...وأضعتُ قمقمي
21-12-2016

 

 

"شبّيك لبّيك، عبدك بين إيديك. فنجان قهوة تعدِّل به مزاجَكَ؟ أمرُك مطاع. جنّيُّ الأمنيات بين يديْك؟ بماذا يأمرني مولاي؟ أحلى سندويشة، وكأس شاي كرمى لعينيْك!"

لعنة الله على هذا العمر. قهوة وشاي وسندويش؟! أهذه أعاجيبي الجديدة!؟

لو عثرتُ على سيّدي لما أصبحتُ اليوم عبدًا لجميع هؤلاء الأسياد، ولطلباتهم التي تُعْوزها الهيبة.

أين أنتَ يا سيّدي لتأمرَني بأن أُحْضرَ لك بساطَ الريح، وأخطفَ ابنةَ الوالي، وأبنيَ لها قصرًا نوافذُه تُطلّ على الغيوم؟! أين أنت لتطلبَ منّي أن أضع البحرَ في مغطس جسدِها النحاسيّ، وأنتزعَ من الأعين التماعاتِ دهشتها؟

أقسم بأنّني لم أتخلَّ عن عبوديّتي لك، لكنّي ذقتُ الأهوال وأنا أبحث عنك.

في ذلك اليوم البعيد، حين شعرتُ بأصابعَ تمسح على قمقمي، خرجتُ عجولًا فرحًا، وصحتُ:

"شبّيك لبّيك عبدك بين إيديك... شبّيك لبّيك عبدك بين إيديك!"

نظرتُ حولي، لكنّي لم أرك.

تركتُ قمقمي، ورحتُ أبحث عنك بين الأشجار. قلت لنفسي: ربّما هي لعبة "غمّيضة" يريد سيّدي أن نلهو بها قبل أن يبدأ التمنّي، وأبدأَ أفعال البهاء.

ولأشاركَكَ اللعب، أخذتُ أقفز عاليًا، فترتجّ الأرضُ تحت قدمي. رحتُ أزيح الأشجارَ المذعورة، وأنتزع أسقفَ المنازل، وأفتّت بقبضتي جبالًا قد تكون خلفها.

لكنّي لم أعثر عليك.

وحين رأيتُ أناسًا جالسين أمام بيوتهم اقتربتُ منهم أسألُهم عنك. لكنّني أفزعتُهم بزمجرتي فهربوا، وأقفلوا أبوابهم دوني.

حين يئستُ من العثور عليك، قرّرتُ أن أعود إلى قمقمي الصغير الدافئ. غير أنّني اكتشفتُ أنّني لا أعرف طريق العودة. وكلّما اقتربتُ من أحد لأسأله عن قمقمي الضائع كان يرتعد من الخوف ويهرب.

مرّت دهورٌ وأنا أبحث عنك. قدماي العاريتان تجرّحتا من أحجار الطريق، وقامتي المهيبة احدودبتْ من سنوات المسير. لم يعد الناس يهربون حين أسألهم عن قمقمي، بل باتوا يستمعون إلي بإشفاق وحنوّ.

وفي أحد الأيام، وبينما كنتُ أسأل رجلًا أبيضَ الشعر عن قمقمي، وضع  في كفّي شيئًا ساخنًا مدوّرًا، وقال لي:

"هذا رغيف خبز... ابحثْ عنه. أمّا البحث عن قمقمك الضائع فسيوصلك إلى مشفى المجاذيب."

مشفى المجاذيب؟ أهذا قمقم أيضًا؟

لم يجب الرجل عن هذا السؤال، ولم أكترث بذلك كثيرًا لأنّ اهتمامي كان منصبًّا على الشيء المدوّر الذي كان يلسع كفّي بحرارته.

لم تعجبني رائحتُه، وشعرتُ بحنينٍ جارفٍ إلى بخور قمقمي.

لكنّ لعنته حلّت عليّ لحظةَ غرزتُ أسناني به كما طلب منّي الرجل. أردتُ رغيفًا آخر، لكنّ الرجل كان قد رحل.

وجدتُ نفسي أسأل المارّة أن يعطوني رغيفَ خبز. أحدُهم رمى لي قطعةً معدنيّةً وضعتُها في فمي، فصاح بي: "يا مجنون، هذه تشتري بها الخبز!" وأخذني من يدي إلى مكانٍ دافئٍ اسمُه "فرن." هناك حصلتُ على رغيفي الثاني مقابلَ القطعة اللامعة.

وصرتُ أمدّ يدي إلى كلّ مَن يمرّ قرب الفرن، علّه يرمي لي قطعةً معدنيّةً أشتري بها رغيفًا. ويومًا تلو الآخر، صرتُ أميّز القطعَ المرميّة إلي: فثمّة قطعةٌ أحصل بها على رغيف، وأخرى أحصل بها على اثنين، وبعضُ قليلي الوجدان كانوا يرمون إليّ  بـ"ليرة" لا تشتري شيئًا.

و كان الفرّان يضحك ويقول لي: "انضحك عليك يا مارد؟!" وكنتُ أعفو عنه رغم ما يوحيه كلامُه من قلّة احترام؛ فهو، بين حين وآخر، يعطيني رغيفًا بلا مقابل، ويقول لي: "ادعُ لي يا مارد أن أصبح ثريًّا." فأجيبه بأسف: "لو كنتَ سيّدي لأحضرتُ لكَ كلَّ ما تريد." وكان يقهقه قائلًا: "ما أظرفك يا مارد، نيّال المجنون!"

كان يحسبني مجنونًا. وكنتُ أتقبّل ذلك من دون غضب؛ فأنا لم أعد أبدو ماردًا، بعد أن غدوتُ هزيلًا محنيَّ الكتفين وغائرَ العينين.

ويومًا تلو يوم، توقّفتُ عن الحديث عن سيّدي. ولم أعد أذكر قمقمي الضائع، إلّا حين أتشاجر مع صاحب الغرفة كلّما تـأخّرتُ عن دفع الإيجار.

ومن باب الشفقة، دبّر لي أحدُ الجيران عملًا في مؤسّسة حكوميّة. قال لي إنّه يقع ضمن مجال عملي السابق، إلّا أنّه أكثر رحابةً.

وهكذا صرتُ خادمًا لكلّ من هبّ ودبّ: "يا مارد... فنجان قهوة! يا مارد... كأس شاي! يا مارد... سندويشة جبنة! يا مارد... امسح الأرض! يا مارد... نظّفْ زجاج النوافذ!"

ولاحقًا، نصحني أحدُ زملائي، بينما كنّا منهمكيْن في تنظيف الأرضيّة، بأن أغيّر اسمي لأنّه يجلب لي السخريةَ، واختارَ اسمًا بسيطًا لا يلفت الأنظار. وهكذا صار اسمي "عبد،" ونسيتُ اسمي القديم، ونسيتُ معه أشياء كثيرة.

 إلّا أنّني في نهاية كلّ يوم، حين أضعُ رأسي على وسادتي وأغمضُ عينيّ، أرى قمقمي النحاسيّ الصغير مرميًّا في حقل عبّادِ شمس، فأستعيدُ قامتي المنتصبة وصدري العريضَ، ثمّ أستحيل ضبابًا زكيّ الرائحة، فأدخلُ قمقمي، وأغفو مبتسمًا.

سورية

ريمة راعي

 كاتبة وصحفيّة سوريّة. صدرتْ لها مجموعتان قصصيّتان: وأخيرًا ابتسم العالم (1999)، والقمر لا يكتمل (2006)؛ فضلًا عن روايتين: أحضان مالحة (2017)، وبائعة الكلمات (2018).