سماح والارهاب*
19-08-2018

 

ورقة زهريّة اللون، على شكل قلب، معلّقة على باب البرّاد: كان ذلك أوّلَ ما وقعتْ عليه عينا سماح حين دخل صباحًا إلى المطبخ.

 توقّف أمام البرّاد. فتح عينيه على اتساعهما وابتسم. وبينما كان يبحث حوله عن نظّارته، راح يستعرض الاحتمالات التي قد يأتي بها قلبٌ زهريُّ اللون. ولمّا كان يعيش وحيدًا منذ سنوات طويلة، ولا احتمالات غراميّةً ممكنةً من داخل البيت، فإنّ الاحتمال الوحيد أن تكون صاحبةُ هذه الورقة هي ابنته، نايْ، التي جاءت من نيويورك لتمضي عطلةَ الصيف معه.

فكّر سماح: لا بدّ من أنّ ناي رغبتْ، قبل أن تنام، في أن تقول له شيئًا مميّزًا، وفضّلتْ أن تكتبَه له؛ ذلك لأنّها تعلم كم تعني له الكلمات، وهو الكاتبُ والناشر. شعر بقلبه ينكمش وهو يستعيد صورةَ صغيرته التي كبرتْ وباتت شابّةً جميلةً توازيه في الطول. وفكّر في أنّ الورقة تتضمّن، بلا أدنى ريْب، كلماتٍ بسيطةً مثل ناي: "أحبّك بابا" أو "أنت أفضل أب في العالم."

التقط النظّارة التي كانت مرميّةً فوق أكوامٍ من جرائد الأمس. فكّر: ذلك هو الاحتمال الأرجح! فالبارحة، بالذات، ألغى جميعَ مواعيده، وتملّص من مهامّه اليوميّة في المجلّة ودار النشر، كي يُمضي اليوم بكامله معها. البارحة بالذات، رافقها إلى السوق، وانتظرها بصبرٍ وهي تجرّب ثيابًا بدتْ له متشابهةً، لكنّه اخترع تعليقًا مختلفًا كلّما ارتدت فستانًا وسألتْه عن رأيه. البارحة بالذات، تناول معها طعامَها المفضّل، السوشي اليابانيّ، من أشهى مطعم في بيروت. الأهمّ أنّه، البارحة بالذات، عضّ على جرحه حين سحبتْ، بلؤم وخبث، "سي دي" لمحمّد عبد الوهّاب، من مسجّلة السيّارة، واستمع طوال الطريق إلى زعيق مغنٍّ أميركيٍّ غاضب.

***

وضع سماح نظّارته. حملق في الورقة. راح يقرأ بقلبٍ هوَت عليه مطرقةٌ ضخمةٌ، فكسرتْه كثمرة جوزٍ صغيرة:

"هناك صرصار نصف ميّت في حوض الاستحمام. بابا، بليز، اقتلْه!"

عبس سماح وهو يحدِّق في الكلمات التي أطاحت بحلمه اللطيف. ليس ثمّة "أحبّكَ،" ولا "أنت أفضلُ أب في  العالم،" وإنّما رسالةٌ حول صرصار، ودعوةٌ صباحيّةٌ إلى القتل!

رمى سماح الورقة بغضب على طاولة المطبخ، وسار نحو الحمّام. نظر إلى حوض الاستحمام، فرأى الصرصارَ مرميًّا فيه، لا حول له ولا قوة. نظر إليه بحيْرة، وقرّر أن يقول لابنته حين تصحو إنّ العاميْن اللذين أمضتهما في جامعة كولومبيا في نيويورك لم يغيّرا شيئًا فيها. بل ها هي تنسى الشعارات التي تردّدها في المظاهرات والوقفات المناهضة للعنف والتمييز، وتدعو بعاديّة مطلقة إلى قتل كائنات بريئة.

 وسيقول لها: إنّ من حقّ الصرصار أن يموت ميتةً طبيعيّة، نتيجةً لواحد من أمراض الشيخوخة مثلًا. بل فكّر في أن يجعلها تشعر بتأنيب الضمير فيسألها: "ما الفرق بين هذا الصرصار البريء، وهرِّنا الأبيض قمر؟ أتقْبلين أن يقتلَ أحدٌ قمرَنا؟"

شعر سماح بنشوة انتصاره الافتراضيّ على ابنته. لكنّه سرعان ما عبس مجدّدًا حين توقّع أن تقول له ناي: "لكنّ هرَّنا قمر لا يسكن في  المجرور يا بابا، ولا ينقل الأمراض، ولديه طوقٌ خاصٌّ يُبعد عنه البراغيث." وربّما تمادت أكثر، لكونه درّبها منذ صغرها على الجدال والمماحكة، فأكملتْ: "ثمّ إنّ هذا الكائن، الذي تزعم أنّه بريء، ليس فقط أخطرَ من قمر، بل أخطر من الديناصور نفسِه. فلقد انقرض الديناصور، وما زال الصرصارُ هنا. وسأنقرض أنا وأنت وجامعةُ كولومبيا وكلُّ من يدرس فيها، ويبقى الصرصار ينشر الرعبَ أينما حلّ!"

بماذا أجيبها حينها، فكّر سماح؟ وقرّر: سأقول لها إنّ هذه الحوادث الصغيرة فرصةٌ كي نكتشف الإرهابيَّ الصغير داخلنا. ويبدو أنّني أربّي إرهابيًّا صغيرًا من دون أن أدري.

***

حين أمسك سماح منديلًا ورقيًّا ومدّ يدَه ليلتقط جثّةَ الصرصار، فوجئ به يصحو من الموت، ويقفز على يده، ويمشي على ذراعه. كالملسوع، نفض سماح ذراعَه، فوقع الصرصار على أرض الحمّام، واتجه نحو الباب المفتوح كي يهرب في اتجاه الصالة. لكنْ، خلال ثوانٍ، كان سماح قد قفز نحوه وداس عليه، وهو يصيح: "الله يلعنك ويلعن يلّي خلّفك!"

وبعد أن تحقّق سماح من أنّ الصرصار قد مات فعلًا هذه المرّة، تنفّس الصعداء. التقط جثّتَه الممعوسة بمنديلٍ ورقيٍّ جديد، ورماه في المرحاض، وأجرى عليه الماءَ ثلاثَ دفعات.

عاد إلى المطبخ وقد عقد العزمَ على أن يقول لابنته حين تصحو:

" اسمعي يا ناي. إنّ ورقة زهريّة على  شكل قلب تصلح فقط لكتابة رسائل الحبّ يا حبيبتي. أرجوكِ، في المرة القادمة، أن تستخدمي ورقةً بيضاء، على شكل مربّعٍ أو مستطيل."

اللاذقيّة

 

* في 7 آب من هذا العام، نشر رئيسُ تحرير الآداب سماح إدريس على صفحته الفيسبوكيّة منشورًا استوحيتُ منه قصّتي القصيرة هذه. المنشور بعنوان "كيف تربّي إرهابيًّا صغيرًا؟" وهو كالآتي: "صحوتُ صباحًا لأجد ورقةً زهريّةً كتبتْ عليها ابنتي نايْ بعد منتصف الليل: ’هناك صرصار نصفُ ميت في حوض الاستحمام. بابا، بليز، اقتلْه!‘" وتابع إدريس يقول: "هذا المنشور برسم المستشرقين ممّن يروْن تلازمًا أبديًّا وأزليًّا بين العرب والعدوانيّة. لا فائدة. البنت تدْرس في جامعة كولومبيا في نيويورك منذ عامين، وما تزال تدعو إلى قتل كائناتٍ بريئة!"

 

ريمة راعي

 كاتبة وصحفيّة سوريّة. صدرتْ لها مجموعتان قصصيّتان: وأخيرًا ابتسم العالم (1999)، والقمر لا يكتمل (2006)؛ فضلًا عن روايتين: أحضان مالحة (2017)، وبائعة الكلمات (2018).