عن دار العين في القاهرة صدر مؤخّرًا كتاب أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرّمة للكاتب محمد شعير. وشعير معروفٌ بتحرّيه الدقّة في ما ينشره، وبالتحقيقات الصحفيّة الممتعة الدسمة التي دأب على إنجازها منذ أن بدأ عملَه في جريدة أخبار الأدب، حين كانت الجريدة ذاتَ شأن، خصوصًا في التسعينيّات. كما أنّه قد كان من أوائل الصحفيين الشباب الذين تمكّنوا من التواصل مع المفكّر الراحل نصر حامد أبو زيد في منفاه الاختياريّ في هولندا.
لكنْ، ما الذي يُمكن أن يضيفَه كتابٌ جديد عن رواية محفوظ، أولاد حارتنا، التي مُنعتْ من الظهور في كتاب، بعد أن نُشرتْ مسلسلةً في جريدة الأهرام، بدءًا من سبتمبر 1959، لأنّها أغضبتْ مشايخَ الأزهر؛ قبل أن تُنشر في دار الآداب (بيروت)؛ لتعودَ إلى الظهور عن دار الشروق (مصر) في التسعينيّات، بتقديمٍ من أحمد كمال أبو المجد؟
قد يظنّ القارئُ للوهلة الأولى أنّ كتابةَ مثلِ هذا الكتاب وإهداءَه إلى أبو زيد وطه حسين أمرٌ سهل. لكنّ المسألة أعقدُ من ذلك بكثير.
فمن أجل سردِ ما حدث لـ أولاد حارتنا، كان لا بدّ لشعير من كتابة سياقها الثقافيّ والسياسيّ. وقد اختار شعير أن يكون الأرشيفُ الصحفيُّ هو دليلَه إلى فهم ذلك السياق كاملًا، بالإضافة إلى مقابلاتٍ صحفيّةٍ جرى توثيقُها جميعًا. وبدلًا من الاستعانة بالسيرة "الرسميّة" المعتمدة، عمد شعير إلى التقليب في حفريّات الأرشيف الصحفيّ، ثم أضاف إلى ذلك من مجهوده الشخصيّ الصحفيّ، فأجرى مقابلاتٍ مع الأطراف المعنيّة.
وبذلك، اتّبع شعير منهجَ "التاريخانيّة الجديدة" الذي خرج من رحِم "ما بعد البنيويّة،" وهو منهجٌ يعمد إلى إعادة ترميم الماضي عبر وسائلَ تختلف عن الوثائق الرسميّة.
الكاتب نجيب محفوظ
ما إنْ يدخل القارئ في متن الكتاب حتى ينسى أنّ الأمر محصورٌ في أولاد حارتنا، ويغوصَ في ذلك الزمن الذي يبدأ بملاحقة البوليس المصريّ (عام 1959) للشباب المعجَب بالأمريكيّ جيمس دين، فيتناول الخطاب الذي جرى توظيفُه لإدانتهم: ممارسة التمرّد، والاستهتار، والانحلال، والفساد،...الخ.
أترانا نقرأ هنا عمّا جرى سنة 1959، أمْ عمّا يجري سنة 2018؟
هذا هو السؤالُ المحوريّ، المسكوتُ عنه، الذي يَحكم الكتابَ كاملًا. فاهتماماتُ السلطة لم تتغيّر: إذ همُّها الأكبر كان، وما يزال، التجانسَ والتطابق؛ والاختلاف كان، وما يزال، أمرًا مخيفًا بالنسبة إليها تنبغي إدانتُه.
لم تتغيّرْ عقولُ رجال الدين: فهذا "كفر" وذاك "بدعة." ولم تتغيّر العلاقةُ بين السلطة والأزهر. ولم تتغيّر مانشيتاتُ الصحف: إذ يمكن رفعُ اسم عبد الناصر ووضعُ اسم السيسي مكانه، ويمكن الحديثُ عن إنجازاتٍ وانتصاراتٍ وبلاغةٍ إنشائيّة لا طائل من ورائها سوى التجييش ونشر الوعي الزائف. ويمكن رفعُ اسم عبد الحكيم عامر (الذي أرسل قوةً لاعتقال نجيب محفوظ، فغضب عبد الناصر، وأجهض العمليّة)، ووضعُ رجلٍ مخابراتٍ حاليّ محلّه.
والحال أنّ المسألة لا تخصّ عبدَ الناصر أو السادات أو مبارك أو السيسي، بل تخصّ عقليّةَ العسكر. ولا نحصر الأمرَ بالقمع والاعتقال والتعذيب فقط، بل نعني أيضًا النموذجَ الذي لا يفهم العقلُ العسكريُّ سواه منذ أن سيطر العسكرُ على مقدّرات الأمور في مصر. التجييش، الشعبويّة، الديماغوجيّة: تلك مفرداتٌ تَحْكم ذلك العقلَ، وتوجِّه سلوكَه نحو التعامل مع الشعب، الذي تعتبره "طفلًا" ينبغي ألّا يقرأ أولاد حارتنا "خوفًا عليه،" ولا قصيدةَ "هوامش على دفتر النكسة" لنزار قبّاني. إنّه الشعب الذي يتوجّب "توجيهُه نحو الدين الصحيح،" وإنزالُ العقاب به إذا تجرّأ على انتقاد السلطة أو على توقيع بيان.
إنّها العقليّة التي تغَضب سنة 1958 من مجموعة البنات والصيف لإحسان عبد القدّوس، وتطارد معجَبي جيمس دين "المنحلّين" سنة 1959، وتمنع أولاد حارتنا خضوعًا لمشيئة المشايخ في ذلك العام، وتطلب من نصر حامد أبو زيد مغادرةَ البلاد في هدوء منتصف التسعينيّات، وتسلّم الإخوانَ المسلمين السلطةَ في العام 2012 ثم تعودُ لتستولي عليها منهم سنة 2013، وتُعلن سنة 2017 أنها ستقيم "أكشاكَ فتوى" في محطّات المترو، وتُصدر قانونًا يُجرِّم رقصةَ كيكي سنة 2018، ولا تتحمّل اليوم رواية جمهورية كأنّ لعلاء الأسواني،...
هذا غيضٌ من فيض، يؤكّد ثباتَ البنية الذهنيّة العسكريّة التي لم تغيِّر هدفَها مطلقًا: "تربية المواطن،" طبقًا لعنوان أحد فصول كتاب محمّد شعير.
***
في كلّ تفصيل من هذا الكتاب يتّضح هوسُ العسكر بالسيطرة الكاملة على مفاتيح السلطة، وعدمُ توانيهم في إثارة المشاكل بهدف تحقيق أغراضٍ أخرى. واليوم، تزداد السلطةُ توحّشًا، فتقتل الأبرياءَ مثلًا كي تُلصق التهمةَ بجماعاتٍ كانت (أي السلطة) تريد تصفيتَها أصلًا!
بدأتْ مشكلةُ رواية محفوظ من الصحافة (شأن مشكلة نصر أبو زيد لاحقًا). فقد أرسل "أحدُ القرّاء" إلى مجلّة المصوّر، وتحديدًا إلى الشاعر صالح جودت الذي كان يُحرِّر باب "أدب وفنّ،" خطابًا يهاجم فيه الرواية. وقد بحث محمد شعير عن ذلك "القارئ" المفترَض (اسمُه محمد أمين)، فتبيّن له أنّ المسألة برمّتها... وهميّةٌ وزائفة!
يدرك العسكرُ ضرورةَ "شرعنة التوحّش،" وليس أفضل من الدين ورجال الدين لفعل ذلك. العسكر ليسوا إلّا فتوّات أولاد حارتنا الذين يسيطرون على الحارة. وهذا ما أدركه محفوظ مبكّرًا، وفهم سببَ الضجّة التي أحاطت بالرواية، وأدرك أنّ المنع الذي تحوّل إلى أرخص مشهدِ مزايدةٍ بين الأجهزة المختلفة سببُه وصولُ تلك "الرسالة" الوهميّة الزائفة. وليس هناك أبلغ من نموذج كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة، الذي لعب دورًا في التحريض على محفوظ من خلف الكواليس، وكان يشغل أحد عشر منصبًا رسميًّا (ص 85 من كتاب شعير)!
***
تفصيلٌ آخر في كتاب شعير يفضح عقليّة السلطة العسكريّة: جائزة نوبل. فما إنْ علمت السلطة بظهور اسم نجيب محفوظ على قوائم المرشّحين إلى هذه الجائزة حتى تصوّرتْ (بغبائها المعهود الذي ظهر في الترشّح إلى كافّة المناصب العالميّة كاليونسكو والأوليمبياد) أنّها تملك زمامَ الأمور، وكأنّ المسألة تتعلّق بقرب المرشّح من السلطة أو بعدِه عنها.
هكذا طلب أنور السادات من عطيّة عامر (عبر السفارة المصريّة في السويد) أن يرفع اسمَ محفوظ ويضعَ اسمَ توفيق الحكيم مكانه، لأنه، أي الحكيم، "صاحبي وهو مع النظام" (ص 161). ثم جاء حسني مبارك وطلب رفعَ اسم محفوظ، ووضعَ اسم عبد الرحمن الشرقاوي!
***
إنّها عقليّة الفتوّات التي قصد محفوظ توجيهَ النقد إليها في أولاد حارتنا عبر الاستعارات الدينيّة. ولقد كانوا فتوّاتٍ في الماضي، وازدادت فتوّتُهم توحّشًا وضحالةً وسذاجةً في الحاضر. وهم يعرفون أنّ التجييش الإعلاميّ والدينيّ هو سبيلُهم الوحيد إلى بقائهم في السلطة.
وتكرِّر شعبويّةُ 1959 نفسَها اليوم، لكنْ في طبعةٍ سيّئةٍ مترهلة. فالعسكر لا يمكنهم الاستمرارُ من دون بضعة أبواق دينيّة مهترئة لا تُجيز منعَ روايةٍ فحسب، بل زواجَ فتاة في التاسعة أيضًا!
***
هم الفتوّاتُ ونحن الفقراء. لكنّ آفة حارتنا هي النسيان. فهل قصد شعير في عنوان كتابه القولَ إنّ الحديث عن الزمن الذي كُتبتْ فيه الرواية هو الذي يُعدّ روايةً محرَّمةً؟
القاهرة