عن ثقافة المقاومة ومسار مدريد- أوسلو: في نقاش نضال العزّة
03-12-2020

 

ثمة ملحوظة نقديّة أولى على مقالة الأستاذ نضال العزّة، "تدميرُ ثقافة المقاومة وبيئتِها عبر مسار مدريد- أوسلو" (الآداب، 27/11/2020)، وهي اعتبارُه هذا المسارَ السببَ المرجعيَّ لتدمير "ثقافة المقاومة وبيئتها." وهنا تَرد نقطتان:

الأولى، أنّ البدء بمسار مدريد-أوسلو يتجاهل المسارَ الذي سبقه وأدّى إليه. فمسارُ مدريد-أوسلو لم يهبطْ بمظلّةٍ من علٍ ليشقّ طريقًا جديدًا، وإنّما هو تتويجٌ لمسارٍ تقدَّمَه. وهذا المسار بدأ بـ"برنامج النقاط العشر،" ومرّ بسلسلة قراراتٍ للمجالس الوطنيّة، استُهِلّت بتكريس هذا البرنامج، وانتقل إلى اعتبار منظّمة التحرير "ممثّلًا شرعيًّا ووحيدًا" (ليس للشعب الفلسطينيّ فحسب، وإنّما أيضًا - وهو الأسوأ - للقضيّة الفلسطينيّة)، ومنه إلى قرار المجلس الوطنيّ في الجزائر لعام 1988 الذي أعلن "الدولةَ الفلسطينيّةَ" واعترف بالقرار 242.

وبالمناسبة، فإنّ أوسلو نفسَه قفز على مدريد؛ فلم يكن أوسلو تابعًا لمدريد بل كان ضدَّه، وقد جاء بعدَه، وأنهاه. هذا من دون أن ننفيَ أنّ مدريد كان، بالطبع، من محطّات التسوية الكارثيّة.

الثانية، أنّ الأساس ليس تدميرَ "ثقافة المقاومة" بل تدمير الثوابت الفلسطينيّة التي كرّسها ميثاقُ 1964 وميثاقُ 1968 لمنظّمة التحرير؛ والأدقّ القول: تدمير المبادئ الأولى والمنطلقات الأولى لفصائل المقاومة كافّة. وهذه المبادئ والمنطلقات تتعلّق بلاشرعيّة الوجود الصهيونيّ في فلسطين، ووجوبِ تصفية الكيان الصهيونيّ، وتأكيدِ مبدأ تحرير كلّ فلسطين من النهر إلى البحر.

إنّ انتهاكَ "ثقافة المقاومة" وتدميرَها قد تأسّسا على انتهاك المبادئ الأساسيّة الأولى للقضيّة الفلسطينيّة. أمّا موضوعا المقاومة وثقافتِها فلم تقتربْ منهما القيادةُ الفلسطينيّة، رسميًّا، إلّا في اتفاق أوسلو والرسائلِ الملحَقة. ولكنْ تمْكن الإشارةُ هنا إلى أنّ المساسَ بالمقاومة، وهو المساسُ الذي مهّد لتدمير ثقافتها، بدأ بمقولة "استخدام كلّ أشكال النضال، بما فيها المقاومةُ المسلّحة،" ثم انتقل إلى مقولة "استخدام كلّ أشكال النضال أو المقاومة المشروعة،" فمقولة "مقاومة الإرهاب ورفض العنف،" وانتهى إلى اعتبار المفاوضات "شكلًا من أشكال المقاومة والنضال"! ولكنّ هذا كلّه، على ما نؤكّد، حدث في ظلّ مسار برنامج النقاط العشر-الدولة الفلسطينيّة في حدود ما قبل 1967، أيْ في ظلّ مسار التسوية.

ليس هنالك من خلافٍ حول "الثوابت الفلسطينيّة" مع الأستاذ نضال العزّة، أو مع الذين يُعِدّون لـ"مؤتمر المسار الفلسطينيّ البديل."[1] ولكنّ الفارق بين الرأييْن يقوم عند التمركز حول "ثقافة المقاومة" واعتبارها متضمِّنةً لـ"الثوابت." إنّ تثبيت الفارق بين "الثقافة" و"الثوابت" مهمٌّ تاريخيًّا، ومهمٌّ من حيث التمييزُ بين الهدف والأسلوب. فالهدف هو المبدأ الثابت، والأسلوب هو الاستراتيجيّة التي تُحقِّق الهدف. أمّا القراءة الصحيحة لمسار التنازلات، فيجب أن تبدأ، في رأينا، بمسلسل التنازلات التي مهّدتْ، أو أوصلتْ، إلى مدريد-أوسلو.

***

كلّ ما جاء في مقال الأستاذ العزّة، وهو الجزءُ الرئيسُ فيه، لا خلافَ عليه من حيث تفكيكُه وتحليلُه لجميعِ ما سعى إليه اتفاقُ أوسلو والاتفاقاتُ اللاحقة. ولا خلافَ على كلّ ما تناوله المقالُ عن السلطة الفلسطينيّة -- من تنسيقها الأمنيّ مع العدوّ، وتدميرِها لثقافة المقاومة وللوعي الوطنيّ، إلى تخريبها للبيئة الحاضنة (الجماهيريّة). ولكنّ الخلاف مع المقال يدور حول مدى نجاح العدوّ الصهيونيّ ومسارِ مدريد-أوسلو وسياساتِ القيادة الفلسطينيّة الرسميّة في تدميرِ بيئة المقاومة، وتشويهِ الوعي الوطنيّ، وتثبيطِ الجماهير. فالمقال يميل إلى اعتبار العدوّ والقيادة الرسميّة الفلسطينيّة قد نجحا في مساعيهما إلى حدٍّ بعيد، ولهذا يرى أنّ المهمّةَ المطلوبةَ الآن هي بناءُ "مسارٍ جديدٍ يستنهض الحالةَ الفلسطينيّة." وهذا، في رأيه، سيكون رهنًا بقدرة هذا المسار "على تطوير الخطاب والأدوات القادرة على استعادة فلسطين في وعي الأجيال الناشئة وفي هويّتها."

تَعتبر المقالة أنّ مُصدّري البيان رقم 1، باسم "القيادة الوطنيّة الموحَّدة للمقاومة الشعبيّة" في 13/9/2020، قد بذلوا "الكثيرَ من الجهد التنظيميّ والإعلاميّ،" في حين أنّ التجاوبَ كان محضَ "مشاركاتٍ رمزيّةٍ باهتة" كما يقول. والحقيقة أنّ ما كان واضحًا في حينه، ثم لاحقًا، أنّ مصدِّري هذا البيان (وهم من فتح-السلطة) لم يكونوا جادّين، ولم يبذلوا جهدًا. بل أٌنزلتْ قوّاتُ الأمن لتمنعَ أيَّ حراكٍ يصل إلى مواجهة الاحتلال؛ كما مُنع التضامنُ أيضًا مع البطل ماهر الأخرس وهو مضربٌ عن الطعام (بحسب إعلام حركة الجهاد الإسلاميّ). إذًا، فالبيان رقم لا يشكّل امتحانًا للموقف الجماهيريّ.

يبدأ خللُ المقال في قراءة البيئة الفلسطينيّة. فهو يَحصر هذه البيئةَ في الضفّة الغربيّة وحدها، ثمّ يعمِّم هذا الخللَ على كامل البيئة الفلسطينيّة بدلًا من أن يحصرَه في الضفّة. بل ثمّة خللٌ كبيرٌ بالنسبة إلى الكلام على الضفّة الغربيّة نفسِها: فالمقال يرى فيها نصفَ الكأس الفارغَ ولا يرى نصفَه الآخر، المتمثّلَ في "انتفاضة السكاكين" والدهسِ والحركةِ الشبابيّةِ العفويّة المستمرّة منذ العام 2015 حتى اليوم؛ وهي حركةٌ بلغتْ مئاتِ عمليّات الطعن والدهسِ والاستشهاد. وهذا غيرُ ما أحبطتْه الأجهزةُ الأمنيّةُ الفلسطينيّة (وهو بالمئات أيضًا).

والمقال لا يرى، كذلك، ردودَ فعل الأمّهات والآباء في استقبال أبنائهم وبناتهم الشهداء (حين يُفْلتون من اعتقال الجثامين)؛ فهذه الظاهرة تتناقض أيضًا مع "نصف الكأس الفارغ."

ومن الخلل أيضًا ألّا يرى المقالُ انتفاضةَ القدس ضدّ الأبواب الإلكترونيّة حول المسجد الأقصى، وانتصارَها.

ثم كيف لا يرى ما يدور من صراعٍ يوميٍّ ضدّ المستوطنين من مقتحِمي الأقصى، ولا يرى صمودَ الأسرى ونضالَهم ومعركةَ "الأمعاء الخاوية"؟

وكيف لا يَحسب ما أصاب اتفاقَ أوسلو من فشلٍ سياسيٍّ أدخله طريقًا مسدودًا؟

وكيف لا يحسب ما تواجهه السلطةُ و"التنسيقُ الأمنيّ" من إخفاقٍ سياسيّ وعزلةٍ شعبيّةٍ، وافتقارهما إلى مسوّغٍ واحدٍ لوجودهما؟ فعلى الرغم من استمرارهما المُضرّ، فإنّه استمرارٌ يقوم على أرجلٍ خشبيّةٍ ما دامت "وعودُ الدولة" التي قاما عليها قد انهارت تمامًا.

وأخيرًا لا آخرًا، نصلُ إلى ثالثة الأثافي، وهو الخلل الذي يتجسّد في تقدير الوضع الفلسطينيّ العامّ. فالمقال لا يتوقّف عند المستوى الذي وصلتْه المقاومةُ المسلّحةُ في قطاع غزّة، سواءٌ بما حفرتْه من أنفاقٍ، أو بما امتلكتْه من قدراتٍ عسكريّة، أو بنجاحها في خوض ثلاثِ حروب، أو بإطلاق مسيراتِ العودةِ الكبرى، أو بإثخان المستوطنات المحيطة بالطائرات والبالونات الحاملاتِ اللهب وإحراقها لآلاف الدونمات، أو بالصمود الأسطوريّ تحت الحصار.

***

وبعد، فعلى الرغم من أهمّيّة تحرّك ثلّةٍ من الشباب والشابّات لإطلاق "مؤتمر المسار البديل،" وذلك على أمل أن "يحملوا كتفًا" في ثقافة المقاومة والوعي الوطنيّ والإسهامِ في تبديد مسار مدريد-أوسلو الكارثيّ، فإنّ مِن الخطأ ألّا يُرى نصفُ الكأس الملآنُ. فالبداية ليست من الصفر، ولا يمكن تجاهلُ ما تمّ، ولا تجاهلُ ما هو قائمٌ من نضالاتٍ ومقاومةٍ وإيجابيّات.

حقًّا إنّ الساحة تحتاج إلى دماءٍ جديدةٍ، وإلى نبضٍ جديدٍ، ليُراكَمَ فوق مسارٍ عُبِّد بالشهداءِ والأسرى وتضحياتِ الجماهير ولم يزل. وهو ما جسّده، وما فعله، الشهيدُ القدوةُ باسل الأعرج.

بيروت

 

منير شفيق

 مفكّر عربيّ، ومناضل فلسطينيّ عريق. ألّف عدّة كتب عن الثورة الفلسطينيّة، والوحدة العربيّة، والفكر الإسلاميّ، وقضايا التنمية والاستقلال، والنظام الدوليّ الجديد.