمل؛ فالبقعةُ لا سبيلَ إلى إزالتها، وكاتبُ الرواية ــــ الذي أهداني إيّاها ــــ شاهدٌ على الجريمة. الحمدُ لله أنّه مجرّدُ كابوس.
رويتُ ما جرى لأشخاصٍ من طباعٍ واهتماماتٍ مختلفة. الغريب أنّ ردّة فعلهم المشتركة كانت الاستغراب من وصفي لهذا "الحلم العاديّ" بالكابوس، في حين أنّنا نعيش كابوسَ القذائفِ والقصفِ اليوميّ.
اليوم، وبعدَ مرورِ أكثر من سنةٍ على التهجير، أُطِلُّ من النافذة لأرى أبي يمشي والخروفَ على العشب ويقول: "علينا تعليمُه النّطحَ كي يدافعَ عن نفسه؛ فالأولادُ أفقدوه صوابَه." أمّا أنا فأحنُّ إلى "شون ذا شيب،" خروفي الدُّميةِ المحاصَرِ الآن في حمص. هو أيضًا يستطيع أن يقول "ماع،" وبصوتٍ أشدَّ حنانًا من هذا الخروف الحقيقيّ المجنون هنا.
على الجرف الصخريّ المقابل صيّادون. أُفكِّر: متى ستصطادُني أنتَ؟ لقد ابتلعتُ كلَّ أنواع الطعُوم التي رميتَني بها؛ وأنتَ البحرُ الذي يُغرقُني يوميًّا. أُمّي، التي كانت تنتظر أن تأتيها الخُضارُ مخفورةً إلى المنزل، تمارسُ الآن هوايةَ تجميعِ الهندباء البرّيّة والخُبَّيزة وحشائشَ خضراءَ أُخرى.
فهميّة ترى بابَ الفرن مفتوحًا قليلًا. تمدُّ رأسَها داخلَه، وتأكل من المعكرونة. فهميّة هي القطّة التي أصبحتْ "من أهلِ البيت" وأعزّ. منذ فترةٍ قصيرةٍ أنجبتْ ثلاثَ قطط، لم يُطلقوا عليها أسماء بل راحوا يدْعونها: الحمصيّ والحلبيّ والشاميّ، نسبةً إلى المدنِ التي نزح منها الموجودون هنا. أفرحَني أن القطَّ الأشقر هو الحمصيّ. ولم أستغربْ أنه كان أوّل من زهقتْ أرواحُه السبعُ دفعةً واحدةً تحت دولاب سيّارةٍ ترجع إلى الخلف.
يتجمّعُ قليلٌ من النازحين حول الخروف، يتناقشون حول حِصَصِهم منه بعد ذبحِه، وأنا أسخرُ منهم: "سأكتفي بتسجيل صوته واستخدامِه نغمةً لموبايلي.". يدخل جارُنا ويقول مازحًا: "الطقس جميل وملائم لصبِّ الإسمنت،" وأنا أتخيّلُ بيتًا من بيوتِ الموجودين هنا وقد سُوِّيَ بالأرض في هذه الأثناء.
أترك النافذةَ مفتوحةً على فيلم التهجير الطويل، وأعودُ إلى عزلتي التي تحاول أن تشبهَ الحياة.
أقلّبُ داخل رأسي المترادفات العديدة لأن تكون مهجَّرًا:
تقع بسهولةٍ في الحُبّ، ويكون حُبًّا عاصفًا ومجنونًا، سرعانَ ما ينتهي لسببٍ خارجٍ عن إرادتِك، لتعودَ وتقعَ في حبٍّ عاصفٍ آخر، وهكذا. تنعزل عن محيطك، أو تتحوَّل إلى كائنٍ افتراضيّ يُرى داخل الشاشات وحسب. ما إنْ تشعر بأنّكَ محبوبٌ حتى تُهمَلَ كألعاب الأطفال. الأصدقاء القُدامى تتلاشى ملامحُهم مثل حضاراتٍ أكلها الزمن، والأصدقاءُ الجُدُد أشباهُ أصدقاء. الشعورُ الطاغي هو الشوق؛ شوقٌ لكلِّ الناس، لكلِّ الأماكن، لكلِّ التفاصيل، لكلِّ كلِّ شيء، ولا تفعل شيئًا لتبديده. لا تنامُ ولا تصحو؛ تَعِبٌ على الدوام، لكنّك فاقد القدرة على النوم. تبتعدُ عن الكتابةِ، القراءةِ، الموسيقى، السينما، التلفاز، الحياة. تأكلُ بغية إسكات الجوع، لكنّ وزنك يزيد، فتقول: "ربّما سبّب ذلك ثقلٌ في الحنين." اهتمامُك بشكلكَ الخارجيّ يبلغ حدَّه الأدنى؛ لا تنظرُ في المرآة إلّا مصادفةً أو عند الضرورة المُلِحّة. تسمعُ خبرَ مجزرةٍ فلا تبكي، مع أنّ نيرانًا حارقةً تغلي داخِلَك، في الوقتِ الذي تُبكيكَ فيه أغنيةٌ تُعيدُكَ إلى الحيّ القديم. إنْ رغبتَ في أيِّ شيءٍ مهما بلغَ سُخْفُه، تضافرتْ كلُّ قِوى الأرض لتَحولَ بينكَ وبينَه. لا يعودُ للمستقبلِ أيُّ معنًى؛ فالغدُ كاليومِ كالبارحةِ: مجرَّدُ دقائقَ عابرةٍ في زمانٍ عابر. للأملِ والطموحِ والرغباتِ والأحلامِ عنوانٌ واحدٌ أوحدُ: العودةُ إلى البيت. بعيدًا عن الحيِّ القديم، خطواتُكَ تائهة؛ تمشي هنا، لكنّها تُسمَعُ هناك أجراسًا من أنين.
كنتَ مُحِقًّا عندما شبَّهتَني بفخّارِ حيّ "باب دريب" صُنِع بسحرِ الله. أدركتُ ذلك بعدَ أن كَسّرتِ الحربُ كلَّ ما فيَّ، واندلقَتِ الذكرياتُ لتسيلَ حمراءَ بسبب ارتطامها بينابيع الدم المتفجّرة، أو ربّما كانت حمراءَ أصلًا من فرطِ الرومانسيّة. ولماذا أميِّز؟ كلّ ذلك لم يعُد مُهِمًّا.
أحيانًا يختلطُ الأمرُ عليَّ: بين رفرفةِ وجهكَ في البال، وبين ستائرِ بيتنا المُغبرّة. سأزيحُ السِّتارة قليلًا عندما تمُرُّ من تحتِ شبّاكِ الحائطِ المُهدَّم. مِشْيتي التي تُحبُّها، مِشْيَتي الخفيفةُ كموسيقى جازٍ في الحميديّة، أمشيها الآن في شوارعَ غريبةٍ، شوارعَ تفوحُ منها رائحةُ السمكِ بدلًا من رائحةِ مِصْفاة البترول في حمص. أمشي كثيرًا في هذه المدينة لا رغبةً في المشي، لكنْ لِكَثرةِ ما أضيع.
فستاني المُشجَّر الذي تحبّه؛ بسببه تبعَني الخروفُ ليرعى، أو لأنّه أراد الهروبَ من سكاكينِ الناس كما كنتَ تفعل. كنتَ تكرهُ المرايا، وكنتُ أحبّها أكثر لأنّك تكرهها؛ الآن لم أعُد أجِدُني عليها، لأنّني عالقةٌ في الأغنية التي نسيتُ نفسي فيها. "انتبهي إلى الدّودوك في مُقدِّمةِ الأغنية." حتّى اليوم أعودُ إليها فقط كي أستمعَ إلى هذهِ الـ60 ثانية وأُسحَر بموسيقى الدّودوك الشّاهقة كـ"أرارات." أكُنتَ تعلمُ أنّ الاسمَ الأرمنيَّ لهذه الآلة هو "تسيرانابول،" ويعني روح شجرةِ المُشمش؟ لستُ متأكّدةً من ذلك. ما أعرفه هو أنّك كنتَ تقول "إنّ مَلمسي مشْمش،" وانني الآن أَنّى نظرتُ وقَعَتْ مجزرة. ذاكرةُ هاتفي مثلُ ذاكرتي تحتاجُ إلى تفريغٍ كلَّ فترة. سأحذفُ أغنيتَكَ الآن وأُسجِّلُ صوتَ الخروفِ مكانها.
سوريا