مسار المقاومة ومصير الثورة
05-11-2019

 

بالأحمر، بالأخضر، بالأسود، بالأبيض علّيناه:[1] خفّاقًا على دوّارِ إيليّا في عاصمة الجنوب. أربعةُ ألوانٍ من الرياح الأربع التي تعصف بالشوارع، في قلب مشهدِ راياتنا الوطنيّة، وعلى اختلافِ ألوان المتظاهرين ومشاربِهم، وعلى مرأًى من معروف سعد، ومسمعٍ من هدير البحر في آذان الصيّادين، الذين تركوا خيباتِ العمرِ والقهرِ والفقر على ملح الرمل وأتوْا بصيحاتهم إلى الساحات.

المشهد عارمٌ على امتداد البلاد. من عاصمة الجنوب إلى عاصمة البلاد، تنتقل الأرجلُ والقبضاتُ والحناجر. هنا حطّت الثورةُ، وتشابكت الأيدي، وسقطتْ فزّاعةُ المؤامرة. بيروت في المساء تحتفل بالثورة. ومن وسطِ الساحةِ البيروتيّة التي ينهض فيها مجسَّمٌ ضخمٌ لقبضةٍ خُطّت عليها كلمةُ "ثورة،" ترتفع هتافاتُ التنديد بالعدوّ الإسرائيليّ، وتنطلق التحايا إلى صور والنبطيّة وطرابلس وذوق مصبح والبترون.

المشهد جذريٌّ وواضحٌ ومباشر.فيه تتلازم إرادةُ التحرّر الوطنيّ والقوميّ، بعنوانها الأبهى المتمثِّلِ في فلسطين، مع المطالبات الشعبيّة بمحاربةِ الفساد والمحاصصةِ وهدرِ المال العامّ وسوءِ الحكم وتخلّي الدولة عن الوظائف الاجتماعيّة الراعية لحقوق المواطنين.

المشهد جذريٌّ وواضحٌ ومباشر: لا تحرّرَ وطنيًّا بلا تحرّرٍ اجتماعيٍّ واقتصاديّ؛ لا يمكن أن تكون السلطةُ الفاسدة مظلّةً للمقاومة؛ "الحياةُ والنجاةُ والهناءُ والرجاءُ" معًا وبلا أولويّاتٍ ولا تجزئة؛ والوطن سيكون "سالمًا منعَّمًا وغانمًا مكرَّمًا،" يستقي شبابُه "من الرَّدى" ولا يكونوا للعدى "كالعبيد."[2] على امتداد الحناجر واتّساع البلاد، يصدح هذا النشيد.

ثورة 17 أكتوبر رَفعتْ رايةَ استعادة الأموال المنهوبة، وإسقاطِ حكم المصرف، وإزالةِ النظام الطائفيّ، وصونِ الرعاية الصحّيّة، وتأمينِ فُرص العمل، وضمانِ محاكمة الفاسدين ومحاسبتِهم، وإقامةِ نظامٍ ضريبيٍّ عادل. يجمع المشهدُ مطالبَ اقتصاديّةً ومدنيّةً واجتماعيّةً ملحّة، ولكنّها في الصميم حقوقٌ منتزَعةٌ من المطالِبين باستردادها، لا محضُ مطالبَ تستدعي "النظرَ" فيها والتحسُّبَ لـ"جدولتها" والمَنَّ ببعضها أو تأجيلَ بعضها الآخر. ولقد عكف النظامُ السياسيُّ القائم على مصادرة هذه الحقوق، أو إقرارِها بأشكالٍ فارقيّةٍ تعمّق الهوّةَ بين المواطنين - - سواء كان ذلك في سوق العمل أو الأحوال الشخصيّة أو الاستشفاء أو التعليم أو غير ذلك. فغدت هذه المنظوماتُ تميِّز بين الذكرِ والأنثى، والمقيمِ واللاجئ، والمسلمِ والمسيحيّ، وصاحبِ العمل واليدِ العاملة، وصاحبِ الحظوة والفقير، وابنِ الزعيم وابنِ العامّة، وجليسِ البلاط والمفرد على قارعة النظام السياسيّ الذي ينضح بالمحسوبيّة والفساد واستغلال النفوذ في شتّى المجالات.

 

ثورة 17 أكتوبر رَفعتْ رايةَ استعادة الأموال المنهوبة، وإزالةِ النظام الطائفيّ

 

هكذا أصبح السياسيُّ على تماسّ مباشرٍ مع المطلبيّ والاقتصاديّ – الاجتماعيّ. وارتبطت المطالباتُ الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بشكلٍ عضويّ وغير قابل للانفكاك، بالمطالبات السياسيّة التي تطول النظامَ ككلّ.

في منطقة الالتباس هذه، تكمن الشياطين: من مطلب "استقالة الحكومة" إلى مطلب"إسقاطِ العهد أوالنظام." وهنا قد يشتبه كلُّ شيء على كلّ الناس. لكنْ ما ليس مقبولًا البتّةَ إنّما هو خنقُ الانفجار الشعبيّ والمطلبيّ، ثمّ الزعمُ أنّ الثورةَ بأسْرها مؤامرةٌ - - هذا من دون أن ننفيَ وجودَ مَن يحاول استغلالَ الثورة أو استثمارَها لغاياتٍ مريبةٍ فعلًا.

لقد عَبَرَتْ هذه الثورةُ من "كهوف الشرق" الطائفيّة إلى شرق الدولة المدنيّة الجديدة،[3] لتهزَّ الأحزابَ الطائفيّةَ جميعَها. فلقد شعر المواطنون أنّ ما يجمعُهم هوالحرمانُ والإقصاءُ وانتقاصُ الحقوق، الأمرُ الذي وحَّد نقمتَهم على أطياف الطبقة السياسيّة كلّها.

لكنّ الثورة وضعتْ، أيضًا، أحزابَ المقاومة وجمهورَها أمام تحدٍّ كبير. فلم يعد جائزًا وضعُ المقاومة في موضع نظام "الحماية المتبادلة،" القائمِ على تحديد النفوذ في السلطة القائمة من خلالِ ما رَسَتْ عليه لعبةُ الحكم من إلزاماتٍ متبادلةٍ وتوافقاتٍ مرتّبةٍ ومعاداةٍ للشارع. الشارع يريد إسقاطَ السلطة، لا إسقاطَ المقاومة. والخطأ أن تركنَ المقاومةُ إلى "منطقة النفوذ" التي شغلتْها في النظام القائم منذ خروج القوّات السوريّة، فتمنعَ المسَّ به، ظنًّا منها أنّه سيقود إلى المسّ بالمقاومة. فالواقع أنّ الشارع - في عددٍ كبيرٍ من الساحات على الأقلّ - ينبض بالمقاومة بأبهى حللِها، وببعدٍ وطنيٍّ متجذّر، ومن دون ربطِه بأجندةٍ حزبيّةٍ ضيّقة. وقد وجد بعضُ الشباب، وبشكلٍ عفويّ، أنّ التلويحَ بالعلم الفلسطينيّ هو المكمِّلُ الطبيعيُّ للشعارات التي يرفعونها في قضاياهم الاقتصاديّة والاجتماعية؛ فمسارُ القضايا المحقّة تُتوِّجُه قضيّةُ فلسطين في وصفها قضيّةَ الحقّ الأولى وقِبْلةَ النضالات بمساراتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. فكيف يَخْفى ذلك عن بعض أحزاب المقاومة اللبنانيّة وأدبيّاتها، فلا تكون المطالباتُ الشعبيّة في خلفيّتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة المسارَ المرتجى للمقاومة كمشروعٍ سياسيّ ووطنيّ؟

صحافة العدوّ (ومنها Times of Israel) تصف ثورةَ الشارع اللبنانيّ بكلماتٍ لو تقرأها تلك الأحزابُ لنفضتْ عنها عناءَ التشكيك في مرامي الثوّار على اختلافهم. فالصحافة الإسرائيليّة تكاد تحصر قوّةَ المقاومة في ضعف الدولة وتآكلِ أجهزتها، حيث "تزدهر حركاتُ أموال الحزب في ظلّ الضعف الرسميّ وحالِ اللادولة في لبنان."[4] أما الصحافة الغربيّة، مثل The Independent، فتُسائل في غيرِ مقالٍ الواقعَ الطائفيَّ اللبنانيَّ من زاويةِ ما أرستْه الثورةُ من تطلّعاتٍ تتجاوز ثنائيّةَ الطائفيّة والفساد.

ستَحمل الثورةُ النبضَ الشعبيَّ العامَّ المؤيِّدَ لخيار المقاومة، فتضعُه في قلب المشهد السياسيّ الذي سينجم عن أيِّ تغييرٍ محتمل. وستكون النتيجةُ تعميمَ خيار المقاومة، وتعويمَ نهجها، في الشارع كما في النظام السياسيّ الناشئ، ولكنْ من دون حساباتٍ ضيّقةٍ وأجنداتٍ خاصّةٍ لحزبٍ بعينه.

على المقاومة دعمُ هذا الشارع المنتفض لأنّ التحرّرَ الاجتماعيَّ والاقتصاديّ لا بدّ من أن يصبَّ في مصبِّ التحرّر الوطنيّ والقوميّ. وعلى الثورة أن تبلور حاضنةً سياسيّةً للأرضيّة المطلبيّة، القائمة على المطالبات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ضمن رؤيا تشتمل على خطّ المقاومة كخيارٍ وطنيّ؛ فيكون الشارعُ موئلًا له، والإصلاحاتُ المنشودةُ غايتَه وبيئتَه الحيويّة.

إنّ أفقَ المقاومة أوسعُ من حسابات مواقع النفوذ والقوة في هيكل السلطة الآيلِ إلى السقوط، وأبعدُ من حدود أزقّةٍ يخرج منها "شبّيحةُ" بعض الأحزاب، بشعاراتٍ مذهبيّةٍ ضيّقةٍ ومنفِّرة، تسيءُ - أوّلَ ما تسيء - إلى المقاومة نفسِها، وإلى قيمِها وأهدافِها السامية. أكثر من ذلك: إنّ استباحةَ تجمّعاتِ الثوّار في النبطيّة لا تذكّر سوى بأيّام العمالة وما رافقها من ممارسات، وبالقبضة الغليظة القذرة زمنَ الاحتلال الإسرائيليّ الآثم وتهديدِه الأحرارَ بقوت يومهم ومصدر رزقهم!

عندما تكون ثورةُ 17 أكتوبر المليونيّة على الأرض، فلا بدّ من أن تكونَ المقاومةُ حاضرةً بين الثائرين، روحًا وجسدًا. وعندما تتشابك آلافُ الأيادي من جنوب لبنان حتى شماله طوقًا من ياسمين الحريّة والجرأة، فلا بدّ من أن تكونَ المقاومةُ واسطةَ هذا العقْد. المقاومة هي القبضات في ساحات النزال، أو في ساحات الحريّة. المقاومة هي فوّهاتُ البنادق على الجبهات وتخوم الوطن؛ ولكنّها أيضًا ورودٌ يافعةٌ تفترش الساحاتِ والشوارعَ، وترفض المذلّةَ وهضمَ الحقوق وشيوعَ الفساد، وتغضب وتثور وتغنّي وترقص وتحلم.

لا يمكن أن نحميَ المقاومةَ في ظلّ سلطةٍ فاسدة. لا يمكن أن نحميَها إلّا في بيئةٍ منفتحةٍ تمامًا على فضاء الحريّات العامّة والفرديّة، والمساءلة في جميع قضايا الحكم وإدارة الشأن العامّ، والمحاسبة العموميّة من دون سقف ولا حمايات ولا خطوط حمر. المقاومة هي، في الأساس، مسارُ تحرّرٍ شامل. وكذلك هي الثورةُ ومصيرُها.

بيروت


[1]اقتباسًا من قصيدة الشاعر الفلسطينيّ عزّ الدين المناصرة، بالأخضرِ كفّنّاهُ.

[2]من كلمات "موطني" للشاعر الفلسطينيّ إبراهيم طوقان.

[3]باستعارة من قصيدة "الجسر" لخليل حاوي.

[4] موقع timesofisrael.com، مقالات ذات صلة بالوضع اللبنانيّ، مسترجَعةً بتاريخ 30/10/2019

علي خليفة

أستاذ في كلية التربية - الجامعة اللبنانية. له أبحاث في مجال التربية والمواطنيّة وشؤون المجتمع المدنيّ، ومنشورات في دوريات علميّة، وكتب منها: وطن بلا مواطنين (2009) وأبناء الطوائف (2007).