إذ تَجْهد بيروتُ في لملمةِ جراحها، تصاعدتْ فجأةً سحبُ الدخان العملاقة في سمائها، وكأنّها تُنذر بأنّ اللعنة التي أصابتْنا لم تتوارَ بعدُ في مقرّها الأخير.

ففي صباح العاشر من أيلول (سبتمبر)، اندلع حريقٌ ضخمٌ في المرفأ الذي سبق أن دُمِّر في 4 آب (أغسطس)، متزامنًا مع مرور أربعين يومًا على الكارثة.

وهكذا عاد الكابوسُ ليَحطّ رحالَه في نفوسنا قبل أن يكون قد غادرنا أساسًا. ومعه، سادَ الرعبُ، المصحوبُ بنداءات الاستغاثة، تحسُّبًا من تجدّد الكارثة. وأكثرُ ما يُثير الريبةَ أو النقمةَ هو أنّ ما حصل في 10 أيلول قد حصل في ظلّ حالة "طوارئ" معلنة!

في لبنان نعيش دوّامةَ أزماتٍ متلاحقةٍ ومتداخلة. وفي واقع الأزمات، "يتابع الناسُ، بشكلٍ متزايد، تحديثاتِ الأخبار من وسائل التواصل الاجتماعيّ، إلى جانب قنوات الإعلام التقليديّة،"[1]علّهم يدركون ما يحيطُ بهم، أو يتوقّعون ما ينتظرُهم.

الإغراق بالمعلومات

في 5 آب (أغسطس)، وضمن نشرة أخبار الثامنة إلّا عشرَ دقائق على قناة الجديد، تَوَجّه المذيعُ إلى زميله رياض قبيْسي قائلًا: "إنتَ من أكتر الناس اللي ارتبط اسمُهم بخبايا، بمغارات، بفساد، بمصايب تحصل في المرافئ، في الجمارك. مبارح شفنا الكارثة يللي صارت. شو عم تحضّر رياض لليلة؟" فجاء الردّ:

"طيّب خلّينا بالأوّل نقول إنّو هيدا الفيلم الهنديّ اللي خبّرْنا يّاه قبل شويّ [عضوُ كتلة الوفاء للمقاومة النائب] أمين شرّي أنا بسمعه من [الوزير السابق والنائب عن كتلة التنمية والتحرير] علي حسن خليل من 4-5 سنين. وقتها، بتذكّر سمّيتْها ’وصلة ستاندْ آب كوميدي،‘ [وهي الزعم أنّه قد] سقطت المحميّات ولن يكون هنالك خطوط حمراء بعد الآن (...). وشفنا انّو ما في شي صار منّو هيدا، وبقيت المحميّات السياسيّة. وهيدا اللي صار بالمرفأ، إذا بدْنا نحدِّد مسؤوليّات، أوّل واحد هيدا النائب ما بيطْلع بيحكي، لأنّ الجهة السياسيّة التي تمثّل [يمثّلها] متورّطة بتغطية كشّافين على مرفأ بيروت (...) ما يبلّشوا يتواقحوا بهالطريقة ويحكوا، وكلّ واحد يقول أنا ما خصّني..."

نحن أمام إجابةٍ لا تُسْمن ولا تُغْني من معرفة. ومع كلّ حدثٍ مستجدّ، تتقاذفنا آراءٌ وترجيحاتٌ، تنقلها غيرُ وسيلةٍ إعلاميّة، عبر عشرات الساعات من البثّ الحيّ المتواصل، والمتلازمِ مع استضافة عشراتِ الضيوف الذين يقدّمون إلينا آراءً من دون وقائعَ يستندون إليها، فيغدون كالمنجِّمين الذين يُلْقون بنا في "سيلٍ جارفٍ من المعلومات الدقيقة وغير الدقيقة." وهذا ما يصعِّب على الناس إيجادَ "مصادر وإرشاداتٍ موثوقةٍ عند حاجتهم إليها."[2]

في هذا الإطار نفسه، بُثّ على قناة الجزيرة تقريرٌ تحت عنوان "مرفأ بيروت: انفجارٌ وحريقٌ وأسئلةٌ بلا جواب." وجاء فيه:

"إنّ تَلاحُقَ الصدمات هنا كفيلٌ بأن يُفْشي حالةً من الرعب بين اللبنانيّين، وكفيلٌ بأن يحفِّز كذلك في نفوسهم الأسئلةَ التي ينبغي أن تُطرح: ما الذي ألهبَ مستودعًا للإطارات والزيوت في المنطقة الحرّة في مرفأ بيروت [في 10 أيلول]؟ هل ثمّة أسبابٌ منطقيّة؟ هل حدث إهمالٌ بشريّ؟ أمْ تراه بفعلِ فاعل؟ ومع أنّ التحقيقات المحلّيّةَ لن تَعْدمَ متشكِّكين في مآلاتها، فالأمرُ متروكٌ لتحقيق أمر المدّعي العامّ التمييزيّ بفتحه على الفور. القراءات والتكهّنات لا تنتظر. فمثلًا تَلْفت نظرَ المتابعين دلالةُ المكان، ليس فقط لأنّه شريانُ اقتصاد لبنان المتبقّي، وإنّما [أيضًا] لكون الحريق اندلع في منطقةٍ من المرفأ قريبةٍ من موقع انفجار الشهر الماضي [في 4 آب]. يُفترض أنّ الأجهزةَ المحلّيّة والدوليّة فرغتْ من عمليّات المسح هناك.... بعيدًا عن الأداء الأمنيّ، وفي محاولةٍ لتحديد المسؤوليّات، ثمّة مَن قد يسارعُ إلى لوم الشركات المستورِدة للموادّ المشتعلة. لكنْ من اللبنانيين مَن يتخطّى الجانبيْن الأمنيَّ والتقنيّ، ويضع الواقعةَ في سياقها السياسيّ..."[3]

تقرير "الجزيرة" غلّب أن يكون الحريقُ سياسيًّا، من دون أن يَبْسط أدلّةً دامغةً

هذا التقرير، كما نلاحظ، عرض أكثرَ من احتمال لفرضيّة حريق المرفأ في 10 أيلول. غير أنّه، في الوقت ذاته، قدّم احتمالاتٍ على أخرى، مغلّبًا لدى المتلقّي فرضيّةَ أن يكون منشأُ الحريق سياسيًّا، لكنْ من دون أن يَبْسط أدلّةً دامغةً أو واضحة.

في سياقٍ متّصل، تابعنا مقابلةً على قناة سكاي نيوز العربيّة، اتَّهم فيها النائبُ والوزيرُ الجنبلاطيُّ السابق وائل أبو فاعور لجنةَ التحقيق في انفجار مرفأ بيروت بالتلاعب في التحقيقات:[4] "إنّ اللجنة تحاول إخفاءَ ملفّاتٍ تكشف حقيقةَ ما جرى في قضيّة المرفأ." وهذا يقود أبا فاعور إلى استنتاجٍ وحيد: لا ثقة بالقضاء المحلّيّ، ولا بوزارة العدل ووزيرة العدل. لكنّه لم يقدّمْ، هو الآخر، دليلًا واحدًا على استنتاجه هذا.

نحن، إذًا، أمام افتقار البيانات الإعلاميّة المتداولة إلى "معايير الإثبات الآمنة،" فنصبح أمام أخبارٍ "مرتجلة." وحين لا تكون المعلوماتُ الرسميّةُ متاحةً أو موثوقًا بها، فإنّ الناس يركنون إلى "التكهّنات غير الرسميّة."[5] وهذه حالٌ تُعرف بـ"الوباء المعلوماتيّ،"[6] شأن أيّ وباءٍ يصيب العديدَ من الأشخاص في الوقت نفسه وينتقل من شخصٍ إلى آخر في منطقةٍ لا ينتشر فيها المرضُ بشكلٍ دائم.[7]

كما أنّ تدفّق المعلومات الواردة يشتِّت انتباهَنا، لأنّه يضعنا أمامّ مهامَّ متعدّدةٍ بدلًا من "التركيز المستمرّ على قضيّةٍ أو حادثةٍ بعينها..."[8]علمًا أنّ الأساليبَ السريعة للحصول على المعلومات لا تؤدّي بالضرورة إلى استخدامٍ أفضلَ للمعلومات المكتسَبة. يحدث ذلك في عصر المؤثِّرات الإعلاميّة المزدحمة. ومعها، لا يمْكننا اعتبارُ الوسيلة الإعلاميّة مجرّدَ تكنولوجيا مستخدمة لنقل المحتوى وربطِ المشاركين، وإنّما هي عبارةٌ أيضًا عن "مجموعة من العلاقات الاجتماعيّة التي تتفاعل مع التكنولوجيا الجديدة"[9]فتترك انعكاساتِها على تفكيرهم وتصرّفاتهم. لذا لا غروَ، في هذا الإطار، أن نجد الإعلاميين، والمؤثّرين في الساحة الإعلاميّة، يعمدون إلى كتابة انطباعاتهم وتحليلاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ الخاصة بهم، فيتركون بذلك أثرًا مضاعفًا على متابعيهم المباشرين، من دون أن يَحمل هذا الأثرُ المضاعفُ المزيدَ من الحقيقة بالضرورة.

مثلًا، الإعلاميّ مصطفى رعد أصدر حكمَه على أسباب حريق 10 أيلول، واصفًا إياه بأنّه "مفتعلٌ" لـ"إخفاء أدلّة." اللافت هو سرعةُ بعض الإعلاميين في إصدار الأحكام على ما حصل من دون أن تكون لديهم إثباتات، فتترسّخ تكهّناتُهم في الجماهير المتابعة وكأنّها مسلَّمات.

وثمّة منشور في هذا الإطار لرياض قبيسي جاء فيه: "عم دقّ لحدا بيعرف على البور، سالتو شو وضع الحريق على البور؟! قلّي دخيلك أنا مخبّا بالحمّام. المهمّ غالبًا هاي قصة تأمين، الجمارك كان عم يطلبوا من أصحاب البضاعة بالمنطقة الحرّة يمضولهم إنّو الجمرك ما بيتحمّل مسؤوليّة أيّ شي صار على البضاعة بالانفجار. فيبدو في مين قرّر يحرقهم."[10] لكنّه في بوست آخر يقول: "مش صحيح إنّو الحريق للتخلّص من بيانات جمركيّة. أوّلًا الفيديو المعروض هو لمستوعب على أنقاض العنبر ١٩ (عنبر الاستيراد) وهو بعيد نسبيًّا عن المنطقة الحرّة مكان الحريق. ثانيًا هاي يُفترض تكون نسخات مطبوعة لبيانات جمركية لها نسختها الإلكترونية على السيستم." [11]

ثمّ إنّ أكثرَ من تغريدةٍ لسياسيين وفنّانين أطلقت الأحكامَ بعيْد اندلاع الحريق من دون أدلّة، شأن تغريدة النائب والوزير السابق وليد جنبلاط، والفنّان سعد رمضان، أدناه. وثمّة تغريدات تثبط الهممَ وتدفع إلى الإحباط الكبير، مثل تغريدة النائب شامل روكز أدناه أيضًا. وربما لم يتنبّه مطْلقو هذه التغريدات إلى الانعكاسات السلبيّة على جمهور المتلقّين.

لقد بتنا نعيش في "مجتمعٍ جماهيريّ متذرِّر، حلّ فيه الإحساسُ والعاطفةُ مكانَ العقل."[12]وهو ما أسفر عن­­"حالة تشظٍّ وتفكّكٍ للمجال العموميّ الميدياتيكيّ." وأدّى ذلك، بدوره، إلى ظهور "نسخةٍ جديدةٍ لوظائف الإعلام، وتشكيلةٍ جديدةٍ لقادة الرأي وقوى الضغط في المجتمع، وتيّارٍ من المفاهيم الجديدة لنظريّات التحرّر والمسؤوليّة الاجتماعيّة..."[13]

نحن أمام حالة "صراع من أجل تقرير الواقع: صراعٍ يدور في حلبة من الاستفهامات المستعصية من قبيل مَن يكسب شرعيّةَ بناء الواقع." صحيح أنّه لم يكن العثورُ على معلوماتٍ أسهلَ ممّا هو عليه اليوم، ولكنّنا في الوقت ذاته غدوْنا أمام "خطر التعرّض للمعلومات المضلِّلة والتلاعبِ فيها أكثر من أيّ وقتٍ مضى..."[14]وهكذا فإنّ زيادة فرص نشر المعلومات "لا تجعل بالضرورة هذه المعلوماتِ أكثرَ فعّاليّةً، وإنّما تجعل الجمهورَ أكثر تشتّتًا."[15]

***

في ظلّ هذا الواقع، تُطرح أسئلةٌ من قبيل: أيُّ وعي سيتحقّق في ظل هذا التشظّي الإعلاميّ، وفي هذا العالم المتسارع بتقنياته التكنولوجيّة؟

واقعٌ ينقلنا إلى تشبيه تشومسكي الإعلامَ بـ"الآلة السحريّة التي يمْكنها توجيهُ الرأي العامّ، وتحويلُه إلى النقيض، وتعبئتُه، وتصويرُ ما ليس له وجودٌ على أنّه واقعٌ ليس منه مفرّ."[16]والنتيجة أنّ الإعلام، في قسمٍ كبيرٍ منه، قد أضحى "معطِّلًا لقوى الفكر، ومعوِّقًا لتطوّر الشخصيّة واستقلالها،" وأضحى الناسُ "عاجزين عن تكوين آرائهم وبلورةِ أفكارهم."[17]

بيروت