كَرّر الدكتور أحمد كُلّ وصاياه دفعةً واحدة للعّم أبو غالب، وهو يودّعه أمام بوّابة المستشفى: أنّ عليه الاهتمامَ بصحّته، وألّا ينسى مواعيدَ الدواء الجديد، وإلّا فسيموتُ "حتمًا حتمًا." واكتشف الطبيبُ وجودي، فقال لي وهو يرفع شاهدَه في وجهي كَمَن يُهَدّدني:
ـ خلَص يعني؟ هايْ آخر مرّة؟!
وختم حديثَه بجملةٍ حَفظناها كُلّنا عن ظهر غيْب:
ـ يا عمّ أبو غالب، الكنافة ممنوعة ممنوعة ممنوعة. شو قُلنا؟
ردّد العمّ أبو غالب وهو يدُّق على صدره:
- ممنونك ممنونك ممنونك دكتور.
وَدّعنا الدكتور أحمد، وشكرناه، ومضينا معًا تبلعنا شوارعُ المدينة.
***
في الطريق هَمَس أبو غالب في أُذني، وكفُّه القويّةُ تضغط على زندي:
ـ إسمعْ يا ولد. أنا كلّ مرّة بَغَلْبك معي، بَعرف. والله شفقان عليك. بس هاذي المرّة حاسِسْها آخر مرّة.
وبعد نصف دقيقة قال:
ـ وقرّرت ونويت أكتبلكْ دونم الأرض اللي في الحارة الشرقيّة باسمك لحالك، حلال زلال عليك، خلص؟ بس شو رأيك نميِّلْ هسَّه نُظْرب كيلو كنافة عند جعفر، بعدين نروَّح ع البلد؟
وقبل أن أقول كلمةً واحدة، قال:
ـ هشهششش، اعتبرْني مسجون عندك يا أخي، اعتبرْني محكوم بالإعدام، وهذا آخر طلب. آه... شو قلت؟
ملاحظة مُفيدة: كل قرّيتنا تعرف أنّ أبا غالب "كحْيان" ولا يملك أرضًا ولا حتى كوخًا بائسًا.
تجّمدتُ في مكاني. فكّرتُ لحظةً وقلتُ له في يأس:
ـ طيّب ماشي، واذا صار معك مِثل كُلّ مرّة؟
ـ كيف يعني؟
ـ عَذّبتني شهرين وما مُتت؟
قال:
ـ بَوعدك هذه المرّة تكون القاظية. خَلصْ.
وحتى يُقنعني أكثر قال:
ـ انت ما سمعت الدكتور لمّا قال "حتمًا حتمًا ستموت؟"
ـ سمعتُه.
ـ طيّب هه. إنتَ يعني، بلا مؤاخذة، بتفهم أكثر من الدكتور؟
قُلت:
ـ بس مش أوّل مرّة بحكيلك الدكتور رح تموت، بس ما بتموت.
قال:
ـ مزبوط خُرّافك. بس هاذي أول مرّة يقول "حَتمًا حَتمًا!" ما سمعته؟
دخلْنا مَحلّ الحلويات. طلب العمّ أبو غالب نصف كيلو كنافة، و"لهطه" دفعةً واحدة. شرب نصفَ دلو ماء. تَكرّع. وَقف واعتدل. نفض جسمَه. دَسّ قميصَه تحت بنطاله ومَد "الكرفتة" الطويلة الزرقاء التي لا يملك غيرها. أشعل سيجارةً ونفخ دخانَه في وجهي، فبدا شابًّا قويًّا وطويلًا، عيناه العسليّتان تفيضان بالحياة والفرح.
قال : طيّب، إدفعْ للزلمة.
أمسكتُ طرف "الكرفته" على الطاولة وقلت:
ـ أنا اللي أحاسب؟
استنفر العمّ أبو غالب. صرخ في وجهي وهو يسحب الكرفتة:
ـ مِستكثر على عَمّك المريض نص كيلو كنافة؟
وتابع:
- على فكرة، إنسَ موضوع الأرض. غيّرت رأيي.
انتبه شخصٌ ضخمٌ كان يجلس بالقرب منّا. رَمقني بنظرة مُعادية جافّة وقال لي في قرف:
ـ جيل آخر زمن، عَمّك يا زلمة. وَل عليك!
ملاحظة ثانية: أبو غالب جارُنا منذ بدء الخليقة، لكنْ لا تربطني به صلةُ قرابةٍ لا من قريب ولا من بعيد.
قال أبو غالب للرجل الغريب الضخم:
ـ يدوب أنا طالع من المستشفى قبل نصّ ساعة، بتصدِّق؟
سمعتُه يتمتم وهو يخرج من المكان ويقول:
ـ جايبني أموت عَ حسابي!
***
غادرنا محلّ الكنافة من دون أضرارٍ في الأرواح والممتلكات. وقرّر أبو غالب أن نمشي إلى القرية على أقدامنا حتى "يُهضِّم" الكنافة على مهله لأنّ المشي "مليح للصّحة والأعصاب" كما قال له الدكتور.
في الطريق حدّثني عن بطولاته ضدّ الأتراك والإنجليز، وعن مغامراته في مواجهة الحيوانات المفترسة والعجيبة في جبال فلسطين وغاباتها.
وحين وصلنا إلى مشارف القرية، وكدْتُ أصاب بجلطةٍ دماغيّةٍ وضربةِ شمس، انتزع أبو غالب كيسَ الدواء من يدي وطلب مني عشرة شيكلات. ناولتُه ورقةً نقديّةً ودَسّها في جيبه.
وطلب منّي أن أقسمَ بالله العظيم ثلاث مرّات ألّا أروي ما جرى معنا لخالتي الحجّة زريفة. قال:
- عشانك إنتَ. أنا مودّع هالدنيا مش فارقة معي. راسمالها بهدلة كالعادة. بس إنتَ حتمًا حتمًا رح تقتلك هالمرّة.
وقال في شفقة:
- وبصراحة، رح يكون معها حقّ لأنّه مش معقول إنت. كم مرّة الواحد بده يضحك عليك؟
مُلاحظة أخيرة: وقعتْ هذه القصة قبل 30 عامًا. زاد سكّانُ القرية ولم يتبقَّ شبرٌ واحدٌ فيها للزراعة أو البناء. وأمس، احتفل العّم أبو غالب بعامه الـ 95 بعد أنْ سبّب جلطةً قلبيّةً للعديد من الجيران، بمن فيهم الدكتور أحمد نفسُه. ولا يزال يُحبّ الكنافة ويخاف من غضب خالتي زريفة. قيل لي إنّه صار ينسى كثيرًا، ويَعِدُ اثنين من أحفادها الصغار بأنه سيكتب لهما دونم الأرض في الحارة الشرقيّة.
كندا