باريس في قصائد الكوبي فيّاض خميس (1 من 2)
12-07-2021

 

 

مقدّمة

فيّاض خميس بيرنال Fayad Jamís Bernal (1930-1988)، الملقّب بـ"اِلمورو" لأصول والده العربيّة، شاعر وفنان تشكيليّ ومصمِّم جرافيكيّ وإعلاميّ ومترجِم ودبلوماسيّ كوبيّ. وُلد في ضيعةٍ شمال المكسيك. كان والدُه، يونس خميس، راعيًا في جنوب لبنان، قبل أنْ تُبحِر به سفينةُ الهجرة إلى مخبّآت الآتي. أمّا والدتُه، كونثيبثيون بيرنال، فتتحدّر من أسرة مكسيكيّة هنديّة.

وصل خميس إلى كوبا ابنَ ستّ سنوات، مع عائلته التي شرعتْ أوديسيتها في إثر لقمة الخبز، تتقاذفها الفلواتُ خلف عربة الأب البائع الجوّال. إلى أنِ استقرّتْ سنة 1943 في قرية غوايوس، وسطَ كوبا.

خصّص يونس خميس إحدى حُجرات الدار لتكونَ دكّانًا يبيع فيه ما تيسَّر من احتياجات الضيعة التي طَغَتْ عليها الفاقة، وتمحورتْ الحياةُ فيها حول زراعة قصب السكّر.

من بين أولاد الأسرة الستّة، تفرّد الابنُ البكر فيّاض بحساسيّةٍ خاصّة. ويقال إنّ ربّ الأسرة رأى فيه نباهةً مفارقةً عن بقيّة العائلة، وعلّق أخوه الأصغر مصطفى على تلك الذاكرة: "في طفولتنا، كان والدي يحبّ فيّاض كثيرًا، لأنّه كان يبتكرُ الأغاني وينشدُها بالعربيّة، ويؤكِّد له أنّه حين يكبر سيكون مثله. لم يتكبّدْ أخي فياض مشقّةَ قطْع قصب السكّر مثلي؛ فقد كُلِّف بحساباتِ الدكّان بعد فراغه من الرسم وكتابة القصائد."

في عام 1949 أنجز فيّاض خميس مجموعةً شعريّةً عنوانُها بوصلة Brújula. ومعها بدأ أوّلَ الخطو نحو التَحقُّق. ولكنّ هذا التَحقُّق لم يتوافقْ مع تطلُّعات الأب. ذلك أنّ البيّاع اللبنانيّ المولد، الكوبيّ الدار، شبهَ الأميّ، وجد نفسَه أمام ابنٍ حالمٍ في عائلةٍ تصارع البقاءَ والانتماء وعَنَت السؤال. وفي خريفِ العام نفسه، بعد قراءة ديوان بابلو نيرودا، عشرون قصيدةَ حبّ وأنشودة يائسة، وعقب مشاحناتٍ عائليّة معتادة، اعترف فيّاض لوالده بأنْ لا طَاقة له على مَسْك دفاتر الدكّان. فغادر القرية، وأسلم قيادَه إلى بوصلة حواسّه، واستقلّ البوسطة باتجاه العاصمة. ومن يومها، غدتْ هافانا مأوًى فرّخ من روعه، ونفذ إلى كيانه ودوافع وجوده إلى آخر العمر؛ فمؤثِّرات المدينة كانت بعيدةَ الغور في تكوين الشابّ القادم من المُنْتَأى الريفيّ إلى المركز. بدايةً، التحق بالأكاديميّة الوطنيّة للفنون الجميلة، سان اليخاندرو، ليَهْجرَها بعد عامين بسبب رفضه شرائعَها التعليميّة، فضلًا عن تردّي وضعه الماديّ. وفي العام 1951 انضمَّ إلى لفيفٍ من الفنّانين الناشطين، وشكّل معهم "عصبة الأحد عشر" El grupo de los Once، وهي جماعة شبابيّة حداثيّة متمرّدة على المتواضَع الفنّيّ المكرَّس والقيم الأكاديميّة. وإلى فنّانيّ هذه العصبة يعود الفضلُ في إدراج تيّار التجريديّة في الجزيرة الكاريبيّة، واعتُبر فعلُهم التاريخيّ في تلك المرحلة مغامرةً مثاليّة لأنّهم كانوا على وعي تامّ أنّ منجزَهم الإبداعيّ لم يكن مقبولًا في السوق؛ فلا رواج ولا عائد مادّيّ له، ولكنهم أصرّوا على فعله لإيمانهم به.

في العام 1953 تزوّج نيباريا تيخيرا (1929-2016)، شريكتَه في الطليعة الكوبيّة وقتئذٍ، وهي التي ستكتب لاحقًا رواية الوهدة El Barranco (1959) عن الحرب الأهليّة الإسبانيّة وسجون فرانكو. وفي العام التالي تمكّن من السفر إلى باريس، التي سبقتْه إليها زوجتُه بعد حصولها على وظيفةٍ في السفارة الكوبيّة. ومن زواجهما، الذي لم يستمرّ أكثر من خمس سنوات، أنجبا ابنتَهما الكاتبة روضة خميس (1955-).

قبل أنْ نشدّ قلوعَ الرحلة مع الشاعر إلى باريس، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ خميس كان قد انخرط في المناخ الأدبيّ الأهمّ في هافانا، والذي تميَّز بفعلٍ سجاليّ قامت به جماعةُ مثقفين التفّوا حول مجلة أوريخينيس Orígenes (أصول) التي كان على رأسها الشاعرُ المرموق خوسيه ليثاما ليما (1910-1976). وهذه الدوريّة الفصليّة (1944-1956) ضمّتْ نواتُها التأسيسيّةُ شعراءَ ونقّادًا ورسّامين وموسيقيّين، وشملتْ مروحةُ اهتماماتها الثقافةَ الكوبيّةَ والأمريكيّة اللاتينيّة والعالميّة، وظهرتْ فيها دراساتٌ نقديّةٌ ومقالاتٌ فنّيّةٌ تشكيليّةٌ ومسرحيّة، ومواضيعُ عن فلسفة الجمال والموسيقى، وتعريفٌ بأهمّ التيّارات المعاصرة الأوروبيّة حتى ذلك الوقت، ونصوصٌ إبداعيّة لأهمّ الأسماء الكوبيّة والأمريكيّة اللاتينيّة والعالميّة. ولعبتْ أوريخينيس دور مؤسسة حداثيّة مرموقة في الترويج للمواهب الشبابيّة، وترجمةِ أهمّ المؤلفات. وفي إطار توجّهاتها (عام 1952) أصدر الشاعر ثينتيو بيتير (1921-2009) أنطولوجيا بعنوان: خمسون عامًا من الشعر الكوبيّ (1902-1952)، وفيها تُختتم المختاراتُ بأشعار الشابّيْن فيّاض خميس وروبيرتو فرنانديث ريتامار (1930-2019). ووسط هذا الغليان الشعريّ الحداثيّ، ليس بمستغربٍ أنْ يُصدر فيّاض خميس في هافانا سنة 1954 ديوانَه، الأجفان والغبار، الذي يقدّمه بعبارةٍ لرامبو مقتبسةٍ من قصيدة "الصوان" Le Buffet (1870): "Quand s'ouvrent lentement tes grandes portes noires" ("آن تتفتّحُ ببطءٍ أبوابُك السودُ الكبيرة").

يمكن أنْ نطلقَ على هذه الفترة في سيرة خميس "مرحلة أوريخينيس." إذ لا يمكن نكرانُ تأثير الحساسيّة المميّزة لعموم شعراء هذه المجلة في ديوانه المذكور من خلال الرمزيّة الهرمينوطيقيّة/ التأويليّة، وتلازم التجربة الشعريّة مع المفهوم الهايديغريّ بأنّ "الوجود في العالم هو وجودٌ لغويّ." وفي معرض الحديث هنا، لا بدّ من التأكيد أنّ ليثاما ليما هو الأب الروحيّ الذي لم تنقطعْ صلةُ خميس به، وامتدّ التعاونُ بينهما مدى العمر رغمًا عن (بل ربّما بسبب) موقف ليثاما ليما وشرف انزوائه بعيدًا عن تداعيات طبائع السلطة.

أمّا في باريس فقد احتكّ فيّاض خميس بالأجواء الثقافيّة الطليعيّة ما بعد الحرب العالميّة الثانية، وداوم على ارتياد المقاهي والحانات حيث تجتمع حلقاتُ الأدباء والفنّانين المقيمين والمهاجرين إلى عاصمة النور. وقد تركتِ السنواتُ الباريسيّةُ في الشاعر الكوبيّ الشابّ أثرًا مهمًّا طبع خبرتَه الحياتيّة وتوجّهَه الأدبيَّ ببصمةٍ لا يمكن تجاهلُها، بل تتبدّى كما لو أنّها بلورت البعدَ الثوريَّ في شخصه. ولهذه المرحلة ينتمي ديوانُه الجسور Los puentes، الذي يبوح باستيعاب مروحةٍ واسعةٍ من الفنانّين والشعراء. فعلى حدٍّ سواء مع المنجز الشعريّ في الأربعينيّات والخمسينيّات، يمكن تلمّسُ تمرّداتٍ نصّيّةٍ تعود بجذورها إلى بودلير، وأبولينير، والفرد جاري، ولوتريامون، حتى الشاعر فرانسوا فيّون من القرن الخامس عشر، إلى جانب أشعارٍ تدلّ على قوّة التعايش مع معاصريه مثل بول إليوار، وبنجامين بيريه، وتريستان تزارا، ومع أندريه بروتون وتوجّهاته السورياليّة. لكنّ هذا التأثّر بالمنجَز الثقافيّ الفرنسيّ لا يعني القبولَ بتعاليه الإبداعي، بل أخضعتْه أنا الشاعر المقاومةُ لسيرورة جدلٍ نقديّةٍ ومعرفيّة ترفض السلبَ في لقائها ثقافةَ "الآخر" وثقافتَها في آن. ولعلّ تأثّرَه بالتمرّدات الشعريّة والفنّيّة المتنوّعة يتمثّل في تحرّر شعريّته في هذه المرحلة من المقياس المكرَّس، ورغبتِه في إنتاج الكلام الشعريّ الخاصّ بصوته، وتوضيح موقفه في حضرة الحراك الشعريّ العالميّ.

هنا أشير إلى شعورٍ عميقٍ صرّح به فيّاض خميس في لقاءاتٍ عدّة معه، ألا وهو مساكنةُ "الأجنبيّ" "المفارق" له: فهو ابنُ مهاجرٍ لبنانيّ وأمٍّ هنديّة مكسيكيّة، ابنُ الهجنة المتحدّرُ من "التابع" و"التابعة" بامتياز، ابنُ الحضيض الاجتماعي والانشطار والتجاذب، ابنُ المساءلة عن "هويّة" غير مكتملة ... بل معنى اكتمالها في سيرورة تكوينٍ تراكميّ جدليّ مستمرّ. ومن مقاربته هذه بزغتْ كيفيّةٌ إبداعيّةٌ هجينةٌ خاصّةٌ بهذه الذات المقاومة، وبمواقفها من مختلف المؤثِّرات التي تمثّلتْها وأعادت إبداعَها ومهرتْ عليه توقيعَها في قصائد الجُسور.

و"الجسور" تكاد تكون مرادفًا لـ"التخوم" التي تتحاور عندها القصائدُ وهي تُفكّك خطابَ الهيمنة والسرديّات الشعريّة الكبرى؛ وصولًا إلى تفكيك أوصال الشكل النصّيّ عمدًا، وتقطيع ولصق الصور بتقنية الكولاج أو المونتاج السينمائيّ، وتركها متعالقةً ومتداخلةً في بنيةٍ لغويّةٍ غير متماسكة، تغيب عنها علاماتُ الترقيم بالكامل، انسجامًا مع فحوى التشرّد وحياةِ الرعاع، ومعنى البوهيميّة الفوضويّة الرافضة للمتواضَع الاجتماعيّ وإشاراتِ مروره ولغتِه وعلاماتِ ترقيمها. إضافة إلى ذلك، فإنّ هذه الشاكلة الجماليّة كان لها دورٌ مهمٌّ في حثّ القارئ على إعادة تركيب الجملة السياقيّ، وتوريطِه في بناء العبارة الشعريّة.

وعليه، يمكن اعتبارُ قصائد الجسور حوارًا يخوضه الشاعرُ مع واقعِ باريس، والاتجاهاتِ الأدبيّة والفكريّة فيها. ويكاد هذا الحوار أن يكون سيرةً ذاتيّةً، أو يوميّات اللابطل: طريدِ النخب المكرَّسة، جوّابِ الآفاق المتسكّع، جَوّالِ شوارع "مجتمع الفرجة" وضفافِه المعرفيّة. ولا يكتفي هذا الحوارُ بأن يكون أحاديَّ الاتجاه، بل يتعدّد وهو ينشطر، ليستبطن حوارًا دفينًا مع أمريكيّته اللاتينيّة، بل مع كوبيّته بكلّ هجنة تشابكاتها العرقيّة على المستوى الجمعيّ والفرديّ.

هكذا، يستحضر الأجنبيُّ "أناه الخلاسيّةَ الكوبيّةَ" أمام هذا الكون المدينيّ الآخر، ويتركها تجادل حول ما تستقبله حواسُّه وأفكارُه، إلى أن يتعرّف من جديد إلى أناه المقتلَعةِ الجذور، والآخذةِ في التجذّر عبر التحوّل ومراكمةِ الدُربَة الشعريّة. لكلّ ذلك، يتّكئ الشاعرُ الأجنبيّ، الذي يطوف المدينةَ، على الشكّ في النظام المستقرّ. وبمعونة الصمت، يُوقِّع الكلامَ، مستبطِنًا السخريةَ من حضارة المتروبوليتان وأزمنتها الحديثة، ومناصِرًا الصعلكةَ وأهلَ الحضيض، في مشهديّةٍ شعريّةٍ مغايرةٍ للفتشيّة الأيقونيّة والفردوسيّة المكرّسة لباريس في القارة اللاتينيّة. فمن انطباعه كبوهيميّ، تُرى المدينةُ في قصيدته مضطربةَ الأنوار والألوان والسيمياء، خصوصًا حين يُسلِّط الضوءَ على الأحياء الشعبيّة التي تُساكن البؤسَ والتعاسة.

في أوّل يوم من العام 1959 تلعلع إذاعاتُ الدنيا معلنةً انتصارَ شباب الثورة في سانتا كلارا، وفرارَ الديكتاتور باتيستا. تلقّى فيّاض خميس، الذي كان قد لجأ إلى قبوٍ في "البيت الكوبيّ" في باريس لسوء حاله ومَحاله، الخبرَ غيرَ مصدِّقٍ. وفي شهر شباط يتناهى إلى علمه أنّ الخطوط الجوّيّة الكوبيّة تسيِّر رحلاتٍ مجّانيّةً من مدريد إلى هافانا، لنقل أهلِ الأمل بالثورة إلى موطنهم. فيسافر إلى إسبانيا، وينتظر أوّل فرصةٍ سانحةٍ - بسبب ازدحام العائدين - كي يستقلَّ الطائرة ويحلّقَ إلى كوبا.

بعد العودة من باريس في آذار 1959، ساهم فيّاض خميس بذاته الشاعرة في الثورة. واشتغل في أعمال عدّة، أذكر منها: التعليم في مدرسة الفنون الوطنية كوباناكان؛ وإنجاز أنطولوجيا الشعر الشابّ في كوبا (1959) بالتعاون مع صديقه الشاعر روبيرتو فرنانديث ريتامار وتكليف من أليخو كاربينتير (1904-1980)، والمشاركة في فعّاليّات "الاتحاد الوطنيّ للكتّاب والفنّانين في كوبا،" ونشر العديد من دواوين الشعر (التي عادت لها علاماتِ الترقيم)، ومقالاتٍ نقديّة في دوريّات ومطبوعات داخل كوبا وخارجها. كما كتب تقديمًا لبعض الكتب، منها تقديمُه لترجمته رسائل فان غوخ إلى أخيه ليو. وصمّم أغلفةَ العديد من المؤلَّفات والدواوين (لنيرودا، روكيه دالتون، ليثاما ليما، كاربينتير ... إلخ). وعمل في ترميم فسيفساء المتحف الوطنيّ. وأقام معارض تشكيليّة متنوّعة، أو ساهم فيها. وشارك في تحرير مجلّات عديدة. وترأّس دارَ نشر وتحرير مجلة أونيون Unión (صدرت عنها سنة 1966 رواية خوسيه ليثاما ليما الشهيرة فردوس Paradiso بغلاف من تصميم خميس). وترجم لشعراء عدّة، مثل بول إليوار. ونشر مختارات شعريّة مثل تلك التي أنجزها وقدّمها للشاعر الهنغاريّ آتيلا جوزيف.

فيما بعد، أوفِد فيّاض خميس ليشغلَ منصبَ المستشار الثقافيّ في سفارة كوبا في المكسيك (1973-1985). وقد وصّف البعضُ هذه الفترة بسنوات "المنفى الدبلوماسيّ" -- وهذا يستدعي بحثًا بيوغرافيًّا معمَّقًا حول تفاصيل معنى "المنفى" في هذه الحالة، وطبيعة علاقة الشاعر بالسلطة الكوبيّة، وكيفيّة "ثوريّة" فيّاض خميس التي ما برح يؤكّدها وأعلنتْ عن نفسها بوفاء من خلال ديوان في سبيل هذه الحرية (1962). هذا الديوان نال جائزة "دار الأمريكيتيْن" (الوسطى والجنوبية)، وفجّر سجالًا نقديًّا حول الكتابة الشعريّة وعلاقتها براهنيّة متطلّبات المتلقّي من جهة، وكتابةِ السلطة الثوريّة من جهة أخرى؛ بل يمكن القول إنّ القصيدة التي تحمل عنوانَ الديوان ولجتْ إلى الوجدان الشعبيّ وذاكرة الكوبيين رغمًا عن نسيان قائلها. وفي كلّ الأحوال فقد تابع فيّاض خميس النحتَ على تنويعاتِ كتابته وكيفيّتها الشعريّة. وما انفكّ يصارع استحالته إلى مثقف بيروقراطيّ، مؤكّدًا أنّه محضُ شاعر يحاول النطقَ بالشعر وحياكة الجميل.

بعد عودته من المكسيك، حصل على ميدالية اليخو كاربينتير "من أجل ثقافة وطنيّة" (1988)، تقديرًا له كمواطن كوبيّ ساهم في رفع شأن الثقافة الكوبيّة.

وقبيْل وفاته، أفضى إلى أحد أصدقائه بتوقه إلى ركوب البوسطة والمرور على المرابع الريفيّة التي عاش فيها طفولتَه ويفاعتَه.

مات وحيدًا في المشفى يوم 12/11/1988. وبحضور شابّةٍ حبيبة وصديقٍ شاعر يُوَارى جثمانه الثرى بلا حسٍّ يُذكر في مدينة الموتى في هافانا. ومرّتْ سنواتٌ على وفاته، إلى أنْ كُرِّم سنة 2014 بنقل رفاته إلى لحدٍ مفردٍ يحمل اسمَه والرقم 27 في مقبرة قريته، غوايوس.

من دواوينه: بوصلة (1949)، الأجفان والغبار (1954)، ينيرون. سبتٌ جاف (1954)، متشرّد الفجر (1959)، أربع قصائد في الصين (1961)، الجسور (1962)، في سبيل هذه الحريّة (1962)، انتصار بلايا خيرون (1964)، أجساد (مختارات، 1966)، فتحتُ بوّابة السياج الحديديّ (1973)، رمي الجِمار (منتخبات شعريّة، 1951-1973)، حكاية رجل (بعد وفاته، 1995).

تشمل المختارات الشعريّةُ قصائدَ من الجسور، المكتوب في باريس منتصفَ الخمسينيّات، إضافةً إلى قصيدتيْن كُتبتا في الستينيّات بعد عودته إلى كوبا.

***

 

مُتشرِّد الفجر

صباحُ باريس الشاحبُ ينبلجُ فوق كاهلي1

بعد الليلِ الطويلِ هذه النسمةُ هي حبّي

أوراقُ الخريفِ العسليّة تتطايرُ على الطرقاتِ

على الأرصفةِ فوق رؤوسِ المتسوّلين

لا يزالون نيامًا امرأةٌ تستيقظ تتناولُ                                                                                                          

      قلنسوة

كانت عندَ أقدامِ نائمٍ وتغطّي بها وجهَهُ

حُنُوّ هذه المرأةِ تحت أسمالِها السودِ الرَثّة

كما نُوّارَة النهار الناصِلة كما اليمامة

المحلِّقة فوقَ سينٍ من دخانٍ من زجاجٍ من فضّةٍ

...

هكذا هو الشروق هنا أؤكّدُ لكَ أنّه الخريف الآن

هكذا هو الفجر المدينةُ ميّتةٌ يمكن أنْ

      تُجَسَّ عِظامُها

ولن يتفوّهَ أحدٌ بحرفٍ الشرطةُ نائمةٌ آذانُها من فلّين

القوانينُ نائمةٌ البؤسُ يغفو أنا أمشي أمشي

أوّلُ رجلٍ في هذا اليوم الجديد كما لو أنّ المدينة

      امرأتي

وأنا أتأمّلُها نائمةً عاريةً من ظهرها

      تولدُ السماء

...

هذه هي باريس أؤكّدُ لكَ أحيانًا يُخيَّل إليَّ أنّي أجوبُ

      عالمًا ميّتًا

بعد آخرِ قنبلةٍ ميّتةٍ حتى الأمل

فهمي على قدِّه لكنّي أشعرُ قليلًا أنّني روبنسون

      كروزو

روبنسون هذه المدينةِ المروّعة الأخّاذة الكبيرة التي

      تُدعى باريس

القططُ تَبْرُزُ من كلّ وِجْهَةٍ صباحُ الخيرِ حاوياتُ

      القمامةِ ممتلئةٌ

ألعابٌ خَرِبَةٌ ثمارٌ متعفّنةٌ بذلاتٌ أوراقٌ منخورةٌ

ورقٌ حيث النسيان تركَ نُدُوبَه الداكنةَ

العالمُ الحضارةُ كلُّها ماتتْ أنا والقطط

      نجونا مانزال على قيدِ الحياةِ

بإطلالةٍ على واحدٍ من هذه الجسورِ سأنتقي بيتي

لعلّهُ ذاكَ الذي لنافذتِه ستارةٌ حمراء

أو الآخر الذي يتقدّمُ نحوي كما لو أنّه يريدُ إلقاءَ تحيّةِ الصباح

...

لكنْ لا ليس صحيحًا خلفَ كلِّ هذه الجدران بشرٌ                               

      يتنفّسون يشخرون ويحلمون

بشرٌ لعلهم يتذكّرون صرخةً مفقودةً في وادي

      الدهر الفيروزيّ

بشرٌ لعلّهم يفكِّرون بموديلاتِ

      السيّاراتِ الجديدة

بعملِهم بالحُبِّ ربّما بالموتِ

...

تلك البقعةُ السوداء التي يجرفُها تيّارُ الهواءِ هي كرتونةٌ 

ظننتُها سلحفاةً حسبتُها غَرْقَان

وليستْ سوى علبةِ كرتونٍ تطفو حولها ثلاثُ أوراقٍ

كثلاثةِ قلوبٍ عسليّةٍ كثلاثةِ رموزٍ خريفيّة

الأشجارُ تنبثقُ منَ النهر كما انبثاقُ الدخان منَ السجائر

حمامةٌ أخرى تحوِّم ظلّها الأبيض فوق الماءِ الرماديّ

المباول لها الجمال الماكر لبعضِ كنائس

      قشتالة

سأدخلُ إليها لأقضي حاجةً بينما أُفكّر

بينما أنزّهُ حبي أيْ لا أحد

العالمُ هو هذه الأوراق

إشاراتُ المرورِ تفسحُ الطريقَ للقططِ للنسيمِ

على جبين الغُدْوَة الشاحب هذه الأنوار العنبريّة2

...

عَشيّة البارحة تحدّثوا عن الحرب دائمًا الحرب

جثثٌ زبدُ الأبديّةِ جثثٌ

على أنّ جُلّهم لا يدري على سبيلِ المثالِ عذوبةَ الحُرّيّة

      في هذه الأويْقاتِ

التي تحضرُ فيها عربةُ بائعِ الحليبِ البيضاء تجرُّها

      أحصنةٌ بِيض

(...) فتاةٌ حدثتني عن الشبابٍ في بلدها

هي لا دينَ لها هي تحبُّ باريس وتحبُّ العالم

غدًا سيكونُ لنا جميعًا الوجهُ البرونزيُّ نفسُه

      وسنتحدّثُ اللغةَ ذاتَها

غدًا وإنْ لم ترغبْ أيّها السيّدُ الجنرال أيّها السيّدُ التاجر                                            

أيّها السيّد بنظّاراتٍ سلكيّةٍ ورماد

قريبًا الحياةُ الجديدة الإنسانُ الجديد سيشيّدان مدنَهما

فوق عظامكم وعظامي وغبار

      نوتردام

مِن أوّلِ مخبزٍ يفتحُ أبوابَه سأشتري رغيفَ خبزٍ كبيرًا

مثلما كنتُ أفعلُ في بلدي فقط لا يرافقني

      أصدقائي الآن

ولم يَعُدْ عمري عشرين سنةً

وإلّا لكنتُ رأيتُ كلَّ هذه الظلال بألوانٍ مغايرة

لكنتُ صفّرتُ لكنتُ استحضرتُ ذكرى

      صبيّةٍ حنطيّةِ البشرة

 حاصلُه كلُّ هذه الأشياء تُترَكُ خلفًا                                                                                                                                                                                       

الآن ما يعوَّلُ عليه هو الشغلُ منْ أجل المعيش

بضعةُ عصافيرَ انبرتْ تزقزقُ الأوراقُ الجافّةُ تتساقطُ

سأبتعدُ عن النهر عن الزوارقِ عن الجسورِ البيض

كما لو أنّ هذه الأبنية ستنهارُ فوق رأسي

تستحيلُ إلى حدباء بمرورِ الزمان

شارع شات-كي-بيش يجعلني أتخيّلُ قصصًا رهيبةً

لكنْ من الأجدى المتابعة هو الفجرُ هو الفجرُ

اليدان في الجيب أواصلُ أواصلُ

جزّاران يقصبان نصفَ بقرةٍ بالساطورِ

ما منْ متعةٍ في هذا رغم ذلك يروقُ لي النظر

روحي ماتزال على نحوٍ ما جزَّارة نحن في سنة 1956

ربّما في الغد لن يكونَ الأمر كذلك ربما لن يكونَ هناك

      جزّارون ولا جلّادون

قلبي جزارٌ قليلًا مشنوقٌ قليلًا

قلبكَ وقلبكَ الآخر سيغدوان غبارًا ماءً ريحًا

بالنسبة إلى عبّادِ الشمسِ الجديدِ

كلُّ بزرةٍ أشبهُ بنحلةٍ نائمة

...

اليومُ الشاحبُ كان أبيضَ الآن مشرَبٌ بالصُفْرَة                                                                                                                                                                                                                                

بِضْعُ مدافئ يبدو أنّها ستُوقدُ

يمرُّ جنديٌ بحقيبةٍ ضخمةٍ

باتّجاه محطّة ليون باتجاه مصر الموت3

تمرُّ امرأةٌ على دراجةٍ هوائيّةٍ متّجهةً إلى عملها

عندما يصلُ نورُ الشمسِ إلى الركبة أسوةً بارتفاع السنابل

امرأةٌ تداومُ الذهابَ إلى عملها على مدار العمر

تعْبرُ شاحنةٌ محمّلةٌ بالنبيذِ وجلبةِ الفجر

ها قَد بلغتُ شارعَ سان-جيرمان أتطلّعُ إلى واجهاتِ

      المكتباتِ

في يومٍ ما سأشتري قاموسًا جيّدًا وأعمالَ رامبو

      الكاملة

العديدَ من الكتب الأفضلُ عدمُ الاسترسال في الكلامِ عن ذلك

في كلّ مطرحٍ متسوّلون ينامون ذاك يبدو

      طفلًا

بين رأسهِ واسمنتِ الرصيفِ ما مِنْ شيءٍ إلّا رقاقةٌ مُتجلِّدة

لديّ رغبة في احتساء قهوةٍ بالحليب جائعٌ أنا

      وعطشان

طعمُ الفجرِ الأصفر رديءٌ في فمي

ها قد طفقَتْ باريس بالاستيقاظ لم أَعُدْ روبنسون

بل أجنبيٌّ بالأحرى شبحٌ

على نحوٍ أَدَقّ رجلٌ لم يُغمَضْ له جَفن

شريد المدينة والخريف والفجر

بينما يجب على حبّي أنْ يكونَ ناظرًا إلى قمم البيرو

أو إلى سماء الصين المُرصّعةِ

لستُ أدري قدماي تتعبان هذا كلُّ ما في الأمر هذا كلُّ ما في الأمر

بعد أنْ أحببتُ بديعٌ هو عَيْشُ

اليومِ الجديد

في المدينة والقلبِ يتوهجُ اللهيبُ نفسُه.

***

شارلوت والقَمَرة4

في أحياء ضواحي جنوب لندن أو بايامو5

القَمَرةُ والقِطط تلهو على الأسطح

لا ينعدم مَنْ يرميهما بحجرٍ لا ينعدم البتّة

مَنْ يريد رشقَ القمرة بأربعِ طلقاتٍ ناريّةٍ ولكن أيضًا

ثمّة رجالٌ آنَ يكتشفونها في الأعلى إلى جوار برميل

      الزبالةِ

يهبطون السلالمَ هَفيفًا نحو بار الناصية

ليضعوا أسطوانةً في الغرامافون مقطوعةً غائمةً قليلًا

يمكنُها أنْ تكون عذوبة الربيع أو عطف

      لواحظ شاردةٍ أبدًا                             

...

أحيانًا يعبرُ شحّاذٌ مترنّحًا بهِلالٍ                                                                   

      من القَمَرة

على الرأس المحاطِ بالذبابِ

صبيانُ الحيّ يأخذون بالصياح عليه:

يه خلّابٌ إكليلُكَ الفضّيُّ أيّها الملك!

سنبتاعُ لكَ قنّينةً أخرى"

والشحاذُ

بعد أن رقصَ فالسًا بطيئًا

يتَرَدّى أخيرًا على مرآة الرصيف القذرةِ

بجواره كانت القَمَرةُ تتراقص كقطّةٍ مقرورةٍ

...

في أحياءِ ضواحي الشمال في شواطئ كوبا

أو عند بابٍ منخورٍ في حيّ باييكاس

      في مدريد6

آنَ أحدُهم يُخرِجُ كلبَه للتبوّلِ أو عندما

      ينشرُ

قميصَهُ الوحيدَ لريحِ الليلِ

القمرةُ تلوحُ فوق عمودِ كهرباء

حينئذٍ أحدُهم يأخذُ بالغناء:

لآن لستُ وحيدًا جدًّا

في هذه الدنيا..."

في أحدِ المطابخِ يَقْلون شريحتيْن من سمكِ المرجان

رائحةُ البصل تُعيدُ أدراجَ الشرطيّ الذي يروحُ ويجيء

في الشوارع بينما هو ينتظرُ تَبَدِّي أوّلِ لصٍّ

بعينيْه الصغيرتيْن الكئيبتيْن

مع شوالِهِ الكبير تحت نافذةٍ مطفأة

...

شَواربُ شارلوت الضئيلة تنطُّ كبرغشةٍ مهتاجةٍ

لكنْ مالكُ سمكِ المرجانِ لن يَدَعَه يمرّ

كلُّ هذه الحيطان كلُّ هذه الدهاليز

سلالمُ متّجهةٌ نحو الغبارِ والليلِ

تعجُّ بكائناتٍ بشريّة تريدُ الأكلَ والعيش

رغمًا عن شِباكِ العناكبِ أو الطعنِ في الظهرِ

تريدُ العيشَ

حتى عظامُ العجائز الملتوية

تريدُ العيشَ

في هذه اللحظة بالذات تنسابُ القَمَرةُ على جبينِ التعساء

وتمرقُ طائرةٌ وهي تَئِزّ نحو قارّاتٍ أُخَر أو نحو

شطآنِ الخواء

...

على قاورةٍ فارغةٍ                                                                                                                       

يتواثبُ الصغارُ

على دميةٍ من خِرَقٍ

فوق الوجهِ المحمرِّ لكلّ طغاةِ العالمِ

يتواثبُ الصغارُ

عصافيرُ المطرِ النثيثِ عصافيرُ الشمسِ

هم القديرون على الذهاب حتى زُحَل

على رقبَةِ زرافة

هم مَنْ يعرف تشييدَ مدينةٍ

مِنْ بضع كِسَرٍ من زجاجٍ ووحلٍ

قباطينُ المراتعِ القَفْر

المتهوِّرون صيّادو

وحوشِ ما قبل التاريخ الضخمة

مَنْ يَحفظون أحيانًا في عُلَبِهم

كلَّ شيءٍ ما دام يَلْزم لشراء المثلَّجات

...

شارلوت مقيمٌ هناك يحلمُ بين الصغار

حذاؤه يتعثّرُ في كلِّ الأمكنةِ

شارلوت مقيمٌ هناك الجنادبُ تكفُّ عن الصريرِ

من القمرة تبزغُ اثنتا عشرة حمامةً

تأتي لتحوِّمَ فوق جوقةِ الذين يلعبون

حتى إنّ إحداهنّ تحطُّ على قَدَمِ شارلوت اليسرى

"عاش الليل في باحاتِ البيوتِ الخلفيّة

عاشتْ أفراخُ الحمامِ الزجاجيّة!

عاش نَفْحُ الأشجارِ عاشتْ مثلَّجاتُ الفراولة"

ذاك سيدفنونه في الفَلا

وذلك الآخرُ سيتوّجونه

وذاكَ صاحبُ عينين مثل حبّاتِ الذُّرة

سيُجلسونه على كرسيّ كهربائيّ

إنّه نصيبٌ مقسومٌ

مَثَلُ الذي يتغذّى من الظلال فحسب ليس كَمَثَلِ الذي لديه عشرةُ مصانع

ومَثَلُ الذي وُلِد بمنخارٍ ضخمٍ ليس كَمَثَلِ الذي يقبعُ خلف شررِ امرأة

      أبيض

هناك في الأعلى القططُ تتشمّمُ

براميلَ القمامةِ

المداخنُ لا تأتي بأيّ دخان

أسطوانةُ الناصيةِ ستفرقعُ

كعُلْجومٍ عملاق

بينما حنجرةٌ من خشبٍ عتيق

تقولُ إنّ كلَّ شيءٍ سيعودُ ليبدأ

ومخبولُ البيتِ المواجه؟

والصبايا بعنقِ دربِ التبّانة؟

وسيجاري المشتعلِ بلا توقّف؟

تشارلوت يبينُ هناك في الحَضيض من جديد

ويأخذُ بالتصفير على إيقاع موسيقى مامبو7

بينما تبزغُ من قُبّعتِهِ القَمَرةُ قنديلُ الضاحيةِ

      العذب.

***

مشنوق مقهى بونابارت                                                                        

لِئَلّا يعرفَ هاويةَ الهَبَابِ

لِئَلّا يبتلعَ جرائدَ المساء

لِئَلّا يستعملَ نظّارةً مغطّاةً بالدماءِ أو بشبكةِ عنكبوت

مَنْ كان جالسًا في ركنٍ بعيدٍ عن المرايا

يرتشف القهوةَ لا يتسمّع إلى جهاز الأسطوانة

بل إلى هسيسِ قطراتِ المطرِ الواهنة

مَنْ كان جالسًا في ركنٍ بعيدٍ عن البرقِ

بعيدٍ عن الأُسُود الأرجوانيّةِ لكلِّ الحروبِ

صنعَ حبلًا من صفحةِ ورقٍ

كُتِبَ عليها اسمُ البابا اسمُ الرئيس

واسمُ ألفيْ مشهورٍ آخر

وعلى مرأًى من كلّ الحاضرين

علّق نفسَه على مِشْجَبِ القبّعات الذي كان يلتمعُ فوق رأسه

صاحبُ المقهى خرج متلفّعًا معطفَه الأسودَ في طلب الخفير

آرمسترونغ كان يغنّي بلا توقّفٍ القمرُ لاحَ

كقطرةٍ متهيّجةٍ فوق سطح القرميد

ثلاثة سكارى تبادلوا اللكماتِ عند طاولة البار

والمشنوقُ بعد أنْ تأرجح بعذوبةٍ لحوالي

      ربع ساعة

بصوتٍ متناءٍ

راحَ يلقي خطابًا فاتنًا:

Maintenant je suis pendu dans le Bona"

(الآن أنا مشنوق في مقهى بونا)8

المطرُ هو كوارتز بؤسي

السياسيّون يقرضون عكّازي

وإنْ لم أَشنقْ نفسي لكنتُ قَد متُّ

من هذا المرض الغريب

الذي يشقى منه الذين لا يأكلون

في جيوبي أجلبُ بطاقاتٍ ممعوكةً

كتبتُها بنفسي

لأُخادِعَ بها وحدتي

حنجرتي كانت ممتلئةً بالصمت

الآن ممتلئة بالموت"

...

"واقعٌ بحبّ المرأة التي تحفظ مفاتيحَ

      الليل

هي نظرَتْ في عينيّ من دون أنْ تدري مَنْ كنتُ

الآن ستعلمُ بقراءة قصّتي – كنشّالٍ - من

      الجرائد

ستعرفُ أنني كنتُ أُدعى لويس كريزيك

مواطنٌ من قلبِ الرجالِ الأحرار                     

وريثُ رمادِ الشفق

عشتُ كطيفٍ

بين الأطياف التي تحيا كما الإنسان

عشتُ بلا حقدٍ ولا كذب

في دنيا من قضاةٍ وظلال

الأرضُ التي ولدتُ فيها لم تكن لي

ولا الهواءُ الذي رقدتُ فيه

فقط امتلكتُ الحرّيّة

أيِ الحقَّ في التعذّبِ وفي ارتكابِ الغلط

في أنْ أكون هذا الجسدَ الباردَ

المتدلّي كثمرة

فوق مَنْ يغنّون ويضحكون

بين شطٍّ من بيرة

ومعبدٍ مَشيدٍ لعبادةِ الخوف

المرأة التي تحفظُ مفاتيحَ الليل

ستعرف أنّني كنتُ أعرج قليلًا

أنّني عشقتُها وكنتُ أُدعى لويس كريزيك

ستعرفُ أنّي لم أعدْ وحيدًا الآن وأنّ

عالمًا قديمًا سيختفي معي كلّيًّا ممحوًّا بالفجر

هكذا كما الضبابةُ التي تسحقُ أحيانًا

نُوّار الكرز

المواتُ سحقَ صوتي"

...

لمّا قفِلَ صاحبُ المقهى عائدًا برفقة شرطيّ من تنكٍ وكبريت

مشنوقُ مقهى بونابارت

لم يَعُدْ أكثرَ مِنْ هبابِ لفافةِ تبغٍ متمايل

تحت القبّعة

فوق فنجانٍ فيه ثُفْلُ قهوة

(يتبع جزء ثانٍ)

***

 

الهوامش

(1) تغيب عن عموم المختارت علاماتُ الترقيم، لذلك تركت الكلمات المكتوبة بحرفٍ كبير مشدّدة السواد.

(2) بالإسبانيّة يُنعت بـ"العنبريّ" ضوءُ إشارة المرور البرتقاليّ.

(3) تنطوي العبارة على إشارة إلى العدوان الثلاثي على مصر، فالقصيدة كُتبتْ سنة 1956.

(4) شارلوت هو اللفظ الإسباني لشخصيّة شارلو بالفرنسيّة، والتي قدّمها شارلي شابلن في السينما الصامتة.

(5) Bayamo هي البلدة الثانية التي أسّسها دييغو بيلاثكيث (1513) في كوبا بعد وصول كولومبوس. وهي واحدة من أهم المدن الكوبيّة تاريخيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا. تُعتبر رمزًا للنضال التحرّريّ منذ عهد السكّان الأصليّين، إلى كفاح العبيد، فحروب الاستقلال في القرن التاسع عشر. وشهدتْ ولادةَ المشاعر القوميّة، ففيها كُتِب وأُنشِد لأول مرة النشيدُ الوطنيّ.

(6) قبل 1950 كان حيُّ باييكاس بلدةً ريفيّةً قريبةً من مدريد، ومع توسّع العاصمة أُلحق إداريًّا بها. ويتميّز عمومُ ساكنته منذ القرن التاسع عشر بانتمائهم إلى الطبقة العاملة وميولهم اليساريّة، لذلك شكّل الحيُّ جبهةَ دفاع استراتيجيّةً عن مدريد أثناء الحرب الأهليّة (1936-1939)، الأمر الذي جعله عرضةً لهجمات ضارية من قِبل قوّات الجنرال فرانكو. وبعد الحرب أصبح الحيّ بؤرةً للحركات المناهضة للديكتاتوريّة. وفي الستينيّات، وبفعل الهجرة الداخليّة فالخارجيّة، أضحى أكبرَ فضاء مُفْقِر مجاور لمدريد رغم التحول الديموقراطيّ.

(7) Mambo من فنون الموسيقى والرقص الشعبيّ. موطنه الأصليّ كوبا حيث تطوّر بمؤثِّرات إيقاعيّة حملها زنوجُ هاييتي معهم من أفريقيا في القرن الثامن عشر إثر تجارة العبيد. والمامبو كلمة تعني بلغة الكيغانو الكونغوليّة "محادثة مع الإله." وتبلور المامبو في ثلاثينيّات القرن الماضي على يد الموسيقيّ الكوبيّ Arseno Rodrígez. وانتشر عالميًّا في عقد الخمسينيات، بدايةً في المكسيك ثم في الولايات المتحدة، ويُرى ذلك في ما يُعرف بـ"ثورة المامبو" كظاهرة ثقافيّة شعبيّة عابرة للحدود. وفي الثقافة العربيّة اهتم به الفنانُ السوداني سيّد خليفة (1931-2001)، حين أدى أغنية "المامبو ده سوداني" في حفل برنامج أضواء المدينة (1953).

(8) كلمة "بونا" اختصار لكلمة بونابارت.

اثير محمد علي

باحثة وناقدة سوريّة، مقيمة بين اشبيلية ودمشق. حصلتْ على لقب "دكتورة في المسرح" من جامعة آوتونوما في مدريد. من كتبها: منمنمات مسرحيّة: المسرح العربيّ في بلاد الشام ومصر خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين حتى الحرب العالميّة الأولى(بالإسبانيّة)؛ لبيبة هاشم وفتاة الشرق (بالإسبانيّة). كُلّفتْ من قبل مديريّة المسارح بإنجاز أحد كتب مهرجان دمشق المسرحيّ الثالث عشر، يوميّات مسرحيّة في الصحافة العربيّة (1897-1933) (بالعربيّة). صدر لها عن الهيئة العامّة لقصور الثقافة في القاهرة كتاب فسيفساء لذاكرة حاضرة: حوار المستعرب الإسبانيّ بدرو مارتينث مونتابث (إعداد وترجمة)؛ وعن سلسلة "إبداعات عالميّة" المجموعة القصصيّة سيدة أورتوبي وقصص أخرى (ترجمة للعربية بالمشاركة). تعمل منذ 2007 في هيئة تحرير مجلة الكلمة الإلكترونيّة لرئيس تحريرها صبري حافظ.

كلمات مفتاحية