في 27/11/2020 كتب الأستاذ نضال العزّة مقالًا بعنوان "تدمير ثقافة المقاومة وبيئتِها عبْر مسار مدريد-أوسلو،"[1] فردّ عليه الأستاذ منير شفيق في 3/12/2020 بمقالٍ بعنوان "عن ثقافة المقاومة ومسار مدريد-أوسلو: في نقاش نضال العزّة،"[2] ليعود العزّة في 9/12/2020 ليردَّ على شفيق بمقالٍ حمل عنوان "نصفُ الكأس الملآن يجب ألّا يحجبَ عنّا الثقوبَ والشروخ: في نقاش منير شفيق." [3] وهنا الآن "ردٌّ للإيضاح" من الأستاذ شفيق.
***
إنّ منشأ الخلاف [بيننا] هو اعتبارُ "ثقافة المقاومة" تتضمّن "الثوابت." وهذا يعني إعطاءَ الأولى أولويّةً على الثانية، وإتباعَ هذه لها، لا فرقَ إنِ اعتبر الكاتبُ الجانبيْن على قدم المساواة.
أوّلًا: الثوابت هي المبادئُ والأهدافُ والحقوق. وبكلمة، فإنّ كلَّ الصراع الدائر في القضيّة الفلسطينيّة، أساسُه الصراعُ حول: (1) فلسطين لمن؟ للشعب الفلسطينيّ أمْ للمستوطنين الصهاينة؟ (2) هل كلّ فلسطين لنا ويجب تحريرُها من النهر إلى البحر، أمْ يمكن تقسيمُها بيننا وبين عدوّنا (أو ما يُعرف بـ"حلّ" الدولتيْن)؟ (3) هل الغزوُ اليهوديّ الصهيونيّ (الاقتلاعيّ/الإحلاليّ) منذ العام 1917 غزوٌ غيرُ شرعيّ، بحيث لا يكون الحلُّ إلّا برحيله من فلسطين؟
ومن هنا، فإنّ التركيزَ على "الثوابت" وإعطاءَها الأولويّة يشكّلان الفارقَ بين كلّ المواقف.
ثانيًا: أمّا المقاومة فهي الأسلوب: هي الاستراتيجيّةُ والتكتيك. ومن ثمّ تَخضع طرقُ ممارستها لموازين القوى والظروف، مع التأكيد على استراتيجيّة المقاومة المسلّحة فلسطينيًّا، وعلى استراتيجيّة الحرب عربيًّا وإسلاميًّا. وهذا ما فعلتْه منطلقاتُ حركة فتح، والجبهة الشعبيّة، والميثاقان سنة 1964 وسنة 1968؛ كما يؤكّده تراثُ المقاومة الفلسطينيّة.
لذا، فإنّ تركَ "ثقافة المقاومة،" بلا تحديدٍ للمقاومة الرئيسة المقصودة، يتطلّب التنبيهَ من تسلّل اعتبار "المفاوضة" (التي هي على نمط "اليسار السوفياتيّ" ومفاوضي اتفاق أوسلو) شكلًا من أشكال المقاومة. ويتطلّب التنبيهَ كذلك من تسلّل نظريّات "المقاومة اللاعنفية،" أو "المقاومة بالشموع،" أو "المقاومة التي لا تصطدم بقوّات الاحتلال،" ومن "نظريّة" محمود عباس في "المقاومة."
ثالثًا: أ - عن تقويم الحالة الجماهيريّة في الضفّة والقدس وعمومًا. هنا يجب تركُ الخلاف للمستقبل، أو للتجربة القادمة، حيث يُحسم أيُّ التقويميْن أصحُّ أو أقربُ إلى الواقع القائم.
ب - عن تقويم قاعدة المقاومة في قطاع غزّة. هنا ثمّة منهجان في التعاطي مع نصف الكأس الملآن. فمنهجُ الأستاذ نضال العزّة في التعاطي مع النصف الملآن من الكأس يقول إنّ على هذا النصف "ألاّ يَحجبَ عنا رؤيةَ الثقوب والشروخ، ليس من باب النيلِ من العمل المقاوم، بل من باب وجوب تطوير المقاومة." أمّا كيف يطبِّق ذلك على قطاع غزّة، فيقول إنّ"تطويرَ قدراتِ الفصائل ومراكمة القوّة" هناك "عملٌ مقاومٌ مميّزٌ نعتزُّ به."
أمّا المنهج الآخر فيَعتبر أنّ في قطاع غزّة قاعدةَ مقاومةٍ جبّارة، لم يسبقْ لمقاومةٍ مسلّحةٍ أن بلغتْها في فلسطين. فقد بلغتْ هذه المقاومةُ حدَّ خوض ثلاثِ حروبٍ كبرى لم يستطع العدوُّ أن ينتصرَ فيها، بل هُزم، وهو الذي كان يكتسح غزّةَ بسرعةِ الدبّابة ويحكمُها بثلاثة "جيبات." ولا يشير إلى أنّ هذه المقاومة قصفتْ تل أبيب، وتهدِّد بما هو أكثر، وأنّها حفرتْ مئاتِ الكيلومترات من الأنفاق، وأرست قواعدَ اشتباكٍ قد تُماثِل قواعدَ الاشتباك التي أرستها مقاومةُ حزب الله في لبنان. ناهيكم بالطائرات الورقيّة، والبالونات من حاملات اللهب. وهذا كلُّه، برأي الأستاذ نضال، "عملٌ مقاومٌ مميّزٌ نعتزّ به." طبعًا، ولا حاجة إلى ذكر حركتيْ حماس والجهاد ودورِهما المميّز!
أمّا "رؤية الثقوب والشروخ" فمَثَلُها أن يذكّر الكاتبُ بـ"خروج ثلّةٍ من كوادر فتح عام 1978 على الراحل عرفات لأنّه وافق على وقف إطلاق النار مع العدوّ، بينما يصبح عملًا مشروعًا التوقيعُ على بندٍ في اتفاقيّات غزّة يُلْزِم الأطرافَ بالامتناع عن أيّ أعمالٍ عدائيّة." هنا يرى العزّة ثقبًا وشرخًا في عمل المقاومة "ليس من باب النيل من العمل المقاوم بل من وجوب تطوير المقاومة." لكنْ ثمّة أسئلةٌ حول البند المذكور، ومن دون التدقيق في مصدره أو في البنود الأخرى:
(1) فهل توقّفت "الأعمالُ العدائيّة"؟ طبعًا كلّا.
(2) وهل توقّف حفرُ الأنفاق والتسلّحُ وتطويرُ التسلّح لحظةً -- وهو ما يُعتبر في علم الحرب أشدَّ الأعمال العدائيّة، ويُعتبر في حدّ ذاته، ومن دون إطلاق نار، درجةً عليا من أشكال المقاومة؟ طبعًا كلًّا.
المهمّ أنّ المنهج الآخر يرى في الإيجابيّات ما يستحق الإبرازَ والدفعَ به إلى الأمام، ولا يُركّز على النواقص والسلبيّات التي هي المحضن الذي تنشأ فيه المقاومة. وهنا يمكن أن يُستحضرَ، للدعابة، بيتٌ من الشعر لأبي نواس يقول فيه: "تَعجَبينَ مِن سَقَمي/ صِحَّتي هِيَ العَجَبُ!"
وبالمناسبة، لم يتّضح المقصودُ بحديث الأستاذ نضال عن "ثلّةٍ من كوادر فتح" خرجتْ على الشهيد عرفات بسبب اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1978. شخصيًّا، عارضتُ اتفاقَ وقف إطلاق النار في حينه لأنّ أمريكا كانت من بين رعاته، وعارضتُ - في الوقت نفسه - الخروجَ على عرفات بسببه.
***
وأخيرًا، لا يُراد من هذا الردّ أن يُفهمَ موقفًا سلبيًّا من "المسار الفلسطينيّ البديل." فهذا المسار يجب اعتبارُه إضافةً ضروريّةً، ومهمّةً، إلى الساحة الفلسطينيّة، التي هي في أمسّ الحاجة إلى دماءٍ جديدة. فها هنا يُرى النصفُ المليءُ من الكأس لدعمه وتشجيعه!
تحيّاتي إلى الأخ نضال، وإلى أهلنا في مخيّم عايدة في فلسطين المحتلّة.
بيروت