المنفى وبحر العتمة
09-07-2016

 

في يومٍ تشرينيٍّ ملتبس، تدفَّقتْ في شراييني موجاتٌ من الهلع حين أبصرتُ عينيه المسكونتين بالرعب، ووجهَه المغمورَ بنافورةٍ من دم، وجسمَه المغطّى بمساحة واسعة من الشحوب. كان يتلمّس طريقه بين أشجار البرتقال وقد أنهكه الإعياءُ، يقتلع قدميْه من لجّة الرمل بصعوبةٍ بالغة. فاجأتُه بالوقوف أمامه وبادرتُه بالسؤال:

ــــــــ ما الذي يُحزن هاتين العينين ويبكيهما؟

نظر نحوي، وبدت حركاتُ عينيه تعبّر عن مكنونات نفسه، مجيبًا عن أسئلةٍ طرحتُها، وأخرى لم أطرحها، وكأنّه أراد أن يُسقي عطشَ صحرائي بغيث لهفه، واشتياقه المتلهّف لأزمنة تلاشت.

سرنا في طريقٍ طويل، على يميننا نخلٌ باسقٌ يحاكي القمر، وعن شمالنا أزهارٌ عبيرُها يتضوّع، وخالد لا يزال يحلّق بعينيه الباكيتين، ويديه المرتجفتين لسماء بعيدة.

أقلقني حزنُه وصمته، واعتراني شعور متناقض: أهذا صديقي الذي أعرفه منذ أكثر من عشرين عامًا، أمْ أنّ فراقنا الذي استمرّ ثماني سنوات قد بدّله؟

فجأةً، التفت نحوي، وقال بصوت متلعثم: "أعرف ما تفكّر فيه، ولا ألومُك؛ فالظروف تضع الإنسان في أوضاعٍ لا يريدها، وتقتل أحلامَه. لكنّي أؤكّد لك أنّ الوطن يسكنني، وأنّ جرحه في قلبي، ودمي فداءٌ له."

نظرتُ إليه، وتمتمت: "مازلتَ أنتَ نفسَكَ، لم تتغير."

أكمل حديثه، قائلًا:

ـــــــــ عندما يسرق الآخرون الورودَ، ويغتالون الأحلام، تصبح حياتنا بلا ملامح. والأصعب ألّا يجد الثائرون مكانًا للانطلاق!

من كلماته أدركتُ مدى قساوة الحياة معه، فآثرتُ الصمت، وخصوصًا أنّنا التقينا صديقَنا محمّدًا الذي يقول إنّه حقّق ما أراده من هذه الدنيا: فأسّس شركة للعطورات، وامتلك فيلا وسيّارة فخمة، وتزوّج وأنجب طفلين. أمّا خالد فقد ظلّ مقتنعًا بأهدافه التي لا تتحقّق، كما يقول محمّد.

أصرّ محمّد على دعوتنا إلى الغداء. تردّد خالد، إلّا أنّه انصاع للدعوة أمام إصرار محمّد، وقبولي المُبطّن لها.

في المطعم، كان محمّد كريمًا جدًّا؛ فهو لم يترك صنفَ طعامٍ إلّا وأراد تقديمه. بعد الانتهاء من المائدة، بدأ الحديثَ عن الماضي، وما لاقاه من صعوبات، وصولًا إلى ما حقّقه من إنجازات كبيرة. ثم انتقل إلى الحديث عن خالد، وكأنّه أراد أن يُظهر له أنّه فاشل. ورغم أنّ خالدًا حاول التملّص من هذا الحديث، إلّا أنّ الآخرَ آثر المضيّ فيه إلى نهايته، ما جعل الحديثَ بينهما يحتدّ، والنقاشَ يتحوّل إلى معركة يتقاذفان فيها أبشع النعوت؛ فوصف محمّد خالدًا بأنّه "حمار،" مضيفًا: "لقد قلتُ لك منذ زمن بعيد إنّ طريقك هذه صعبة، فاخترْ طريقًا آخر يوصلك إلى برّ الأمان، ولكنّك اخترت طريقًا أفنيتَ فيه شبابك ولم يوصلك إلى شيء!" فقاطعه خالد قائلًا: "من الممكن أن تكون حياتي قد ضاعت، ولكنني عملتُ مع رفاقي من أجل وطني وتحريره..."

حاولتُ أن أكون وسيطًا بينهما، لكنهما سارا في طريقين متناقضين، فآثرتُ أن أغادر المكان مع خالد، ومشينا على رصيف طويل.

هزّني من الأعماق مشهدُ خالد وهو يكاد يختنق. قلت له: "لنتحدّثْ عن أيّ شيء تريد، ولكنْ لا تبق صامتًا!"

قال بصوت متهدّج: عمّ نتحدث؟!

ساد الصمت. شعرتُ أنّ جبلًا يُطبق على أنفاسي. ولم أعد إلى الواقع إلّا بعد أن سمعتُ صوتًا مرعبًا لشاحنةٍ كبيرةٍ تقتحم المكان. راعني مشهدُ الدماء المتناثرة، وأصواتُ الصراخ المتعالية، وأنّاتُ المصابين.

بحثتُ عن خالد في المكان. صرختُ بأعلى صوتي. سألتُ الموجودين عنه. لم يعطني أحدٌ إجابة. قادتني خطاي إلى خارج المكان، متلفّتًا يمنةً ويسرة. ثم غرستُ قامتي في بحر العتمة.

فلسطين

هيثم محمد أبو الغزلان

كاتب فلسطينيّ. نال المرتبة الأولى، باسم جائزة غسّان كنفاني للنقد الصحفيّ في رام الله سنة 2013. صدرتْ له: الإسلاميون الفلسطينيون: الإيديولوجيا والممارسة؛ اللاجئون الفلسطينيون والتوطين: مخاطر عديدة وحلول تصفويّة؛ الحركة الإسلاميّة الفلسطينيّة: التأصيل والمشروع.