يستدعي البحثُ في أزمة الحزب الشيوعيّ في لبنان لجهة علاقته بالطائفيّة أن نحدِّدَ الإطارَ العامّ لنشأة الفكر الماركسيّ في البلاد العربيّة، ومن ثمّ كيفيّة مقاربته القضيّتين الوطنيّة والمجتمعيّة. وسنجد أنّ هذه المقاربة جاءت خلّاقةً ومبدعةً في القضيّة الأولى، وإسقاطيّةً وميكانيكيّة في القضيّة الثانية ــــ ما أنتج أزمةً لدى الأحزاب الشيوعيّة العربيّة في فهم المجتمعيّ، وتتمثّل في عجزِها عن إعادة إنتاج أدوات التحليل الماركسيّ من داخل الشروط العربيّة الملموسة، إذ اكتفت بنقل هذه الأدوات و"ترجمتها" ترجمةً سيّئةً إلى حدٍّ بعيد.
الأزمة في فهم المجتمعيّ
بعد الحرب العالميّة الأولى نشأتْ ظروفٌ جديدة، منها انتصارُ ثورة أكتوبر في روسيا. وهذا الانتصار جعل الفكرَ الماركسيّ يتولّد وسط مناخٍ مؤاتٍ لكلّ فكرٍ ينافح عن القضيّة الوطنيّة ويتصدّى لأشكال التبعيّة والتخلّف في المجتمعات العربيّة.
آنذاك، كانت البلاد العربيّة تشهد تحوّلاتٍ بارزةً أفضت إلى تشديد السيطرة الاستعماريّة عليها، وتوسيعِ التفاوتات الإقليميّة بينها، وتعميقِ الفوارق الطبقيّة في تراكيبها المجتمعيّة. وبفعل ذلك، تعايَشَ في بلادنا عالمان: عالمُ الماضي وعالمُ الحاضر، في نطاق ديناميّةٍ مشتركة، هي الخضوعُ العسكريّ والتبعيّةُ الاقتصاديّة للمستعمِر الأوروبيّ. وهذا ما جعل مناهضةَ الاستعمارِ والتخلّفِ المجتمعيّ الحقلَ التاريخيَّ والمعرفيَّ لكلّ فكرٍ حيّ يلتزم بقضايا شعبه وأمّته.
إلى هذا الحقل الموضوعيّ انتمى الفكرُ الماركسيّ، وفي كنفه تشكّلتْ تعبيراتُه السياسيّة: الأحزابُ الشيوعيّة العربيّة. فكان أن أنتج قراءتَه النظريّةَ والسياسيّة في باب القضيّة الوطنيّة، وفي باب القضيّة المجتمعيّة.
ففي باب القضيّة الوطنيّة، طالب هذا الفكرُ بتحرير البلاد العربيّة من الاستعمار الأجنبيّ، ودعا إلى مقاومته طريقًا لنيل الاستقلال. كما دعا إلى إلغاء المعاهدات السرّية (سايكس ــــ بيكو) وفضحِ طابعها التآمريّ على القضايا الوطنيّة والقوميّة.
وفي باب القضيّة المجتمعيّة، رأى الفكرُ الماركسيّ أنّ السبب الرئيس للتخلّف هو سيطرةُ نظام الاستغلال الطبقيّ في المجتمعات العربيّة. فالبنى التقليديّة، بعد أن اندمجتْ في دورة الجديد الرأسماليّ، أعادت إنتاجَ أشكال التخلّف المتنوّعة، وبخاصةٍ في الأقاليم الريفيّة. والنظام الرأسماليّ التابع ضاعَفَ من وتيرة علاقات الاستغلال، وعمّق الهوّةَ بين الطبقات، وهمّش فئاتٍ واسعةً من المجتمع، فأخفق في تحقيق النهوض المجتمعيّ والثقافيّ. ولا سبيل إلى هذا النهوض، بحسب الفكر الماركسيّ، إلّا بنيل الاستقلال الوطنيّ، والتحرّر من علاقات التبعيّة للرأسمال العالميّ، وذلك عن طريق بناء الاشتراكية.
في باب القضيّة الوطنيّة، كان الفكر الماركسيّ عربيًّا بامتياز. فخطُّه النظريّ والسياسيّ انتمى بشكلٍ عضويّ إلى حقله العربيّ، وخاض تجربةً نضاليّةً طويلةً ربط في ضوئها بين الاستعمار والتخلّف، فأغنى المشهدَ العامّ، سواء من حيث المعرفة النظريّة، أو الالتزام السياسيّ، أو من حيث ابتكار الأساليب العمليّة في مجرى النضال التحرّري.
أمّا في باب القضيّة المجتمعيّة، فقد انطلق الفكرُ الماركسيّ من مضمَرٍ يرى أنّ سيطرة العلاقات الرأسماليّة قد أَنجزت التكوينَ الطبقيّ في المجتمعات العربيّة؛ ما سهّل الاعتقادَ أنّها صفّتِ البنى التقليديّة ثمّ أنتجتْ وحدةً وطنيّةً في كلّ قطرٍ عربيّ ذاتَ اصطفافٍ طبقيّ متبلور. وهو ما يعني أنّ الفكر الماركسيّ هنا تسلّح بأداة التحليل الطبقيّ في النظر إلى الواقع المجتمعيّ من دون تأصيلٍ علميّ لمفهوم "الطبقة" في حقل المجتمعات العربيّة.
وهكذا ، كانت أدبيّاتُ الأحزاب الشيوعيّة تشهد غزارةً في الحديث عن "البرجوازيّة الوطنيّة" و"طريق التطوّر اللّارأسماليّ" من دون فحصٍ نقديّ لهذين المفهومين في مجالهما العربيّ المحدَّد.
وفي المقابل كانت تلك الأدبيّات تُعْرِض عن قضايا أساسيّة أخذ بها النظام ُالرأسماليّ التابع أو طُرحتْ في ظلّه:
ــــ فقد رَفض الفكرُ الماركسيّ تجربةَ "النظام الليبراليّ،" ووجد فيها وجهًا فكريًّا للرأسماليّة، ورأى أنّها لا تقدِّم إنجازاتٍ حقيقيّةً على طريق التقدّم.
ــــ كذلك كان مُقلًّا في مقاربة ظاهرة "القوميّة،" مع أنّ بلادَنا مسكونةٌ بالشعور القوميّ، وتوّاقةٌ إلى الوحدة. ولم يكن هذا الإقلالُ لعجزٍ في الفكر الماركسيّ، بل لأنّ القوميّة بالنسبة إليه نتاجٌ رأسماليٌّ، ومرحلةٌ تاريخيّةٌ سوف يتخطّاها التطوّر. وعليه، فقد كان من الطبيعيّ أن يلتبسَ موقفُه من مسألة الوحدة، لفترة طويلة، في ضوء تحليله الطبقيّ، ورؤيتِه التطوّرية الأحاديّة. وكان من الطبيعيّ أيضًا أن تتبنّى الأحزابُ الشيوعيّة العربيّة مواقفَ سياسيّةً خاطئة (مثلًا: موقفها المؤيِّد لتقسيم فلسطين)؛ مواقفَ اعتُبرتْ ــــ لزمنٍ ليس بالقصير ــــ نقاطًا سودًا في سجلّها التاريخيّ.
ــــ كما عزف الفكرُ الماركسيُّ أيضًا عن الخوض في فكر الإصلاح الدينيّ، على الرغم من أنّ هذا الأخير أدّى دورًا تنويريًّا بارزًا. ففي "المضمَر" الماركسيّ، ظهر الإصلاحُ الدينيّ "التوفيقيّ" معزِّزًا لشروط سيطرة النظام الرأسماليّ التابع. وعوضًا من أن يتصدّى الفكرُ الماركسيّ لإشكاليّة "التوفيق" هذه، فيؤلِّفَ (مع تعبيراته السياسيّة، أي الأحزاب الشيوعيّة) قوّةً فكريّةً ومجتمعيّةً تَرِثُ الإصلاحَ الدينيَّ وتُطوّرُه، فإنّه رأى في أمرٍ كهذا إضرارًا بهويّته النظريّة والإيديولوجيّة، فأعرض عن ذلك، وأسهم ــــ بقدر إعراضه ــــ عمّا آل إليه مصيرُ الفكر الإصلاحيّ.
يُظهر الرصدُ المنهجيُّ أعلاه أنّ جدلَ العلاقة بين العامّ والخاصّ في باب القضيّة المجتمعّية من منظور الفكر الماركسيّ كان جدلًا ميكانيكيًّا، تمّت فيه عمليّةٌ "إسقاطيّة" للمفاهيم وأدوات التحليل الماركسيّة. وهذا ما جعل الفكرَ الماركسيَّ في هذا الباب معرَّبًا أكثرَ منه عربيًّا. وهو ما استشعرَ به لاحقًا، فأخذ يواجه المجتمعيَّ ــــ منذ منتصف الستينيّات ــــ بوتائرَ متباينةٍ في كلّ قطرٍ عربيّ، ومن دون أن يتحرّرَ تمامًا من الإسقاطيّة والميكانيكيّة.
عصفٌ بنيويّ
أحدث انهيارُ الاتحاد السوفييتيّ والمنظومةِ الاشتراكيّة في أوروبا الشرقيّة مع مطلع التسعينيّات عصفًا عميقًا في أبنية الحركة الشيوعيّة في العالم. وطاول العصفُ، بالطبع، الحزبَ الشيوعيّ اللبنانيّ، فضرب في مشروعيّة وجوده النظريّ والسياسيّ، إذ وضعه في دوّامةِ أزمةٍ مستعصيةٍ لم يخرجْ منها بعد، على الرغم من انقضاء أكثر من عقدين ونصف العقد على مفاعيل الانهيار المذكور.
إزاء ذلك، تعاظم الحديثُ عن "الأزمة" من داخل الحزب ومن خارجه، وسال حبرٌ غزيرٌ من أجل الوقوف على طبيعتها وإمكانيّاتِ تجاوزها. وأُرجعت الأزمةُ إلى عللٍ متعدّدة مثل: التبعيّة إلى المركز السوفييتيّ، ومنهج الإسقاط الإيديولوجيّ، وغياب الديمقراطيّة، وطبيعة النظام الداخليّ، والأزمة الطائفيّة. بيْد أنّ هذه العلل تأسّستْ، في أغلبها الأعمّ، على مفهومٍ موصوفٍ للأزمة، جعل المقاربةَ تتحرّك بين حدّيْن: أساليب الوصف الشكلانيّة، وطُرق التجريب الضيّقة.
في مفهوم "الأزمة"
الأزمة، في التعبير السوسيولوجيّ، هي تعطّلٌ (أو "كربجةٌ") في آليّات اشتغال بنيةٍ أو نظامٍ أو مؤسّسة، في إحدى لحظات تطوّرها. وفي ضوء هذا التعبير، يتحدّد المفهومُ المذكور بنموذجٍ تطوّريّ، تأخذ به البنيةُ أو النظامُ أو المؤسّسة، بحيث يعمل كلٌّ من هذه الأشكال على محاكاته من داخل واقعٍ مختلفٍ عن واقعه الأصليّ. وحين لا تحقّق النموذجَ التطوّريَّ المنشود، تبرز أمامها "الأزمةُ،" فتأخذ في طرح أسئلةٍ تنتمي إلى مسار تطوّرها وفق النموذج المستلهَم، لا إلى مسار واقعها بالذات.
فما هي الأسئلة الفعليّة التي يطرحها هذا الواقع؟
نظرٌ إبستمولوجيّ
قبل طرح الأسئلة هذه، يجدر بنا أن نَحفر معرفيًّا على مفهومين هما: الاتّجاه والمدرسة.
فالاتّجاه يعبّر عن قواعد نظريّة عامّة، أو مبادئ كليّة، يتشارك فيها كلُّ مَن ينتمي إليه. فالاتّجاه الشيوعّي، مثلًا، يتمثّل في قواعد النظريّة الماركسيّة العامّة، وتتشارك فيه كلُّ الحركات الشيوعيّة في العالم.
أمّا المدرسة، فهي تعبّر عن اندراج القواعد العامّة في المحسوس المجتمعيّ. أيْ إنّها تحيل على الحركة التي تستند إلى هذه القواعد كي تقوم بممارسةٍ خاصّةٍ في حقلها المجتمعيّ. ولمّا كانت المحسوساتُ المجتمعيّة لامتناهيةً، والممارساتُ النظريّة والسياسيّة الخاصّة متعدّدةً ومتنوّعة، فقد تعدّدت الحركاتُ الشيوعيّة بين مجتمعٍ وآخر، أو في المجتمع الواحد نفسه. ولعلّ هذا ما يؤكّده تعدّدُ التنظيمات الماركسيّة في المجتمع اللبنانيّ، ويفسّر التباينَ بين ممارساتها النظريّة والسياسيّة.
أسئلةٌ قد تبدو صادمةً
ثمّة قاعدة منهجيّة في الماركسيّة تقول بالتحليل الملموس للواقع الملموس. ومن منطلق هذه القاعدة، فإنّ الحزب الشيوعيّ، كموجودٍ واقعيّ في المجتمع اللبنانيّ، مدعوٌّ ماركسيًّا إلى وعي علاقته بالملموس المجتمعيّ الذي يوجَد فيه. وفي بلدٍ كلبنان، يصبح طرحُ الأسئلة الآتية ملحًّا من الزاوية الماركسيّة نفسها:
أين تقع الطوائف، أداخل الحزب أمْ خارجه؟ وكيف يظهر المجتمعُ الطوائفيّ في لبنان داخل الحزب؟ وما هو السبيل لكي نعي المسارَ الماركسيَّ الواقعيّ؟
إذا بقي النموذجُ التطوّريّ يَحكم مفهومَ الأزمة، فسيكون الجواب أنّ الطوائف تقع خارج الحزب. ومَن ينظر في الأدبيّات الحزبيّة يجد أنّ الطائفيّة تعبِّر عن "مرض" يسكن الجسمَ اللبنانيّ، ويشكّل عقبةً أمام تطوّره؛ وتلك مقاربةٌ أخلاقيّة قيَميّة تستند إلى نموذجٍ تطوّري يخلو من الطائفة والطائفيّة، ويُنزّه الحزبَ منهما.
ثمّ قاربت تلك الأدبيّاتُ المسألةَ الطائفيّةَ من زاويةٍ جديدة، أحيلت بموجبها الطوائفُ على السياسة وحدها، فغدا الطائفيُّ هو الشكلَ التاريخيَّ المميّز للنظام السياسيّ الذي تمارس البرجوازيّةُ سيطرتَها الطبقيّةَ من خلاله فتمنع الطبقة العاملة من أن تتكوّن كقوّةٍ مستقلّة. وفي المساق نفسه، غدت الطائفيُّة، أيضًا، علّةَ التناقض الذي تعانيه البرجوازيّة: بين أن تكون الشرطَ الأساسَ لوجود الدولة البرجوازيّة اللبنانيّة، وبين أن تشكّل العقبةَ الأساسَ أمام بنائها. لكنّ هذه المقاربة لم تتحرّر كلّيًّا من أثر الفهم التطوّريّ؛ ذلك لأنّ الدولة إذا استطاعت أن تتخلّص من شكلها الطائفيّ فستمتلك شروطَ بنائها كدولة برجوازيّة تحاكي دولةَ النموذج التطوّريّ الغربيّ.
والحال أنّ هاتين المقاربتين المثاليْن انطلقتا من بداهة نظريّة تفيد بأنّ الطوائف خارج الحزب، ولذلك لم تطرحْها الأسئلةُ الفعليّة من أجل إنتاج مقارباتٍ ماركسيّةٍ للملموس الطائفيّ في لبنان. أما السبيل الذي يعي المسارَ الواقعيَّ الماركسيّ في مثال الطائفيّة، فهو الذي يرى، في اعتقادنا، أنّ الطائفة تركيبٌ مجتمعيّ حقيقيّ تقوم عصبيّتُه على الهويّة الدينيّة أو المذهبيّة؛ وأنّ الطائفيّة انتظامٌ مؤسّسيّ لهذا التركيب يخترق مناحي النسيج المجتمعيّ ويتدخّل في الاقتصاد والثقافة والسياسة والإيديولوجيا.
هنا يتاح لنا أن نقول: إذا كان فهمُ الطائفة والطائفيّة على النحو الذي تقدّم يندرج في نطاق المسار الماركسيّ الواقعيّ، فسيكون قد أُنتج من خارج المفهوم المتداول عن "الأزمة،" ويكون قد تخلّص من مفهوم "العقبة" أمام التطوّر، وتحديدًا، من عقبة نموذجٍ تطوّريٍّ معلوم كان الحزبُ قد أخذ به ولم يستطع أن يحقّقه على أرض الواقع على امتداد عقودٍ طويلة.
وعلى أساس الفهم نفسه، يتاح لنا أيضًا أن نسأل: إذا كانت الطوائف تخترق كلَّ مناحي النسيج المجتمعيّ، أفلا يمكنها أن تحْضر في بنية الحزب أو الأحزاب اليساريّة والوطنيّة الأخرى؟!
ــــ يدلّنا الملموسُ الحزبيُّ في لبنان أنّ الطوائف حضرتْ فعلًا في البنى الحزبيّة بكيفيّاتٍ لا حصر لها. فقد رأينا بالعين المجرّدة تنظيمًا ماركسيًّا ارتحلتْ أغلبيّةُ كوادره وأعضائه إلى "حِمى" الطوائف (منظّمة العمل الشيوعيّ)، وأنّ الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ أصيب بنزفٍ كبيرٍ أخذ وجهتَه العامّةَ نحو "مضارب" الطوائف ذات الألوان المختلفة؛ ناهيك بأنّ هناك أحزابًا وطنيّةً هاجرتْ بكليّتها إلى الموسم الطائفيّ في الشمال والجنوب والبقاع والجبل!
فماذا نسمّي هذه الظاهرة؟ أهي تجديدٌ فكريّ؟! إغناءٌ للماركسيّة من خلال جديد العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة؟! تفاعلٌ نظريّ ومعرفيّ "خلّاق" مع بيار بورديو، وأنتوني غيدنز، وسلافوي جيجك، وإريك هوبزباوم؟! أمْ أنّها، بحسب التحليل الماركسيّ الواقعيّ، ناتجة من فعل حضور الطوائف في بنية الحزب؟
ــــ وفي مثالٍ مختلف، يدلّنا الملموسُ الحزبيّ في السودان أنّ الحزب الشيوعيّ السودانيّ طرح على نفسه السؤالَ الفعليَّ المستمدَّ من الواقع، وهو: كيف نبني علاقتَنا بالدين؟ فقدّم جوابًا بكيفيّةٍ خاصّةٍ عبّرتْ عن نفسها بممارسةٍ قام به شيوعيّون سودانيّون من تأدية الصلاة انسجامًا مع تلك الممارسة التي أنتجها ماركسيًّا، إنّما من صميم التحليل الملموس للواقع السودانيّ.
إنّ مثالًا كهذا يقدِّم درسًا بليغًا على دلالاته المنهجيّة والنظريّة لجهة وعي العلاقة بالمحسوس المجتمعيّ في موضوعٍ محدّد، لا بهدف محاكاته أو إسقاطه على محسوسٍ مختلف. لكنّ دلالاته تفرض على الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ (وعلى غيره من التنظيمات الماركسيّة) أن يطرح السؤال عن علاقته بالدين. وليس على الحزب أن يجيب عنه بشكلٍ مماثلٍ لجواب الحزب الشيوعيّ السودانيّ؛ ذلك أنّ محسوسَي البلدين مختلفان على غير صعيد.
غير أنّه ليس من الماركسيّة في شيء أن يذهب شيوعيّون لبنانيّون إلى أنماطٍ مسلكيّةٍ علنيّة تستفزّ الحسَّ العامّ، وتكرِّس تهمتَه المسبَّقة ضدّهم بأنّهم "ملحدون،" ومن دون أن يدرك هؤلاء أنّ هذه الممارسات تشكّل أحدَ جوانب المعضلة في الحزب وتضعُهم خارج الواقع الفعليّ في مجتمعهم في آن.
سؤالٌ نافل
قد يُطرح السؤال في إثر ما عُرض آنفًا: هل الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ حزبٌ طائفيّ؟
الجواب التطوّري الذي يَحكم مفهومَ الأزمة يؤكّد البديهيَّ، وهو أنّ الحزب غيرُ طائفيّ ما دامت تركيبتُه تشتمل على كلّ الهويّات الطائفيّة المذهبيّة في لبنان، وما دام نموذجُه الذي يقتدي به يخلو من الطوائف والطائفيّة.
لكنّ السؤال نفسه يغدو نافلًا من المنظور الماركسيّ. ففي ضوء هذا المنظور، فإنّ الحزب موجودٌ واقعيٌّ لبنانيّ، أيْ جزءٌ من الواقع. وهو، ككلّ جزءٍ من كلّ، لا بدّ من أن يَحمل حقائقَ الكلّ وتأثيراتِها فيه. ولمّا كانت الطوائف تجد قنواتِها في النسيج المجتمعيّ كلّه، من العائلة إلى الحزب إلى النقابة إلى الجمعيّة إلى الطبقة وصولًا إلى الدولة، فسيكون من الواقعيّ أن تحضر الطائفيّةُ في بنية الحزب الشيوعيّ.
لكنّ حضورَها فيه يتبدّى بأشكالٍ خاصّة، يحكمها جدلُ العلاقة بين الحديث والتقليديّ. وهي تختلف عن أشكال حضورها في بنى الأحزاب الأخرى، سواء كانت يساريّة أو ليبراليّة أو قوميّة أو طائفيّة.[1]
خيار إيديولوجيّ
في هذا المقام لم نتناول المسألةَ الطائفيّة لكي نحصر أزمةَ الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ فيها، بل قاربناها كمثالٍ حيّ على وعي واقعها من داخل الحزب؛ أيْ قمنا بتفسيرها بهدف تجاوز حضورها البنيويّ. وما ينطبق على مثال الطائفيّة يشكّل مدخلًا منهجيًّا، في رأينا، لإعادة إنتاج وعي العلاقة بمنظومة الفكر الماركسيّ من داخل الواقع اللبنانيّ، أي لإعادة إنتاج ماركسيّة تقوم على ممارسة نظريّة وسياسيّة خاصّة وتنفتح على بناء عالمٍ فكريّ جديد.
وإذا لم يذهب الحزب إلى منهجيّةٍ كهذه، فسوف يبقى يدور في حلقةٍ مفرغة من التفسير الإسقاطيّ للواقع، من دون أن يصل إلى أيّ فعاليّةٍ حقيقيّةٍ في تغييره. وسوف يبقى يعيش في حالةٍ أعقد بكثير من "الأزمة" ما لم يأخذ بحقيقة الجدل الواقعيّ بين التفسير والتغيير، وما لم يجانبْ وعيَ الماركسيّة بصفتها خيارًا إيديولوجيًّا يجد في فكر الطبقة العاملة الفكرَ الأكثرَ اقترابًا من الواقع المحسوس بحكم معايشتها للظلم؛ وهو ما تخفيه النظريّاتُ الليبراليّة والرأسماليّة.
وأخيرًا، فإنّ خيار الماركسيّة، بالمعنى المجازيّ، زرعٌ كونيٌّ غضٌّ. لكنْ إذا لم تسقِه من مائكَ في نيسان، فستكون غلّتُه على بيدركَ هزيلةً في حزيران.
بعلبك
[1] في ظلّ الاصطفاف الحاصل في لبنان بين معسكريْ 8 و 14 آذار، كثيرًا ما يكون أعضاءُ الحزب الشيوعيّ أقربَ إلى توجّهات طوائفهم "الأصليّة.