النّمل ــ بوريس ڨيان
02-08-2021

 

نقلها عن الفرنسيّة وقدّم لها: وضّاح محمود

يكاد بوريس فيان أن يكون مجهولًا في عالمنا العربيّ لقلّة ترجمة أعماله إلى لغتنا. ويصعب تقديمُه في سطور قليلة، وذلك لغزارة إنتاجه وتعدّد مواهبه، على الرغم من حياته القصيرة (1920-1959). فلقد كان مهندسًا وشاعرًا وقاصًّا وروائيًّا ومترجمًا وموسيقيًّا ومغنّيًا وممثِّلًا وكاتبَ سيناريو ورسّامًا... وجميعُها ميادينُ اقتحمها بعزمٍ وخيالٍ خصب، فبرع فيها أيّما براعة.

كتب العديدَ من الروايات التي لم تنل حقَّها من التقدير، حتى في بلده فرنسا، إلّا بعد رحيله عن عالمنا. وهنا نخصّ بالذكر منها رائعتَه زبدُ الأيام التي تُدرَّس اليوم في المرحلة الثانويّة في المدارس الفرنسيّة، إضافةً إلى رواياتٍ أخرى وصلتْ إلى شاشات السينما.

يتميّز أسلوبُه عمومًا بالخروج على الأشكال المألوفة في التعبير، وبابتكار صورٍ جديدة، وتوليد مفرداتٍ حديثةٍ دخلتْ عالمَ اللغة الفرنسيّة وشاعت من بعده. تطغى على أعماله روحٌ صبيانيّةٌ وثّابة، متمرّدة على روح عصره، تتجلّى في خلخلة المنطق الكلاسيكيّ في صياغة الجملة اللغويّة والصورة البيانيّة، حتى يخالَ المرءُ أحيانًا أنّه يقرأ سيناريوهاتٍ أُعِدّت لأفلام الصور المتحرّكة. كما أنّه يمزج ببراعةٍ بين الأشكال الكلاسيكيّة في التعبير واللغة العامّيّة، فيَستخرج من ذلك المزيج لغةً جديدةً وضّاءةً شديدةَ الخصوبة والإيحاءات، توقِع القارئَ – والمترجمَ أيضًا! - في فخّ مطاردة المعنى وقنصه. 

أقدّم اليوم إلى قرّاء الآداب قصّةً قصيرةً بعنوان "النمل." وهي من مجموعة قصصيّة تحمل العنوانَ نفسَه، نُشرتْ في العام 1949، وذلك بعد أن كان قد نشرها قبلًا في مجلة الأزمنة الحديثة التي كان يديرها جان بول سارتر.

عاش بوريس فيان الحربَ العالميّةَ الثانية في بلده فرنسا، وعاصر الاحتلالَ النازيَّ لباريس. وفي هذه القصّة يقدّم نقدًا للحرب وعبثيّتها، بأسلوبه المميّز.

 

I

رسَوْنا هذا الصباحَ على الشاطئ، فاستُقْبِلنا شرَّ استقبال، إذ لم يكن في انتظارنا غيرُ أكداسٍ من القتلى، أو بالأحرى أكداسٌ من أشلائهم، ولم نرَ غيرَ أكوامٍ من الدبّابات والشاحنات المدمَّرة. كان الرصاص ينهمر علينا من كلّ حدبٍ وصوب، وأنا لا أحبّ هذه البلبلةَ التي لا مبرِّرَ لها. قفزنا إلى الماء، لكنّه كان أعمقَ ممّا بدا، وتزحلقتُ على علبةٍ من علب الكونسروة. إحدى الطلقات الطائشة أوْدت بثلاثة أرباع وجهِ الجنديّ الذي كان ورائي، فاحتفظتُ بعلبة الكونسروة للذكرى. وضعتُ أشلاءَ وجهه في خوذتي وأعطيتُه إيّاها، فانطلق راكضًا كي يتلقّى العلاج. ولكنْ يبدو أنّه ضلّ طريقَه؛ فلقد أوغل في الماء حتى غاصت قدماه. ولا أظنّ أنه يرى بوضوحٍ في القاع كي لا يضيع.

بعد ذلك عدوتُ صوب الجهة الآمنة فبلغتُها، وإذا بساقٍ تخبط بوجهي. حاولتُ أن أوبِّخَ صاحبَها، لكنّ اللغمَ لم يُبقِ منه غيرَ أشلاءٍ لا تستحقّ التوقّفَ عندها. فتجاهلتُ ما قام به، وتابعت العدْو.

بعد عشرة أمتار انضممتُ إلى ثلاثة رجالٍ آخرين كانوا يحتمون بحاجزٍ اسمنتيّ، وهم يطلقون النارَ نحو الأعلى، على زاوية أحد الجدران. كانوا يتصبّبون عرقًا. ولا بدّ أنّ حالي كانت مثلَ حالهم، فجثوتُ على ركبتيّ، وبدأتُ أطلق النارَ أيضًا. عاد الملازمُ إلينا، وكان يمسك رأسَه بيديْه كلتيْهما، ومن فمه يسيل سائلٌ أحمر. بدا غيرَ مسرور، فتمدّد في الحال على الرمل، وهو فاغرٌ فمَه، وذراعاه ممدوتان إلى الأمام. حيث تمدّد، لوَّث الرملَ كثيرًا، وكان ذلك المكانُ من الأمكنة القليلة التي ظلّت نظيفةً حتى قدومه.

من هناك، حيث كنّا نطلق النارَ، بدا مركبُنا المتهاوي أخرقَ تمامًا في بادئ الأمر. ثمّ لم يعد يُعرف له شكلٌ حين هوت عليه القذيفتان. لم يرُقْ ليَ الأمر، لأنّ رفيقيْن من رفاقنا كانا لا يزالان في داخله، يحاولان النهوضَ كي يقفزا، والرصاصُ ينهمر عليهما. ربّتُّ بكفّي على أكتاف الرجال الثلاثة الذين يطلقون النارَ معي وقلتُ لهم: "هلمّوا، هيّا بنا!" بالطبع، جعلتُهم يتقدّمونني، وحدْسي لم يخطئ؛ ذلك أنّ القناصَيْن اللذيْن كانا يطلقان النارَ علينا - ونحن مكشوفون - قتلا الأوّلَ والثاني سريعًا. ولم يتبقَّ أمامي غيرُ الثالث، لكنّه كان منحوسًا هو أيضًا؛ إذ حالما صرع القنّاصَ الأشرسَ، أرداه القنّاصُ الآخرُ قتيلًا، وذلك قُبَيْلَ أن أُجهِزَ عليه ببندقيّتي.

كانت لدى هذيْن الوغديْن، عدوّيْنا الرابضيْن وراء زاوية الجدار، بندقيّةٌ آليّةٌ وأكوامٌ من الخرطوش. أمسكتُ بتلك البندقيّة، فصوّبتُها باتجاه العدوّ وضغطتُ على الزناد. لكنّي توقّفتُ في الحال لأنّ أزيزَ رصاصها أصمَّ أذنيّ، ثمّ تعطّلتْ. لا شكّ في أنّ هذا النوع من البنادق مصمَّمٌ كيْ لا يُطلقَ النارَ إلّا في اتجاهنا نحن.

في تلك اللحظة استعدتُ شيئًا من هدوئي، وصار في وسعي أن أستمتعَ بالمشهد من أعلى الشاطئ. كان الدخانُ يتصاعد فوق البحر في كلّ اتجاه، والموجُ يتراقص عاليًا. وكان يُرى أيضًا وميضُ رشقات البوارج الكبيرة ومقذوفاتها وهي تمرّ فوق الرؤوس مدوّيةً دويًّا أصمَّ، وماخرةً الهواءَ بصوتها الحادّ.

أتى النقيب، ولم يكن قد بقي منّا غيرُ أحدَ عشرَ جنديًّا. قال إنّ عددنا لا يُعْتَدُّ به لكنّنا سنتدبّر أمرَنا بما نحن عليه. بعد قليلٍ تلقّينا بعضَ الإسناد، غير أنّ النقيب أمرَنا في تلك اللحظة بأن نحفر حُفَرًا. ظننتُ أنّها للنوم، لكّنني أخطأتُ التقدير؛ فلقد تعيّن علينا أن نتمركز فيها ونتابعَ إطلاقَ النار.

لحسن الحظ أنّ الفرج أتانا، وبدأتْ دفعاتٌ كبيرةٌ من الجنود تهبط من المراكب. إلّا أنّ الأسماك شرعتْ تنسلّ متزاحمةً حول سيقانهم، انتقامًا للاضطراب الذي أحدثوه، فصار معظمُهم يهوي في الماء ثم ينهض وفي صدره حشرجةُ اليائس، وهو يكاد يختنق. أمّا بعضُهم الآخر فصار لا يقوى على النهوض، بل يرحل سابحًا مع الموج. ولذا أمرنا النقيبُ في الحال بأن نُجْهِزَ على مربض البنادق الآليّة لأنه عاود قصفَنا بغزارة. وطلب إلينا أن نتقدّم محتمين بإحدى الدبّابات.

اصطففْنا خلف الدبّابة. كنتُ الأخيرَ، لأنّني لا أثق كثيرًا بفرامل هذا النوع من الآليّات. وفوق ذلك، فإنّ من المريح أن يمشي المرءُ خلف الدبّابة، إذ لا يقع في شرك الأسلاك الشائكة، وأمامَها تهوي الأوتادُ من تلقاء نفسها. غير أنّي لم أكن أَسرُّ لطريقتها في سحق الجثث، وهي تُصدر صريرًا يَشقُّ عليّ تذكّرُه، مع أنّه كان في وقته صريرًا مميَّزًا. بعد ثلاث دقائق، مرّت الدبّابةُ فوق أحد الألغام وبدأتْ تحترق، وعلق اثنان من طاقمها في الداخل ولم يتمكّنا من الخروج. أمّا الثالث فقد تمكّن من ذلك، بيْد أنّ إحدى ساقيْه ظلّت داخل الدبّابة، ولا أعلم إنْ كان قد لاحظ ذلك قبل أن يموت. ولكنْ قبل كلّ ذلك كانت قد سقطتْ قذيفتان منها على مربض البنادق الآليّة، فأحرقتا الأخضرَ واليابس.

الواصلون إلى الشاطئ لاحظوا تحسّنًا في الوضع. غير أنّ إحدى البطّاريّات المضادّة للدروع شرعتْ ترميهم بمقاذيفها، فسقط منها زهاء عشرين في الماء. انبطحتُ على الأرض، فصرتُ أراهم من مكاني وهم يطلقون النار، وأنا أمدُّ رأسي قليلًا. كان هيكلُ الدبّابة يحميني بعضَ الشيء وهو يحترق، فصوّبتُ نحو هدفي بدقّة. سقط رامي المدفعيّة وهو يتلوّى أيّما تلوٍّ، ولا بدّ من أنّني أصبتُه في أسفل جسمه، لكنّي لم أتمكّن من الإجهاز عليه، إذ تعيّن عليّ أن أصرعَ الثلاثةَ الآخرين. ولم أتمكّن من ذلك إلّا بصعوبة. لحسن الحظّ أنّ ضجيجَ الدبّابة وهي تحترق حال بيني وبين سماع أصواتهم وهم يصرخون - فلقد قتلتُ الثالثَ شرَّ قِتلة. ومن حولي ما انفكّ كلُّ شيءٍ يتقافز. وما لبث الدخانُ يتصاعد من كلّ حدبٍ وصوب.

فركتُ عينيّ فركًا كي أرى بهما جيّدًا لأنّ العرق كان يمنعني من ذلك؛ فرأيتُ النقيب وهو يعود، وكان لا يقوى على تحريك ذراعه اليمنى.

– هل يمكنك أن تربطَ ذراعي وتشدَّها حول جسمي؟

قلتُ له نعم، وبدأتُ ألفُّها بالضمادات. فما رأيته إلّا وهو يطير عن الأرض ثم يهوى عليَّ، لأنّ قنبلةً سقطتْ خلفه. تجمّد على الفور، ويبدو أنّ ذلك يحدث عندما يموت المرءُ وهو منهَك؛ والحال أنّ تجمّدَه سهَّل عليَّ إزاحتَه عنّي.

بعد ذلك اضطررتُ إلى النوم. وعندما أفقتُ سمعتُ ضجيجًا يأتي من بعيد، ورأيتُ أحدَهم يقدّم إليّ القهوة. كان من أولئك الرجال الذين وُسِمَتْ خوذاتُهم بالصلبان الحمراء.

 

II

غادرنا الشاطئَ وانطلقنا نحو الداخل. حاولنا أن نطبِّقَ نصائحَ مدرّبينا والأشياءَ التي تعلّمناها في المناورات. بعد قليل عادت سيّارةُ الجيب، التي يقودها مايك في العادة. لكنّ السائقَ هذه المرّة كان فرِدْ، لأنّ مايك كان مشطورًا إلى نصفيْن؛ فلقد تعثّرا بشريطٍ معدنيٍّ قاطع.

ها نحن الآن نجهِّز السيّاراتِ الأخرى بشفراتٍ فولاذيّةٍ حادّةٍ توضع في مقدّمتها، لأنّ الجوّ أكثرُ حرًّا من أن يطيقَ المرءُ قيادةَ السيّارة وزجاجُها الأماميُّ مرفوع. لا تزال القذائفُ تتطاير في كلّ اتجاه، ونحن لا نزال نكثِّف دوريّاتنا. أعتقدُ أنّنا تعجّلنا قليلًا في تقدُّمنا، وها نحن نجد صعوبةً في الاتصال بخطوط التموين والإمداد.

هذا الصباح أعطب العدوُّ لنا تسعَ دبّابات على الأقلّ. وحدثتْ معنا قصّةٌ غريبة: فلقد جرف أحدُ الصواريخ، في طريقه، بازوكا أحدِ الجنود، فظلّت عالقةً بكتفه، فتريَّث حتى صار على ارتفاع أربعين مترًا ثم قفز بالمظلّة عائدًا إلى الأرض.

أعتقدُ أنّنا سنضطرّ إلى طلب الإسناد، لأنّني سمعتُ منذ قليل صوتًا قويًّا كصوت مقصّ الشجر، ولا بدّ أن العدوَّ شقَّ مؤخّرتَنا...

 

III

... إنّ ذلك ليذكّرُني بما حدث منذ ستّة شهور حين شقَّ العدوُّ مؤخّرتَنا. لا بد أنّنا الآن محاصَرون تمامًا. لكنّ الصيف ولّى. ولحسن الحظّ أنّه ما زال لدينا ما نأكلُه، وما زال لدينا بعضُ الذخيرة.

يتعيّن علينا الآن أن نتناوبَ في الحراسة كلَّ ساعتين كي نحمي مواقعَنا؛ وهذا ما يجعلنا نصاب بالإرهاق.

جنودُ العدوّ يستولون على ملابس رفاقنا الذين يأسرونهم، ويلبسونها، فيَبْدون مثلَنا. ولذا علينا أن نكون حذرين. وفوق ذلك كلّه انقطعتْ عنّا الكهرباءُ، ولم تعد مصابيحُنا تعمل، وصرنا نقاسي هبوطَ القذائف على رؤوسنا من الجهات الأربع في آنٍ معًا. والآن نجهد في إعادة الاتصال بالمؤخّرة؛ وعليهم أن يرسلوا إلينا طائرات، لأنّ سجائرَنا بدأتْ تنفد.

يُسمع ضجيجٌ في الخارج. لا بدّ من أنّ شيئًا ما يُطبخ، ونحن لم نعد نجرؤ ولو على نزع الخُوَذ عن رؤوسنا.

 

IV

وبالفعل كان هناك شيءٌ ما يُطبخ. فقد وصلتْ أربعُ دبّاباتٍ إلى المكان، ورأيتُ الأولى وأنا أخرج، لكنّها توقّفتْ في الحال، إذ حطّمتْ قنبلةٌ أحدَ جنازيرها، فانفرط دفعةً واحدةً وهو يقرقع قرقعةً رهيبة. لكنّ مدفعَها لم يُمسَّ بأذًى. استولينا على قاذف اللهب. المزعج في هذه المنظومة هو وجوبُ شقّ برجها قبل استخدام قاذف اللهب، وإلّا انفجرتْ (مثلَ حبّة الكستناء) وانطبخ مَن في داخلها شرَّ طبخة.

ذهبنا ثلاثةً كي نقصَّ البرجَ بمنشارٍ ذي نصلٍ معدنيّ، لكنّ دبّابتيْن أخرييْن وصلتا إلى المكان عينه، فاضطُرِرنا إلى تفجير الدبّابة الأولى من دون أن نشقّها. ثم انفجرت الدبّابةُ الثانية. أمّا الثالثة فلقد استدارتْ نصفَ دورة، لكنّ ذلك لم يكن إلّا خدعةً لأنّها كانت قادمةً نحونا وهي ترجع رجوعًا؛ ولذلك استغربنا بعضَ الشيء رؤيتَها وهي تُطلق النارَ على الجنود الذين يتبعونها. وكهديّةٍ في عيد الميلاد أرسلتْ إلينا اثنيْ عشر مقذوفًا من عيار 88 مم؛ وصار علينا أن نعيدَ بناءَ المنزل من جديد إنْ أردنا أن نسكن فيه مرّةً أخرى، مع أنّ من الأسرع أن نستقرَّ في منزل آخر. في نهاية المطاف تخلّصنا من الدبّابة الثالثة بأن حشوْنا البازوكا بمسحوقٍ مسبِّبٍ للعطاس، فصار أفرادُ طاقمها يَضْربون رؤوسَهم على الصفيح، حتى إنّنا لم نُخْرجْهم إلّا جثثًا. ولم يتبقَّ منهم على قيْد الحياة إلّا السائق. غير أنّ رأسَه علق داخل المقود، ولم يعد في وسعه انتزاعُه منه، ففضّلنا أن نقطعَه، بدلًا من تخريب الدبّابة التي ظلّت سليمة.

خلف الدبّابة باغتنا عددٌ من سائقي الدرّاجات وهم مسلّحون ببنادقَ آليّة، لكنّنا نجحنا في الإجهاز عليهم بفضل حصّادةٍ زراعيّةٍ قديمة. في تلك الأثناء كانت تهبط على رؤوسنا بعضُ القنابل أيضًا. بل إنّ طائرةً سقطتْ علينا: أسقطتْها دفاعاتُنا الجوّيّةُ من غير قصد، لأنّها في الأساس كانت تطلق النارَ على الدبّابات. من بين رفاقنا فقدنا سيمون ومورتون وبوك وبي سي، بينما نجا الآخرون. وكذلك نجت إحدى ذراعيْ سْليم.

 

V

لا نزال محاصَرين، ولا تزال السماءُ تمطر منذ يوميْن من دون توقّف. تهاوى نصفُ قرميد السقف، لكنّ قطراتِ الماء تسقط حيث يجب، فلم نتبلّلْ بالفعل. لا نعرف أبدًا كم سندوم على هذه الحال. ما زلنا نقوم بدوريّاتنا الاستطلاعيّة، لكنْ يصعب أن يحدِّق المرءُ عبر المنظار من دون أن يكون قد تلقّى تدريبًا على استخدامه. ومن المتعِب أن يظلّ في العراء أكثرَ من ربع ساعة والطينُ فوق رأسه.

أمس التقيْنا دوريّةً أخرى، ولم نعرف إنْ كانت صديقةً أمْ معادية. وعلى كل حال فإنّ إطلاقَ النار من تحت الطين لا ينطوي على أيّ خطر، إذ يستحيل إلحاقُ الضرر بالخصم لأنّ الطلقات تنفجر على مسافةٍ قريبةٍ وتسقط في الحال. لقد فعلنا المستحيلَ للتخلّص من هذا الطين. سكبنا البنزينَ فوقه؛ فصار ينشف بفعل الاحتراق. لكنّه بعد ذلك صار يلسع أرجلَنا لدى مرورنا عليه. الحلّ الأمثل هو أن نحفرَ في الأرض حتى نبلغ التربةَ القاسية. لكنّ القيام بالدوريّات على أرضيّةٍ صلبةٍ أصعبُ منه على الطين. وفي كلّ الأحوال لا بدّ لنا من أن نعتادَه. غير أنّ المزعج أنّه زاد حتى شكَّل مستنقعات. وفي الوقت الحاضر لا يبدو مزعجًا جدًّا، فهو لم يتجاوز الحاجزَ بعد. بيْد أنّه - لسوء الحظّ - سوف يعلو من جديدٍ بعد قليل ويبلغ الطابقَ الأول. وهذا أمرٌ لا يبعث على السرور.

 

VI

هذا الصباح حصلتْ معي قصّةٌ لعينة. كنتُ في الهنغار خلف المنزل، أحضّر مفاجأةً سارّةً وكبيرةً للجنديّيْن اللذيْن أراهما بوضوح من خلال المنظار وهما يحاولان تحديدَ موقعنا. كان لديّ مدفعُ هاون صغير من عيار 81 مم، وكنتُ أجهِّزه لأضعَه في عربة أطفال. وكان على جوني أن يتنكّر بزيّ فلّاحةٍ كي يدفع العربة. لكنّ الهاون سقط على رجلي في الحال؛ وهذا ليس بالأمر الغريب، فهو يحدث معي دائمًا لحظةَ الإطلاق. دوّى صوتُ المقذوف المجنّح، بينما تمدّدتُ وأمسكتُ بقدمي، ثم طار وانفجر في الطابق الثاني فوق البيانو الذي كان النقيبُ يعزف عليه معزوفةَ "جادا" الشهيرة.

أحدث الانفجارُ ضجيجًا هائلًا، وتحطّم البيانو. والمزعج حقًّا أنّ النقيب لم يصب بأيّ أذًى، أو قل إنّه أصيب قليلًا بما لا يمنعه من الطرْق بقوة. ولحسن الحظ أنّ قذيفةً من عيار 88 مم سقطتْ بعد ذلك على الفور في الغرفة نفسها. لم ينتبه النقيبُ إلى أنّ العدوّ حدّد مكانَه بناءً على انفجار قذيفة الهاون، فتشكّرني وهو يقول لي إنّني أنقذتُ حياتَه بأن جعلتُه ينزل من الطابق الثاني. وفي نظري لم يكن لكلّ ذلك أيُّ أهمّيّة لأن سنّيَّ الأماميّتيْن تكسّرتا، ولأنّ كلّ زجاجات الكحول كانت تحت البيانو تمامًا فتهشّمتْ.

ها هو الحصار يشتدُّ من حولنا، والقذائفُ لا تنفكّ تتهاوى فوق رؤوسنا. لحسن الحظّ أنّ الجو بدأ ينقشع، ولم تعد السماءُ تمطر غيرَ تسع ساعات كلَّ اثنتيْ عشرة ساعة، ويمْكننا أن نأملَ بوصول الدعم عن طريق الطائرات بعد شهر. لا يزال لدينا من المؤن ما يكفي ثلاثةَ أيّام.

 

VII

بدأت الطائراتُ تلقي إلينا أشياءَ بالمظلّات. أُصبتُ بخيبة أمل حين فتحتُ الكيسَ الأوّل، إذ لم يكن فيه غيرُ كومةٍ من الأدوية. قايضتُها بقطعتيْن من الشوكولا بالبندق، أعطاني إيّاهما الطبيب؛ وكانتا من النوع الجيّد، لا من ذلك الزبل الذي يأتي مع مخصَّصات الجنود. وفوق الشوكولا أعطاني نصفَ زجاجةٍ من الكونياك. لكنّه استدرك وأصلح لي قدمي المعطوبة، فصار لزامًا عليّ أن أعيدَ إليه الكونياك؛ ولولا ذلك لكنتُ الآن بقدمٍ واحدة.

بدأ الهديرُ من جديدٍ فوقنا في السماء، وقد انفرجتْ قليلًا، فعادت المظلّاتُ تهبط من الطائرات. لكنّها كانت تهبط بالجنود هذه المرّة، على ما يبدو.

 

VIII

وبالفعل كانوا جنودًا. وكان بينهم اثنان مثيران للسخرية، إذ يبدو أنّهما أمضيا الرحلة في الجوّ وهما يتعاركان ويتلاكمان ويرمي واحدُهما الآخرَ تحت المقاعد.

هبطا على الأرض معًا، وأخذ كلٌّ منهما يلهو بتقطيع حبال مظلّة الآخر بالسكّين. ولسوء الحظ أنّ الريح باعدتْ بينهما، فاضطرّا إلى إكمال عراكهما بالرصاص الحيّ. ندر أن رأيتُ في حياتي كلِّها رماةً ماهرين مثلهما. وعلى الفور أعاد كلٌّ منهما الآخرَ إلى التراب ثم بدأنا نهيله عليهما.

 

IX

فُكَّ الحصارُ عنا، فعادت دبّاباتُنا، وفرَّ العدوُّ، ولم يستطع الصمود. لم أتمكّنْ من المشاركة في القتال مشاركةً فعليّةً بسبب قدمي، لكنّي كنتُ أشجّع الرفاق وأدبُّ الحماسَ في نفوسهم.

كان المشهدُ مشوِّقًا. كنتُ أرى كلَّ شيء من النافذة بوضوح، وكان المظلّيّون الذين هبطوا أمس يتدافعون مثلَ الشياطين. والآن لديّ شالٌ من حرير المظلّات، بنّيٌّ وموشًّى بالأصفر والأخضر، وهو ينسجم بألوانه مع لحيتي، لكنّي سوف أحْلقها غدًا تحضيرًا لإجازة النّقاهة. لقد تحمّستُ كثيرًا، حتى إنّني رميتُ جوني بقطعةٍ من القرميد على رأسه لأنه أخطأ هدفَه في الرماية؛ والآن فقدتُ سنّيْن إضافيتيْن.

هذه الحرب غير مفيدة أبدًا للأسنان.

 

X

الروتين يُضْعِفُ المشاعر. قلتُ ذلك لهوغيت - اسمٌ غريبٌ، أجل، لكنّ بعضَ النساء اسمُهنّ هكذا - وأنا أرقصُ معها في مقرّ الصليب الأحمر، فأجابتني: "أنت بطل." لكنّي لم أجد الوقتَ الكافي لأردَّ عليها ردًّا لائقًا لأنّ ماك ربّتَ على كتفي، فاضطررتُ إلى أن أتخلّى له عنها.

كان الحاضرون الآخرون يتحدّثون أحاديثَ شائنةً، والفرقةُ الموسيقيّةُ تسرع في العزف. قدمي لا تزال تضايقُني قليلًا، لكنّها بعد خمسة عشر يومًا ستشفى، وأعود إلى السير بلا ألم.

التفتُّ صوب إحدى الفتيات اللواتي كنَّ حولي. لكنّ قماشَ بذلتي كان سميكًا -- وهذا يُضْعِفُ المشاعرَ أيضًا. هناك الكثيرُ من الفتيات في هذا المكان، وهنّ يفهمن كلَّ ما يقال لهنّ على أيّ حال. وهذا يثير فيَّ الخجل، ولكنْ لا علاقة لي بشؤونهنّ.

خرجتُ من المقرّ، فوجدتُ على الفور فتياتٍ أُخرياتٍ كثيرات؛ ولم يكنَّ من طينة السابقات، وكنَّ أكثرَ تفهّمًا. لكنّه كان عليّ أن أدفعَ لهنّ خمسمائة فرنك على الأقلّ لأنّني جريح. ثم إنّ أمرهنّ غريب، فهنّ يتحدّثن بلكنةٍ ألمانيّة.

بعد ذلك اختفى ماك عن ناظري، وتجرّعتُ الكثيرَ من الكونياك. وهذا الصباح أشعرُ بألمٍ رهيبٍ في رأسي، وذلك في المكان الذي كانت الموسيقا تَطْرق عليه.

لم يتبقَّ لديَّ نقود لأنني في نهاية المطاف اشتريتُ سجائرَ فرنسيّةً من ضابطٍ إنكليزيّ، وعانيتُ الأمرّيْن من طعمها. لم أتردّدْ في رميها إلى القمامة؛ فهي مقرفة، والضابط كان على حقّ في التخلّص منها.

 

XI

عندما يخرج المرءُ من مخازن الصليب الأحمر وهو يحمل صندوقًا يضع فيه السجائرَ والصابونَ والحلْوياتِ والجرائد، فإنّ عيونَ الناس تلاحقُه في الشارع. ولا أفهم لماذا؛ فهم بلا ريْب يبيعون الكونياك بسعرٍ يشقُّ على المشتري، ونساؤهم لسن رخيصاتٍ أبدًا.

تكاد قدمي أن تكون قد شفيتْ تمامًا. لا أعتقد أنّني سأبقى وقتًا أطولَ هنا. بعتُ السجائرَ كي أتمكّنَ من الخروج ليلًا والسهر قليلًا. ثم شرعتُ أتطفّل على ماك، لكنّه لا يتخلّى عن سجائره بسهولة. بدأتُ أحسُّ بالضيق. سوف أذهبُ هذا المساءَ إلى السينما مع جاكلين؛ لقد تعرّفتُ إليها مساءَ أمس في النادي، ولا أظنُّ أنّها تتمتّع بالذكاء؛ فهي تزيح يدي عنها دائمًا ولا تتمايل وهي ترقص.

هؤلاء الجنودُ يثيرون حنقي؛ فهم في منتهى الفوضويّة، وليس فيهم اثنان يرتديان البذلةَ نفسَها. والآن لا أملك إلّا انتظارَ المساء.

 

XII

ها نحن من جديد هنا، مع أنّنا في المدينة كنّا نشعر بانزعاجٍ أقلّ. وها نحن نتقدّم، ولكنْ ببطء شديد. كنّا كلّما جهّزنا المدفعيّةَ، أرسلنا دوريّةَ استطلاع، فيعود أحدُ جنودنا مصابًا برصاص القنص. نعيد تجهيزَ المدفعيّة من جديد ثم نرسل الطائرات، فتدمِّر كلَّ شيء، وبعد دقيقتيْن يعاود القنّاصون الرميَ. وحينئذ تعود الطائرات، ولقد أحصيتُ منها اثنتيْن وسبعين. وهي ليست بالطائرات الكبيرة، لكنّ القريةَ صغيرة. ومن مكاننا كنّا نرى القنابلَ تسقط سقوطًا حلزونيًّا فتُحْدث ضجيجًا أصمّ، تتصاعد بعده أعمدةٌ من الغبار لا مثيلَ لها.

سوف نعاود الهجوم، لكنْ يتعين علينا أوّلًا أن نرسل دوريّةَ استطلاع. ويا لَسوء حظّي وما ألاقيه منه؛ فعليّ أن أمشي على قدميّ قرابةَ كيلومتر ونصف الكيلومتر، وأنا لا أحبّ أن أمشي مسافاتٍ طويلة، لكنّنا في هذه الحرب لا نملك حقَّ الاختيار.

تجمَّعنا خلف أنقاض المنازل الأولى. لا أعتقد أنّه بقي في القرية كلِّها، من أوّلها حتى آخرها، منزلٌ واحدٌ لم يتهدّم. ولا يبدو أيضًا أنّه بقي فيها الكثيرُ من السكّان. وأولئك الذين نراهم تبدو على وجوههم ملامحُ غريبةٌ، هذا إن بقيتْ لهم وجوهٌ أصلًا. ولا بدّ أنهم يدركون أنّنا لا نستطيع أن نخاطرَ بأرواح رجالنا كي ننقذَهم وننقذَ منازلَهم؛ وهي في معظم الأحيان منازلُ قديمةٌ متهالكة، ولا نفع منها. ثم إنّ تلك هي الطريقةُ الوحيدةُ كي يتخلّصوا ممّا تبقّى من منازلهم؛ وهم يدركون ذلك بالمجمل، وإن اعتقد بعضُهم عكسَ ذلك. وفي نهاية المطاف، فإنّ هذا شأنُهم وحدهم، وربما أبدوْا تعلّقَهم بمنازلهم، لكنّه بلا ريبٍ تعلّقٌ أقل، نظرًا إلى الحال البائسة التي آلت إليها.

لا أزالُ في دوريّة الاستطلاع. وها أنا مرةً أخرى في المؤخّرة لأنّ ذلك أكثرُ أمانًا؛ فلقد سقط للتوّ جنديُّ المقدّمة في حفرةٍ عميقةٍ مليئةٍ بالماء، ثم خرج منها وخوذتُه مليئةٌ بديدان العلق. وفوق ذلك كان يمسك في يده بسمكةٍ تبدو عليها ملامحُ الدهشة. ولمّا عاد، حاول ماكْ أن يعلّمَه كيف يتجاوز سقطتَه ليبدوَ بمظهر المتبجِّح. لكنّه لم يكن يحبّ العلكة.

 

XIII

تلقّيتُ للتوّ رسالةً من جاكلين. لا بدّ من أن تكون قد عهدتْ بها إلى أحد الجنود كي يرسلَها بالبريد، لأنّها كانت ضمن أحد المغلّفات الخاصّة بالجيش.

حقًّا إنّ هذه الفتاة غريبةُ الأطوار؛ ولكنْ ربما جميعُ الفتيات هكذا، ولديهنّ أفكارٌ غيرُ اعتياديّة.

لقد تراجعنا قليلًا منذ الأمس، لكنّنا غدًا سنتقدّم من جديد. ليس أمامنا غيرُ تلك القرى المهدَّمة عن بكرة أبيها، وهذا أمرٌ يبعث على الحزن والاكتئاب. عثرنا على مذياعٍ جديدٍ تمامًا؛ وها هم رفاقي يحاولون تشغيلَه، وأنا لا أعلم حقًّا إنْ كان ممكنًا تبديلُ لَمْبتِه ببقايا شمعة. أعتقد أنّهم أفلحوا في ذلك: فأنا أسمعُ الآن أغنيةَ تشاتانوغا تنبعث من المذياع؛ وهي أغنية كنتُ قد رقصتُ على أنغامها مع جاكلين قبل أن أغادرَ النادي بقليل.

أعتقدُ أنني سأردُّ على رسالة جاكلين إنْ أتيح لي الوقت. أمّا الآن فأنا أستمع إلى سبايك جونس. أحبُّ موسيقاه أيضًا، إلّا أنّني أرغب في أن ينتهي كلُّ شيء الآن كي أذهبَ وأشتريَ ربطةَ عنقٍ مخطَّطةً بخطوطٍ زرقاء وصفراء.

 

XIV

ها نحن نعاود الانطلاقَ في الحال، ونقترب مرّةً أخرى من الجبهة، فتنهمر علينا القذائف.

يبدأ المطرُ بالسقوط، والجوّ ليس بباردٍ حقًّا، وسيّارةُ الجيب تتقدّم بثبات. بعد قليل، ترجّلنا من السيّارة كي نتابع طريقَنا مشيًا على الأقدام.

يبدو أنّنا شارفنا على النهاية. ولا أعرف لماذا يقولون ذلك، غير أنّني راغبٌ في أن أبذلَ ما في وسعي لكي أخرجَ من تلك المحنة بأقلّ الخسائر؛ ففي أرض المعركة لا تزال هناك بعضُ الزوايا الحامية الوطيس، ولا يمكن أحدًا أن يتنبّأ كيف سينتهي بنا الأمر.

بعد خمسة عشر يومًا سوف أحصل على إجازةٍ جديدة. لذلك كتبتُ إلى جاكلين أن تنتظرَني. ربما أخطأتُ بفعلتي تلك، وعلى المرء ألّا يغترَّ بالمظاهر.

 

XV

 لا أزال واقفًا فوق اللغم. كنّا قد خرجنا في دوريّةٍ هذا الصباح، وكنتُ أمشي في المؤخّرة جريًا على عادتي. مرَّ رفاقي جميعُهم بجانب اللغم ونجوْا، أمّا أنا فأحسستُ بصاعقِه تحت قدمي، فتوقّفتُ متيبِّسًا.

لا تنفجر الألغامُ إلّا إذا رفع المرءُ ساقَه عنها. رميتُ إلى رفاقي بكلِّ ما أحمله في جيوبي وطلبتُ إليهم أن يبتعدوا، وها أنا وحيدٌ فوق اللغم. كان في وسعي أن أنتظرَ نجدتَهم، لكنّي آثرتُ ألّا يعودوا إلي. وكان في وسعي أيضًا أن أرميَ بنفسي إلى الأمام وأزحفَ على بطني، غير أنّ إحساسي بأن أعيش مبتورَ الساقين أرعبني. لم أحتفظ إلّا بدفتر جيْبٍ صغيرٍ وقلم، وسوف أرمي بهما بعيدًا قبل أن آتي بأيّ حركة. لا مفرَّ لي من فعل ذلك، فإنّي سئمتُ الحربَ، ونمِلتْ ساقي.

وضّاح محمود

مترجم من سوريا.