1- في العلاقة بالمفهوم
دَرج الفكرُ العربيّ في تعامله مع المفاهيم الغربيّة على أن يتحرّك وفاق ثلاث رؤى:
أ- انبهارٌ بالمفهوم لكونه يَصْدر عن مركز الحضارة العالميّة، ما يوجب نقله كما هو، ومن ثمّ إسقاطَه على مجتمعنا لما يشتمل عليه ـــــ في ظنّ الناسخ ـــــ من صلاحيّةٍ معرفيّةٍ ونظريّةٍ تجيب عن مشكلاتنا وتجبْه تأخرّنا وتضعنا على سكّة التقدّم. وقد حملت تلك الرؤية باسم كونيّة المفهوم، الليبراليّ(1) واليساريّ،(2) وإنْ بأقدار متفاوتة في ما بينهما.
ب- رفضٌ للمفهوم بسبب طابعه الغربيّ الذي يؤدّي، في المنطق الرفضيّ، إلى تغريب فكريّ يفتئت على أصالتنا ويطيح تراثَنا "ومجدَنا التليد" ويُهْدر هويّتنا الحضاريّة. وهذه الرؤية تستقي متنَها المعرفيّ من مقولات الطبيعة البشريّة الثابتة والجوهرانيّة، بحيث يغدو في ظلّها الشرقُ شرقًا والغربُ غربًا من دون أن يلتقيا(3) أو يتآنسا حضاريًّا. وقد تبدّى رفضُها في الفكر السلفيّ المتشدّد(4) قديمًا وحديثًا.
ج- انتقاءٌ في العلاقة بالمفهوم، أو الفصل بين جانبين فيه: الجانب الماديّ أو التقنيّ، والجانب الفكريّ والثقافيّ. وتفيد الانتقائيّةُ هنا أنّ ما يصْلح نقلُه إلى بلادنا هو الجانبُ الأوّل لأنّه "حياديّ" لا ينطبع بهويّةٍ مخصوصة؛ أمّا الجانب الثاني فننتقي منه ما يلائم "خصوصيّتنا التاريخيّة والثقافيّة،" ونطرح جانبًا ما يناقض نظامَ تفكيرنا في النظر إلى شؤون الكون والإنسان والمجتمع. وقد تمثّلتْ رؤيةُ الانتقاء هذه في الفكر التوفيقيّ لدى السلفيّ(5) المعتدل، والدينيّ(6) الإصلاحيّ، والقوميّ(7) العربيّ، وإنْ تباينتْ منطلقاتُهم في النظر إلى فعل الانتقاء وطبيعة الخصوصيّة.
2- في علميّة المفهوم
تدلّ الرؤى أعلاه على تعاملها مع المفهوم على نحوٍ اختزاليّ، وضع أصحابَها خارج عتبة العلم. ذلك لأنّ كلّ مفهوم يَحمل وجهين متلازميْن بنيويًّا: "وجهًا كونيًّا(8) يتعدّى الشروطَ المجتمعيّة والتاريخيّة التي أنتجتْه، ووجهًا محليًّا يرتبط بالشروط التي استولدته." أمّا حين نزعم أنّنا ننقل وجهًا واحدًا دون آخر، فنكون قد وضعنا أنفسنا خارج العلم والواقع:
أمّا رفض المفهوم باسم "طبيعتنا" الجوهرانيّة فيتوخّى نمْذجة واقعنا على هيئة النموذج التراثيّ، الأمرُ الذي يدخلنا في استحالة واقعيّة مضاعفة. فمن جهة، هناك استحالة لنمذجة واقعنا المعاصر على هيئة نموذجٍ لا يمكن أن يعود؛ وهناك استحالة لرفض الحضور الكونيّ للمفهوم داخل خصوصيّتنا المجتمعيّة من جهةٍ أخرى. |
ــ فاستناخ المفهوم باسم "كونيّته" يَنشد نمْذجةَ واقعنا على صورة النموذج الغربيّ (في شكليْه الرأسماليّ والاشتراكيّ)، ما يضعنا أمام استحالةٍ واقعيّةٍ ملموسة لأنّ خصوصيّة شروطنا المجتمعيّة تختلف عن تلك التي تعود إلى الغرب.
ــ أمّا رفض المفهوم باسم "طبيعتنا" الجوهرانيّة فيتوخّى نمْذجة واقعنا على هيئة النموذج التراثيّ، الأمرُ الذي يدخلنا في استحالة واقعيّة مضاعفة. فمن جهة، هناك استحالة لنمذجة واقعنا المعاصر على هيئة نموذجٍ لا يمكن أن يعود؛ وهناك استحالة لرفض الحضور الكونيّ للمفهوم داخل خصوصيّتنا المجتمعيّة من جهةٍ أخرى. وهو ما يجعل الرفض رفضًا مزعومًا وشكلانيًّا، ولا سيّما أنّ دعاته قد نقلوا المفهوم تحت مسمّى "المعرفة التقنيّة والتكنولوجيّة" وأحرزوا نصيبًا وافرًا في براعة استخدامها. وانتقائيّة المفهوم، باسم الحفاظ على "خصوصيّتنا،" تتوسّل بناءَ واقعنا على هيئةٍ توفيقيّةٍ تجمع بين ما يَصلح لنا من النموذج الغربيّ وما يَصلح لنا من النموذج التراثيّ، ما أوقعنا في ثنائيّةٍ متناقضةٍ عوّقت التقدّمَ المنشودَ في بلادنا: ذلك أنّ النموذجين يعودان إلى أحاديّةٍ لا تنوجد في واقعنا المعاصر، وأدّى ذلك بنا إلى عدم معرفتنا الحقيقيّة بقواعد اشتغال هذا الواقع ــــ أيْ قواعدِ حضور الحديث في التقليديّ، وقواعدِ حضور التقليديّ في الحديث؛ فتفلّتَ منّا، بالتالي، العلمُ والواقعُ على حدّ سواء.
من هذا المنطلق نعتقد أنّ فشل النهضة العربيّة بمراحلها المتعاقبة يعود إلى انحباس فكرنا داخل هذه الرؤى، وإلى عجزه البنيويّ عن تجاوزها. ولهذا وصف البعضُ الحداثةَ العربيّة بالحداثة "الناقصة(9) أو المجهضة، أو المشوّهة، أو الشكليّة." ولن نستطيع أن نبني فعلَ التجاوز ما لم نأخذْ بنظامٍ فكريٍّ جديد، يرى أنّ أيّ مفهوم لا ينتقل إلينا إلّا بوجهْيه الكونيّ والمحليّ في آن واحد، فنتعامل معه من داخل شروطنا المجتمعيّة الملموسة. وعلى هذا الأساس يغدو في مُكنتنا أن ندخل إلى فضاء العصر بصفة المنتِج الفكريّ، لا بصفة المستهلك أو المتلقّي سواء باسم "النموذج الكونيّ" أو "النموذج السلفيّ" أو "النموذج التوفيقيّ."
3- في الحداثة وما بعد الحداثة
ومن باب النقد المعرفيّ، سوف نقارب مفهوم الحداثة، كما مفهوم ما بعد الحداثة، ثم نقارب تعبيرات الأخير من داخل حقل مخصوص، هو الحقل السياسيّ.
أ- الحداثة: سبيلٌ تاريخيّ سلكه الغربُ منذ عصر نهضته، وتأسّس على بناءِ كلٍّ مجتمعيٍّ جديد. فجرى تجاوزُ المجتمعيّ التقليديّ وقيمِ أمسه الأزليّ القرْوسطيّ، وأنتج العلمُ وعيًا ثورويًّا حوّل مركزَ الكون (ثورة كوبرنيكوس)، وغدت الطبيعة الموضوعَ الرئيسَ للمعرفة العلميّة التي تُبنى وتُنتج. وبنى الفرد مركزيّته في هذا العالم، وأصبح سيّدَ نفسه، ويرى أنّ مصدر المعرفة يكمن في رأسه لا في أيّ مصدر آخر خارجه.
هذا السبيل، إذن، أنتج مرجعيّةً للنظر في قضايا الوجود، تمظهرتْ في عقلانيّةٍ أو معقوليّةٍ(10) موصوفة، سواء على صعيد تنظيم السلوك الفرديّ أو على صعيد التنظيم المجتمعيّ والاقتصاديّ والدولتيّ (ماكس فيبر)؛ كما تمظهرتْ في قدرة العقل على إنتاج الحقائق(11) العامّة والثابتة.
وانطوى السبيل إلى التقدّم على غايةٍ إنسانيّةٍ تؤول إليها صيرورةُ نضج العقل (هيغل)، وعبورُ الإنسان من عالم الضرورة إلى عالم الحرّيّة (ماركس). وترسّختْ مرجعيّةُ العقل في عصر التنوير (فولتير، روسّو، ديدرو،...) لجهة إنتاج اليقين المعرفيّ فيصلًا بين الزائف والحقيقيّ، والخطأ والصواب. وقد عبّرتْ تلك الصفة عمّا أُطلق عليه "وحدة العقل البشريّ" و"وحدة الطبيعة الإنسانيّة" و"أهليّة العقل لصوغ سرديّات"(12) كبرى، أيْ مذاهبَ وأنساقٍ فكريّةٍ عامّة، في حقول المعرفة كافّة.
اذن، الحداثة سرديّة كبرى، أو نظامُ تفكيرٍ جديد، انبنى على مرجعيّتَي العلم والعقل، وعلى مقولة التقدّم. لكنّ هذه السرديّة انطبعتْ بتناقضٍ بنيويٍّ لا فكاك منه. فالعقلانيّة الغربيّة لجأتْ منذ بواكيرها الأولى إلى استخدام كلّ وسائل العنف المنظّم من أجل إخضاع المجالات غير الغربيّة والسيطرةِ عليها. ولقد وجدت تلك البواكير متنها الحقيقيّ في الفكريّ والاقتصاديّ:
ــ ففي الفكريّ، اعتبرتْ أنّ عقلَ الغرب هو العقلُ الكونيُّ الذي يتوجّب عليه أن يفرضَ نفسَه على العالم كلّه.
ــ وفي الاقتصاديّ، تأسّست العقلانيّة على قانون التوسّع الرأسماليّ منذ تراكمه البدائيّ (ماركس). وهذا ما جعل العنفَ يلازم تلك العقلانيّةَ الغربيّة في أرجاء المعمورة، بما فيها "أرجاءُ الغرب نفسها" (بملحظ الحروب بين الدول الأوروبيّة في القرنيْن التاسع عشر والعشرين).
واذا ذهبنا إلى الملموس، نجد أنّه في الوقت الذي كان فيه ديكارت يؤسّس مبادئَ العقل، كان الغربُ الأوروبيّ يمارس عنفه ضدّ حضارة السكّان الأصليين في العالم الجديد. وفي الوقت الذي كان فيه الغربُ يمجّد نورَ العقل وإنسانيّة الإنسان في القرن الثامن عشر، ويصنع الثورات السياسيّة والصناعيّة في القرن التاسع عشر، كان يفرض سيطرتَه الاستعماريّة على البلدان غير الغربيّة، ويوزّعها مناطقَ نفوذٍ تابعةً له.
وبذلك يكون الغربُ السياسيّ قد كرّس لازمةَ التناقض في العنف العقلانيّ: فهو يدعو إلى كونيّة نموذجه الحداثيّ، ويعوّق تحقّقه على أرض الواقع في العالم غير الغربّي في الوقت نفسه. ومن صميم هذه التناقضات التي أنتجها المسارُ الحداثيّ، توّلدتْ بداياتُ النقد الغربيّ للحداثة.
لكنْ، بدلًا من أن يتناول النقدُ أصولَ التناقض في العقلانيّة الغربيّة، أيْ نقدَ الأنويّة الغربيّة التي ترى أنّ "أنا" الغرب هي أنا العالم، وأنّ عقلَ الغرب هو عقل العالم؛ وبدلًا من أن ينقد التوسّع الرأسماليّ أو النظام الرأسماليّ (يمثّل ماركس استثناءً بارزًا في هذا المضمار) الذي يرى إلى العالم غير الغربيّ مجالًا أو موضوعًا للسيطرة عليه؛ بدلًا من ذلك كلّه تناول النقدُ مرجعيّات التفكير (العقل أو المادّة أو الميتافيزيقا). وهذا ما استولد تناقضاتٍ جديدةً جعلت العالمَ متروكًا لصيرورة مادّيّة سائلة(13) لا يتحكّم فيها إلّا مَن يمتلك القّوة ووسائلَ السيطرة على هذا العالم.
ب- ما بعد الحداثة. حين أعلن نيتشه موتَ الله، لم يكن يعني بالطبع موتًا حسّيًّا للكائن المتعالي، بل عنى بالتحديد المبدأ الذي قامت عليه المتيافيزيقا الغربيّةُ منذ أفلاطون حتّى ديكارت. والمبدأ هنا يتمثّل في العقل، أو في أيّ مصدرٍ فكريٍّ شموليّ يمكّن الناظرَ في الكون والإنسان والمجتمع من التوصّل إلى حقائقَ عامّةٍ وثابتة. فالعقل، في نظر نيتشه، يخفي الحقيقةَ تحت غلالةٍ سميكةٍ من الألعاب البلاغيّة؛ وهو بذلك لا يستطيع أن يقود إلى دروب اليقين، سواء في عالم المادّة أو الروح أو الأخلاق.
إزاء هذا، لم يعد أمام نيتشه إلّا رفضُ التنوير والتحديث، واعتبارُهما ادّعاءً زائفًا يتأتّى من أوهام العقل وأباطيله. كما لم يعد أمامه إلّا التنقيبُ عن بديلٍ للعقل الموهوم، فوجده يتجسّد في إرادة القوة، التي رأى أنّها تشكّل مرجعًا لكلّ حقيقة، ولضمان انتشارها. وهكذا، فإنّ الأخلاق السائدة تجد حقيقتها عند القويّ، الذي يصنعها ويفرضها على الخلق؛ أمّا الأخلاق العامّة، وبخاصّةٍ الدينيّة من نوع التواضع والتسامح، فتلك أخلاقُ الضعفاء، مثلما أنّ القيم الروحيّة الصادرة عن الكائن المتعالي هي أخلاق المساكين والبسطاء.
وعلى أساس الأطروحة أعلاه، أمات فيلسوفُ الإرادة اللهَ، فهزّت أطروحتُه مركزيّةَ العقل والإنسان في الكون. وهي مركزيّة تمثّل أحدَ عناوين الحداثة التي افتتحتْها عقلانيّةُ ديكارت في أوروبا. وبذلك يكون نيتشه قد أسّس لرؤيةٍ فلسفيّةٍ جديدة، هي ما بعد الحداثة، التي طغت على الفكر الغربيّ في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
تلك الرؤية وجدتْ أحدَ وجوه ترجمتها في التفكيكيّة(14)(دريدا مثلًا). وهي ترجمةٌ استحضرتْ نيتشه وكانط وهايديغر وآخرين، ثم بَنَت قوامَها الخاصّ في المنهج والفكر والفلسفة ضدًّا على الحداثة والبنيويّة. ومن منطلق هذه الضدّيّة رفضت التفكيكيّة أيَّ مرجعٍ فلسفيّ؛ فالإنسان لم يعد، بحسب منطوقها، مركزًا للكون كما كان عليه الأمرُ في الحداثة، بل غدا ظاهرةً طبيعيّةً يماثل الظواهرَ الأخرى، وتحركّه الرغباتُ والملذّاتُ الجسديّة، بحيث لا يُتاح له أن يتسامى على الحسّ والتجريب. والروح لم تعد تعبّر عن الإيمان وقيمِه الإنسانيّة والخلقيّة، أو عن مرجعٍ للنظر المتعالي، بل أضحت تعبّر عن هَذَرٍ ماورائيّ لا طائلَ منه. والعقل كفّ عن كونه مصدرًا للمعرفة، يملك أن يتجاوز الملموسَ الواقعيّ إلى حقائقَ عامّةٍ أو معانٍ كليّة، وتحوّل إلى أداةٍ لا تملك أن تنتج غيرَ حقائقَ مفردةٍ أو معارفَ جزئيّة.
وبتقوّض الأصول لا تعود هناك أيُّ مركزيّةٍ في العالم، ويتحوّل الأخير من وجودٍ كليّ إلى وحداتٍ صغرى لكلٍّ منها مركزُها(15) المستقلُّ وحقيقتُها الخاصّة. إذّاك يَدخل العالمُ في حالةٍ من الانقطاع والتبعثر والفوضى. كما يدخل في صيرورةٍ دائمةٍ لا تنتظم في تاريخٍ ذي معنى أو غاية. ومع دخول العالم في حركة دائمة من التغيّر ينتفي منه الثباتُ واليقين، ويغدو كلّ شيء فيه محكومًا بالنسبيّة، لكنّها النسبيّة الصائرة باستمرار، أي التي لا تحيل على قوانينَ عامّةٍ أو حقائقَ ثابتة.
وعلى هذا، لم يبقَ في الساحة المعرفيّة التي بنتها التفكيكيّة سوى مفاهيم اللايقين واللامنطق واللامعنى. كما لم يبقَ إلّا القصصُ أو السرديّاتُ الصغرى عن العيش اليوميّ للأفراد، بعيدًا عن كلّ قضيّةٍ عامّةٍ، وطنيّةً كانت أو إنسانيّة.
4- تعبيرات ما بعد حداثيّة في الحقل السياسيّ
توضح هذه المقاربة أنّ التفكيكيّة تمثّل وجهًا بارزًا ومعاصرًا من وجوه الفكر الغربيّ. وهو وجهٌ استطاع، أكثر من سواه، أن ينعكس في ممارسات الغرب السياسيّ مع الخارج غير الغربيّ، ولا سيّما بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ.
إنّ إرادة القوّة جعلتْ هذا الغربَ "ذاتًا كونيّةً متفوّقة،" وجعلت المجالَ غيرَ الغربيّ "موضوعًا" غيرَ مكتملٍ في إنسانيّته. وهذا ما أعطى الذاتَ الكونيّةَ "الحقَّ" في إعادة تشكيل الموضوع وفاقَ ما ترغب (مثال حرب الولايات المتحدة وحلف الناتو على أفغانستان). كذلك ادّعت تلك الذاتُ وجودَ "حقائق" لا أساسَ موضوعيًّا لها من أجل فرض سيطرتها الاستعلائيّة على الموضوع، ومن دون أن تبالي بالوقوع في التناقض إذا ما أثبت الملموسُ الواقعيُّ زيفَ ادّعائها (نموذج المحافظين الجدد في أميركا وحربهم على العراق)؛ ذلك أنّ النظر التفكيكيّ لا يكترث للتمييز بين الحقيقيّ والزائف، أو الرئيسِ والهامشيّ، أو الجوهريِّ والعَرَضِيّ.
من هنا مثلًا، زجّت غزّة بالغرب السياسيّ في حمأةِ فكرٍ تفكيكيٍّ لم يكتفِ بعدم تقويم مفاهيم "العقلانيّة والتنوير والتحديث" التي بنى مركزيّته الحضاريّة على أساسها، بل إنّه لم يُقِمْ أيضًا وزنًا لمعنى الإنسان والحياةِ الآدميّة. وانسجامًا مع هذا الفكر، رأى الاتّحادُ الأوروبيّ أنّ "إسرائيل تدافع عن نفسها في حربها على غزّة (2008 ـــ 2009) وتحمي مواطنيها من خطر الصواريخ التي تطلقها المقاومةُ إلى جنوب أراضي الدولة العبريّة." إنّ موقفًا كهذا يَفترض أنّ المشكلة لا تكمن في الاحتلال الإسرائيليّ، بل في المقاومة التي تدافع عن أراضيها، مثلما يفترض أنّ القدرة الصاروخيّة لدى الفلسطينيين تحقّق توازنًا مع قدرة الجيش الصهيونيّ. وفي الإطار نفسه، "دعا الرئيسُ الأميركيّ المقاومة إلى أن تعلن وقفَ إطلاق الصواريخ على الأراضي الإسرائيليّة، وأن يوضعَ حدٌّ لتهريب السلاح إلى غزّة حتّى توقف إسرائيلُ الحربَ عليها."
إنّ إرادة القوّة جعلتْ هذا الغربَ "ذاتًا كونيّةً متفوّقة،" وجعلت المجالَ غيرَ الغربيّ "موضوعًا" غيرَ مكتملٍ في إنسانيّته. وهذا ما أعطى الذاتَ الكونيّةَ "الحقَّ" في إعادة تشكيل الموضوع وفاقَ ما ترغب |
إنّ النظر العقلانيّ يدحض الفرضيّتين التي يقوم عليهما الموقفُ الأوروبيّ ودعوةُ الرئيس الأميركيّ. إذ ليس من المعقوليّة في شيء ألّا يكون الاحتلالُ مشكلةً، وأن تغدو المشكلةُ في مقاومة المحتلّ! كذلك، ليس هناك أيُّ قدْرٍ من الموضوعيّة في افتراض التوازن العسكريّ بين طرفَي الصراع حتّى يجري الحديثُ عن "دفاع إسرائيل عن نفسها"! ومع تجنّد الغرب لحفظ أمن الكيان الإسرائيليّ، ومنعِ تهريب الأسلحة إلى غزّة، يكون الغربُ السياسيّ قد ذهب إلى ذروةِ اللامعنى. ومع ذهابه إلى هذا الحدّ، يَنحكم هذا الغربُ في نظرته إلى القضايا بلامعقوله،(16) ويصبح الموضوعُ (الاحتلال(17)) وجهةَ نظر، ويتفسّخ النظامُ في بنى العلاقات، وتزدهر(18) الفوضى، ويصبح العنفُ اللاعقلانيُّ زائرًا دوريًّا في عالم اليوم.
إنّها حربُ التفكيكيّة، قادها الغربُ السياسيّ، ونفّذتها إسرائيلُ عمليًّا بالقنابل الفوسفوريّة على غزّة.
5- ثمرة النقد
حاول هذا المبحث النقديّ أن يُظهر أنّه لن تكون لنا حداثةٌ على النموذج الغربيّ، لا لأنّ الغربَ السياسيّ يدعو إلى كونيّةِ نموذجه ويعوِّق تحقّقه في بلادنا في الوقت نفسه، وحسب، بل لسببٍ أكثر أهميّة: وهو أنّ مسارَنا التاريخيّ وهياكلَنا المجتمعيّة تختلف من حيث طبيعتُها عمّا يعود للغرب.
فحداثتنا لا بدّ من أن تأخذ بمرجعيّات العقل والعلم والمادّة والميتافيزيقا من داخل شروطنا المجتمعة الملموسة بغية إعادة إنتاج كونيّتها وخصوصيّتها في آن، وبغية انتظامها في مسارٍ عقلانيِّ تواصليّ(19) (هابر ماس) بين حضارات الشعوب في العالم. أمّا ما بعد الحداثة، إيديولوجيا العولمةِ المعاصرة، فلن تجد أرضيّةَ رسوخٍ لها في بلادنا؛ ذلك أنّنا لا نملك ترفَ إماتة الله، ليس لأنّنا أرضُ الله الأولى، بل لأنّنا لا نملك ترفَ إماتة مرجعيّاتِ التفكير في قضايانا المجتمعيّة الكبرى. وعلى الرغم ممّا ينوجد بين ظهرانينا من مرجعيّاتٍ قاتلة (كالعصبيّة بأشكالها كافّةً)، فإنّ مواجهة هذه الأخيرة لا تكون بإماتة الله، بل بالأخذ بسرديّاتٍ حداثيّةٍ كبرى تَنشد النهوضَ والتحديثَ والتقدّم.
6- طفل فلسطيني يُحْيي الله
أخيرًا، إذا كان نيتشه قد أمات اللهَ مرّةً حين ألغى الأصولَ المرجعيّة، واعتبر أنّ إرادة القوّة هي وحدها التي تصنع الحقيقة، فإنّ التفكيكيّة أماتتْه مرّتين:
- في الأولى، عندما رفضت أيَّ مركزيّةٍ في هذا العالم، أكانت العقلَ أمِ المادّة أمِ الله.
- وفي الثانية: عندما جعلت الغربَ السياسيّ يمارس الإماتة المنظّمة لكلِّ مَن يَرفض موتَ الله .
أمّا إلهُ فلسطين، فما زال عقلًا وإيمانًا، أيْ ما زال حيًّا. وقد سكن في عينَي الطفل الغزّاوي الذي أفقده الفوسفورُ الأبيضُ بصرَه، وهو يَسْخرُ من استبداد النظام العربيّ وتبعيّته.
لبنان
1- من الأعلام البارزين الذين أخذوا بالمفهوم الليبراليّ في مرحلة التأسيس النهضويّ: قاسم أمين، وأحمد لطفي السيّد، وطه حسين، وزكي نجيب محمود (في كتاباته الأولى).
اُنظر: فؤاد خليل، الفكر النهضويّ العربيّ، الانكسار البنيويّ (بيروت: دار الفارابي، 2002). أمّا الليبراليون الجدد اليوم، فمنهم: هالة مصطفى وعبد المنعم سعيد وأسامة الغزالي حرب وسعد الدين ابراهيم (مصر)، وأحمد البغدادي وعبد الحميد الأنصاري (الخليج)، وشاكر النابلسي (الاردن). انظر:WWW.alukah.net
2 - يمثل التيّارُ البكداشيّ النموذجَ الأمثلَ لجهة التماهي مع المفهوم الماركسيّ، وقد فرض سيطرتَه لفترةٍ طويلةٍ على أدبيّات العديد من مفكّري الحركة الشيوعيّة العربيّة.
3 - يلتقي السلفيّ المتشدّد هنا مع مقولة روديارد كيبلنغ (الروائيّ الإنكليزيّ): "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا."
4 - السلفيّة المتشدّدة، أو ما يُعرف أيضًا باسم السلفيّة الجهاديّة. وقد أسّس هذا المذهب محمّد بن عبد الوهّاب في بلاد نجد والحجاز. وامتدّ تأثيرُه لاحِقًا على الساحة الفكريّة العربيّة. ومن السلفيّين المتشدّدين: عبد العزيز بن باز (السعودية) وسيد قطب (مصر)، وناصر الألباني وعبد الملك رمضانيّ (الجزائر)، والشيخ الفيرازي (المغرب)، ناهيك بمفكّري تنظيم القاعدة ومتفرّعاته.
5 - من الأعلام الذين يمثّلون السلفيّة المعتدلة: محمد قطب، وراشد الغنوشي، وحسن الترابي، ومحمد سليم العوا، وفهمي هويدي.
6 - من أعلام الفكر الدينيّ الإصلاحيّ في زمن التأسيس النهضويّ: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي. انظر: فؤاد خليل، المرجع نفسه.
7 - من الأعلام المؤسّسين للفكر القوميّ العربيّ: ساطع الحصريّ، وميشال عفلق، وقسطنطين زريق، وزكي الارسوزي. ومن أعلام هذا الفكر المعاصرين: فائز إسماعيل، وجمال الأتاسي، وطارق البِشْري، وخير الدين حسيب، وسعدون حمّادي، وعبد العزيز الدوري، وعصمت سيف الدولة. انظر النزعة التوفيقيّة في الفكر القوميّ بعامّة في محمد جابر الانصاري، الفكر العربيّ وصراع الأضداد (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، القسم الثالث، 1996).
8 - عبد الله ابراهيم، علم الاجتماع (السوسيولوجيا) (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، ط2، 2006)، ص273- 278.
9 - برهان غليون، مجتمع النخبة (بيروت: معهد الإنماء العربيّ، 1985). هشام شرابي، النظام الأبويّ وإشكاليّة تخلّف المجتمع العربيّ، نقله إلى العربيّة محمود شريح (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1992)، ص 93.
10 - ابن داود عبد النور، المدخل الفلسفيّ للحداثة، تحليليّة نظام تمظهر العقل العربيّ (بيروت: الدار العربيّة للعلوم، 2009).
11 - د. عبد الوهاب المسيري، د.فتحي التريكي، الحداثة، وما بعد الحداثة (بيروت: دار الفكر المعاصر، ودمشق: دار الفكر، 2003).
12 - د. أحمد عبد الحليم عطيّة، ليوتار والوضع ما بعد الحداثيّ (بيروت: دار الفاربي،2011).
13 - د. الوهاب المسيري و د. فتحي التريكي، المرجع نفسه. د. أحمد عبد الحليم عطيه، نيتشه وجذور ما بعد الحداثة (بيروت: دار الفارابي، 2010).
14 - إشراف محمد شوقي الزين، جاك دريدا، ما الآن؟ ماذا عن غد؟ الحدث، التفكيك، الخطاب (بيروت: دار الفارابي، 2011).
- د. أحمد عبدالحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك (بيروت: دار الفارابي، 2010).
15 - د. عبد الوهاب المسيري، د. فتحي التريكي، المرجع نفسه.
16 - علي حرب، أوهام النخبة أو نقد المثقّف (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 1996).
17 - ذهب رهط واسع من مثقّفي العرب ومفكّريهم، ومن مشارب شتّى، إلى نظرةٍ ما بعد حداثيّة ترى أنّ احتلال أميركا للعراق ليس احتلالًا استعماريًّا، بل وجودٌ مطلوبٌ لذاته لأنّه ينشد بناء منظومة التحديث الديمقراطيّ في بلاد الرافديْن بعد أن عجز الداخل عن تحقيقها في ظلّ نظام الاستبداد الدهريّ.
18 - إنّ ما بعد الحداثة، كإيديولوجيا للعولمة المعاصرة، وَجدت في بلادنا بيئةً ملائمةً لإعادة إنتاج هويّاتنا المفردة على حساب هويّتنا الجامعة. وهذا ما أدخلنا في طورٍ مديدٍ من الفوضى الكيانيّة التي تضرب في وجود الدولة والمجتمع معًا.
19 - جون ليتشه، خمسون مفكّرًا أساسيًّا معاصرًا، من البنيويّة إلى ما بعد الحداثة، ترجمة فاتن البستاني (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2008)، ص 376-386.