في إطار العائلة* لـ: ماريّا إيلينا يانا
20-04-2021

 

تُعتبر ماريّا إيلينا يانا (1936) من أهمّ كتّاب القصّة القصيرة المعاصرين في كوبا. درست الصحافةَ في العاصمة هافانا، ثم درّستْها وعملتْ فيها. كما عملتْ في الإذاعة وكتابةِ السيناريو. كتبت العديدَ من المجموعات القصصيّة التي لاقت نجاحًا كبيرًا وتُرجمتْ إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة وغيرهما. يتراوح أسلوبُها في السرد بين الواقعيّة والفانتازيا. ومن مجموعتها التي تحمل عنوان منازل الأرض المحظورة (صدرتْ سنة 1983)، نقدّم اليوم إلى قرّاء الآداب قصّةً بالإسبانيّة تتناول، بأسلوبٍ غرائبيّ، علاقةَ الأحياء بالموتى، وذلك من خلال تفاصيل اجتماع العائلة اليوميّ حول مائدة العشاء.

المترجم

***

حين اكتشفتْ أمّي أنّ مرآةَ الصالون الكبيرة مسكونة، لم نصدّقْها في البداية. ثم تدرّجْنا جميعًا من التكذيب إلى الاستغراب، فالتأمّل، وأخيرًا تقبّلْنا الأمرَ واعتبرناه جزءًا من حياتنا اليوميّة.

بمرور الزمن، تلطّختْ مرآةُ الصالون، البيضاويّةُ الشكل، ببعض البقع السوداء. ولئن صارت تعكس صورةَ موتى العائلة بدلًا من صورتنا نحن عندما نجلس أمامها، فإنّ ذلك لم يبدُ لنا سببًا كافيًا كي نغيّرَ شيئًا في حياتنا أو عاداتنا اليوميّة. وعملًا بالحكمة القديمة القائلة "صدرُك أوسعُ لسرّك،" فقد تكتّمْنا على ما اكتشفتْه أمّي وأخفيناه؛ فهو لا يهمّ أحدًا سِوانا في نهاية المطاف.

والحال أنّه قد مضى ردحٌ من الزمن قبل أن نألفَ الأمرَ تمامًا، فيجلس كلٌّ منا على كرسيّه المفضّل، وهو يعرف أنّ هذا الكرسيَّ في المرآة يَشْغله شخصٌ آخر. فعلى سبيل المثال كانت أوريليا، شقيقةُ جدّتي (توفّيتْ في العام 1939، رحمها الله)، تشغل في المرآة الكرسيَّ الذي أجلسُ أنا عليه؛ أما الكرسيُّ الذي إلى جانبي، فمع أنّ ابنةَ عمّي ناتاليا تجلس عليه، فقد كان يَشْغله في المرآة نيكولا، عمُّ والدتي (المتوفَّى في العام 1927، رحمه الله).

ولمّا كانت الصورةُ المنعكسةُ في مرآة الصالون هي صورةَ موْتانا، فمن الطبيعيّ أن تبدو كأنّها صورةٌ لاجتماعٍ عائليٍّ تكاد تكون مطابقةً لِما نحن عليه، ولا يتغيّر فيها أيُّ شيء من ديكور الصالون الذي نحن فيه: لا الأثاثُ، ولا توزيعُه، ولا الضوءُ، ولا الأبعاد. الشيء الوحيد الذي يتغيّرهو الأشخاص. فعوضًا منّا، كان الموْتى في المرآة.

لا أعرف كيف كان أفرادُ عائلتي ينظرون إلى ما يروْنه. أمّا أنا فقد كنتُ أحسُّ أنّه أكثرُ من مشهدٍ عاديّ في المرآة. وكنتُ أشعرُ أنّني أرى صورةً قديمةً تالفةً ومغبشة. فعندما يؤدّي موْتانا الحركاتِ التي نؤدّيها نحن، كانوا يفعلون ذلك بتثاقلٍ أكبر، كما لو أنّ المرآةَ لا تعكس في حقيقة الأمر صورةً مباشرةً، بل صورةً لصورةٍ أخرى.

وفي المجمل أدركتُ، منذ اللحظة الأولى، أنّ الأمور ستزداد تعقيدًا حالما تعود ابنةُ عمّي كلاريتا من إجازتها. فلقد كانت، منذ أمدٍ بعيد، تثير فيّ انطباعًا أنّها وُلدتْ في عائلتنا خطأً، وذلك بسبب حيويّتِها وجسارتِها وعلوِّ همّتِها. ولقد تعزّز رأيي فيها عندما أنهتْ دراستَها، وكانت ضمن الدفعة الأولى في البلاد من الخرّيجات في طبّ الأسنان.

غير أنّ انطباعي بأنّ وجودَ ابنة عمّي المقدامةِ بيننا كان خطأً، سرعان ما تبدّدَ عندما علّقتْ شهادتَها الجامعيّةَ على الحائط وانهمكتْ في تطريز القماش وشراشفِ الأسرّة، إلى جانب جدّتي وعمّاتي وأخواتي وبناتِ أعمامي الأخريات، وجلستْ تنتظر خطّابَها الذين لم يتأخّروا حقًّا في التقدّم إليها. لكنّها لم تقبلْ أيًّا منهم، لأنّهم لا يستوفون المواصفاتِ المطلوبة، التي لم يعرفْ أحدٌ ماهيّتَها على وجه الدقّة.

ومع أنّ كلاريتا لم تمارس مهنةَ طبّ الأسنان قطّ، فلقد أصبحتْ، فورَ تخرّجها، حكيمةَ العائلة، وصاحبةَ الرأي في كلّ شؤونها. صارت تصف للجميع مسكِّناتِ الآلام، وتختار لهم الأزياءَ والملابسَ الملائمة، وتقرِّر لهم الأدوارَ المطلوبةَ في حياتهم اليوميّة، وتحدِّد كمّيّةَ الكحول الملائمة في الكوكتيلات لكلّ مناسبةٍ اجتماعيّة. ولفرط نشاطها، كان من الطبيعيّ أن تلجأ إلى الاستراحة كلَّ عام شهرًا كاملًا في أحد المنتجعات البحريّة.

ولمّا عادت كلاريتا في ذلك الصيف من إجازتها وعلمتْ باكتشاف أمّي، ظلّتْ غارقةً في التفكير لحظات، كما لو أنّها تستمع إلى المريض وهو يروي ما يعانيه من الأعراض، قبل أن تشخّصَ حالتَه. ثمّ نظرتْ إلى المرآة ببرود، وتحقّقتْ من صحّةِ ما سمعتْ، فهزّت رأسَها والشكُّ يساورها. وعلى الفور جلستْ على كرسيّها المحاذي للمكتبة ثم مطّت عنقَها كي ترى مَن يَشْغلُه في المرآة.

- يا إلهي، إنّه غوستابو!

وكان هذا كلَّ ما قالته.

وبالفعل بدا غوستابو هناك، في المرآة، جالسًا على الكرسيّ نفسِه. كان في حياته مثلَ أخٍ لي، تبنّاه أبي صغيرًا بعد أن هجر قريتَه بسبب طوفانٍ اجتاحها، فاستقرّ في منزلنا ومكث فيه إلى الأبد، فكان يبدو تارةً كأنّه أحدُ أقربائنا المساكين، وطورًا كأنّه خادمٌ للعائلة.

حيّتْه كلاريتا ملوِّحةً بيدها، لكنّه لم يلتفتْ إليها؛ فلقد بدا في تلك اللحظة غارقًا في التفكير، يتأمّل شيئًا بين يديْه يشبه مصباحَ الراديو القديم. ما من شكٍّ في أنّ سكّانَ المرآة ليسوا مُعَدّين للتواصل معنا كثيرًا؛ ولا بدّ أنّ ما حدث جرَح كبرياءَ كلاريتا قليلًا، مع أنّها لم تعترفْ بذلك.

كانت فكرةُ نقل المرآة إلى غرفة السُّفرة، بلا ريبٍ، من بنات أفكار كلاريتا؛ وكذلك الفكرةُ الأخرى المكمِّلةُ لها: تقريبُ الطاولة الكبيرة إلى المرآة كي نتمكّنَ جميعًا من الجلوس معًا أثناء العشاء. وهكذا تمّ الأمرُ، وكانت النتيجةُ مُرْضِيَةً، على الرغم من مخاوف أمّي من أن يهربَ سكّانُ المرآة أو أن يتضايقوا من تزاحُمنا.

لا بدّ لي من الاعتراف بأنّ جلوسَنا إلى الطاولة كلَّ يوم، مُسرِّحين النظرَ في أرجاء المرآة كي نرى أقاربَنا، كان يبعث في نفسي الطمأنينة، مع أنّ بعضَ سكّانها ليسوا سوى أقاربَ بعيدين، وبعضَهم الآخر أبعده عنّا زمنُ الغياب القسريّ. لقد كان عددُنا مجتمعين يبلغ العشرين عندما نجلس يوميًّا إلى المائدة؛ وكنّا بذلك نبدو عائلةً كبيرةً متآلفة، على الرغم من تثاقلِ حركات أقاربنا في المرآة وشحِّ الطعام في أطباقهم وذبولِ ألوانه.

عند الحدّ الفاصل بين الطاولة الحقيقيّة والطاولةِ الأخرى، اعتادت كلاريتا أن تجلس وفي مقابلها أخي خوليو، وذلك في جهتنا. أمّا في المرآة، عند ذيّاك الحدّ، فكانت تجلس أولاليا (المتوفّاة في العام 1949، رحمها الله)، وهي زوجةُ عمّي دانيال الثانية، وقد كانت في حياتها دومًا امرأةً متكبّرةً وبليدةً؛ ولذلك فقد بدت أكثرَ سكّان المرآة غيابًا وبعدًا. وفي مقابلها جلس إشبيني، دونْ سيلبسْتر (المتوفّى في العام 1952، رحمه الله)، وهو رجلٌ لم تكن تجمعني به قرابةُ دم، بل قرابةٌ أبديّةٌ في القلب والنفس.

يحزّ في نفسي أن أرى دونْ سيلبسْتر وقد شحب لونُه الأصهب، وأصبح يبدو مثلَ المانيكان الذي فقد بريقَه بعد أن عُرض فترةً طويلةً في واجهة أحدِ المتاجر، رغم احتفاظه بخدّيْه المنتفخيْن ومظهرِه المتناسق، بما يدلُّ على صحّته الجسديّة والنفسيّة. لم يكن لبوسُ الموت الشاحب يليق بذلك الأستوريانيّ** القويِّ البنية، ولا بدّ أنّه كان يحسّ في قرارة نفسه بأنّه مثيرٌ للسخرية وهو على هذه الحال.

مضى زمنٌ غير قليل كنّا خلاله نتناول طعامَنا معًا بهناء، ومن دون منغِّصات. غير أنّه يجب ألّا ننسى حضورَ كلاريتا، وأنّنا - في غفلةٍ لا تُغتفر منّا - تركناها تجلس عند الحدّ الفاصل بين الطاولتيْن، في ذيّاك التُّخُمِ القائمِ بين الوجود ونقيضِه، وهو مكانٌ لا يثير أيَّ شبهةٍ في حدّ ذاته، لكنّه كان خليقًا بأن ينالَ منّا انتباهًا أكبر.

وإذا ما أضفنا إلى غفلتنا تلك بلادةَ أولاليا في الطرف المقابل في المرآة، فلن يبدو مستغرَبًا أن تتوجّهَ كلاريتا إليها ذاتَ مساء، بلطفِها العفويّ الذي حيّت به ابنَ العمّ غوستابو، فتقولَ لها:

- ناوليني طبقَ السلطة، من فضلك!

قدَّمتْ أولاليا الطبقَ إلى كلاريتا بغطرسةٍ وغرور، وهي تبدو مثلَ ملكةٍ جُرحتْ في كبريائها. كان طبقًا بائسًا، مليئًا بالخسّ الذابل والطماطمِ المصفرّةِ الذاوية. انبهرتْ كلاريتا بما حدث، والتهمت السلطةَ وهي تبتسم ابتسامةً ملؤها الشيطنة، وأخذتْ تنظر إلينا جميعًا وهي تتحدّانا، تمامًا مثلما فعلتْ يومَ دخلت الجامعةَ واختارت اختصاصًا لا يختارُه إلّا الرجال. لم يُتحْ لنا الوقتُ الكافي لفعل أيّ شيءٍ من أجلها؛ فلقد اصفرّ وجهُها بغتةً، وشحبت ابتسامتُها، وعلا وجهَها الحزنُ، ثم مالت واتّكأتْ على المرآة.

عندما عدنا إلى الجلوس إلى الطاولة، بعد أن أنهينا مراسمَ المأتم الفاجع، تأكّدنا أنّ كلاريتا احتلّت مكانَها مقابلنا في المرآة. كانت بين بالتسار، ابنِ عمِّنا (المتوفَّى في العام 1940، رحمه الله)، و فيديريكا، شقيقةِ جدّتنا (المتوفّاة في العام 1936، رحمها الله).

ما حصل أحدث شقاقًا بيننا وبين أقربائنا في المرآة. فلقد أحسسنا، بشكلٍ ما، أنّنا كنّا ضحايا فرطِ ثقتِنا بهم، وأنّهم أساؤوا النوايا واستغلّوا كرمَنا وحسنَ ضيافتنا. لكنّنا، نحن الذين كنّا خارج المرآة، لم نتمكّنْ، في النقاش الذي دار بيننا، من تحديد هويّة الضيف من المُضيف، وبدا لنا أنّ ما حدث كان نتيجةً محتومةً لتهوّر كلاريتا وشغفِ الاستقصاء العلميّ الذي تتميّز به. وفوق ذلك، مرّت الأيّام، فلاحظنا في نهاية المطاف أنّ ما كانت كلاريتا تفعله سابقًا لا يختلف في شيء عمّا فعلتْه في ذلك اليوم. والحاصل أنّنا بدأنا ننسى مظالمَنا المزعومة، واستأنفنا حياتَنا كما كانت من قبل، وعدنا إلى الدرب الذي حِدْنا عنه، فاستعدْنا تماهيَنا مع أقربائنا، وكان عَجْزُنا عن التمييز بين الحياة الفعليّة وصورتها في المرآة لا ينفكّ يزداد.

غير أنّ الزللَ لا يَحدث جزافًا. فبعد رحيل كلاريتا، بتُّ أجلس على كرسيّها الفارغ. وها أنا الآن أقربُ إلى سكّان المرآة، أكادُ أسمعُ الحفيفَ البعيدَ لفُوَطِ طعامهم وهي تُفتَح وتطوى، والرنينَ الخفيفَ للملاعق والسكاكين وهي ترتطم بالصحون، وصريرَ الكراسي الذي لم أتمكّن قطُّ من تحديد مصدره ومعرفةِ إنْ كان يأتي من طاولتنا نحن أمْ من طاولة المرآة.

غنيٌّ عن القول إنّ إيضاح تلك المسألة لا يشغلُني. وعليّ أن أعترف بأنّ ما يقلقني حقًّا هو أنّ كلاريتا لا تبدو منسجمةً قطُّ مع عالمها الجديد، ولا تلتزم بالسكينة والرزانة اللازمتيْن، إنْ جاز القول، وهي لا تزال تبدو قريبةً منّا بشيطناتها التي طالما كانت تأسر بها قلوبَنا جميعًا.

والحقيقة أنّني قد أكون، أنا شخصيًّا، هدفًا لنواياها الحاليّة أكثرَ من أيّ فردٍ آخر من أفراد العائلة؛ ذلك لأنّني كنتُ دائمًا قريبةً منها، وأرتبط بها برباطٍ خاصٍّ من المودّة. وقد يكون مردُّ ذلك إلى أنّنا من الجيل نفسه، وتشاركنا اللعبَ في الطفولة، وتساررْنا بالمخاوف الأولى للمراهقة. وما ألحظُه أنّ كلاريتا تفعل كلَّ ما في وسعها لجذب انتباهي إليها، وهي تحاول منذ الإثنين الفائت أن تستغفلَني كي تقدِّمَ إليّ ثمرةَ أناناسٍ كبيرةَ الحجم، وذابلةً بعض الشيء بلا ريب، لكنّها مكتنزةُ اللبّ ما أمكن وحامضةٌ قليلا؛ فكلاريتا تعرف أنني أحبّ الأناناس.

   

*https://tlriidcchazcapotzalco.files.wordpress.com/2017/01/marc3ada-elena...

** نسبة إلى أستورياس، إحدى مقاطعات إسبانيا.

وضّاح محمود

مترجم من سوريا.

كلمات مفتاحية