المسيحيّة بين الحياد والالتزام
12-11-2020

 

إلى مَن يتوقون إلى حياةٍ ملؤها الحرّيّةُ والكرامةُ في بلادنا، ولا تكون أسيرةَ التعصّب، وإلى الذين حضروا النقاشَ عن "الحياد والالتزام من وجهة نظرٍ مسيحيّة" (رعتْه مجلّةُ الآداب في الفضاء الافتراضيّ في 20/9/2020)، ومنهم السيّدة دعد نويْهض المصري.

 

هناك أكثرُ من حالة سوء فهمٍ للمسيحيّة، وتقع مسؤوليّةُ هذه الحالات جميعِها على المنتمين إليها أساسًا. إحدى هذه الحالات تقول إنّ المسيحيّة تهتمّ بالأمور "الروحيّة" لا الدنيويّة. هذا التعليم المخدِّر منتشرٌ حتّى اليوم، ولكنّه غيرُ منسجمٍ مع الإنجيل. كما أنّه لا يُقْنع أيَّ إنسانٍ سويِّ الإحساس، يرى أنّ أمورًا "دنيويّةً" (كالطعام والشراب والعلم والطبابة) أمورٌ مهمّةٌ، وأنّ رفعَ الظلم عن المظلوم مطلبٌ شريف. ومَن يقول إنّ على الإنسان أن يركّزَ جهدَه على الأمور "الروحيّة" فيتعمّقَ بها قبل أن يتعاطى الأمورَ "الدنيويّة،" فرأيُه مردودٌ لأنّ أيَّ نموٍّ "روحيّ" لا يمكن أن يحدثَ خارج هذه الأرض. ذلك لأنّ البُعدَ الأخلاقيّ العمليّ اليوميّ للإيمان على الأرض، في هذه الدنيا بالذات، وفي أجسادنا ونفوسِنا بالذات، هو الذي يَسمح للإيمان بأن ينموَ ويُصقَل.

إنّ المسؤوليّة الإنسانيّة عن هذه الأرض جذريّةٌ في الإيمان المسيحيّ، خصوصًا لأنّ المسيحيّين يؤمنون بأنّ كلمةَ الله تَجَسَّدَ في العالم ليدشِّنَ ملكوتَ الله منذ الآن. ومن خلال قراءةٍ مسؤولةٍ للإنجيل، يمكننا أن نتّخذَ موقفًا واضحًا من "الحياد والالتزام" من منظورٍ مسيحيّ.

 

1 - الكنيسة و"قيصر"

لطالما أسيءَ فهمُ جملة يسوع "أَعطوا ما لقيصرَ لقيصرَ وما للهِ للهِ." فقد فُسِّرَتْ على أنّها تعني أنّ المسيحيّة ديانةٌ روحيّة، لا علاقة لها بالسياسة، ولا كلمةَ لها تقولها في سياسات "الأرض." هذا التفسيرُ محضُ هراء عندما نتذكّر بأنّ الإيمانَ المسيحيّ قائمٌ على تجسُّد كلمة الله في هذا العالم، بحيث غدا حضورُ الله فيه أكثرَ وضوحًا.

يستفيد الطائفيّون والمستغلِّون والديكتاتوريّون أيّما إفادةٍ من هذا الفكر الفُصاميّ، فيقولون: فلنتصرّفْ بحسب ضرورات هذا العالم (و"الضروراتُ" مفهومٌ مطّاط)، بينما نؤدّي في الوقت عينِه واجباتِنا "الروحيّةَ" (التي يختصرونها باتّباع الطقوس). على مَن آمنوا بيسوع أن يميِّزوا، فعلًا، بين مملكةِ الله ومملكةِ قيصر، ولكنْ ليس بالمعنى السابق المشوَّه؛ وإنّما بمعنى عدم المساواة بين أيّ حزبٍ وسياسةٍ ومشروعٍ وشخصٍ من جهة، وبين مملكةِ الله من جهةٍ أخرى.

جملةُ يسوع تعني رفضَ ادّعاءَ تمثيلِ إرادةِ الله واحتكارِها، سواءٌ أطلقتْه سلطةٌ دينيّةٌ أو زمنيّةٌ أو شخصٌ أو طائفةٌ أو قوميّةٌ أو جنس. وتعني رفضَ الزعم أنّ معارضةَ ذلك الادّعاء معارضةٌ لله نفسه. وهذا الادّعاء هو بالضبط ما تقوم به، وإنْ بشكلٍ مبطَّن، كلُّ التنظيمات الطائفيّة في لبنان والعالم. يسوع، بكلماته تلك، يحرِّر الضميرَ الإنسانيَّ من أن يستعبدَ نفسَه لسلطةٍ أو جماعةٍ أو شخص، ويفتحُ الطريقَ للإنسان كي يتحلّى بالشجاعة، فيَحْكمَ على الأمور بناءً على متطلّبات الحياة مع يسوع: فيَرفضَ، مثلًا، كلَّ تفكيرٍ أو أمرٍ يدعو إلى التفوّق العنصريّ أو إلى العنف ضدّ الناس، ويرفض التعذيبَ أو السكوتَ عنه، ويرفضَ إطلاقَ النار على المتظاهرين، أو طاعةَ سلطةٍ تنهبُ شعبَها أو تقمعُه، ويرفضَ دعوةَ أيّ رجل دينٍ للقبول بالظلم تحت أيّ مسمًّى، ولو كان لطيفًا كـ"الحياد."

 

على مَن آمنوا بيسوع أن يميِّزوا، فعلًا، بين مملكةِ الله ومملكةِ قيصر

 

هذا الصراع الشجاع من أجل التحرّر من سلطة "قيصر" حين يدّعي سلطةً شاملةً على الضمائر، بل سلطةً إلهيّةً كذلك، يجعلنا في صِدامٍ مع الآخرين لا محالة؛ ذلك لأنّ المنافقين في كلّ زمنٍ يَكرهون الحقَّ والشاهدين له ويضطهدونهم. ومن وجهة نظرٍ مسيحيّة، فإنّ الشهودَ اليومَ لِحَقّ الناس في أن يعيشوا في البلدان العربيّة بحرّيةٍ وكرامةٍ يقومون بعملٍ نبويٍّ، صِداميٍّ مع الخضوع. وقد كان يسوعُ واضحًا في هذا المجال فقال: "لا تظنّوا أنّي جِئْتُ لأُلقيَ سلامًا على الأرض... إنّي جئتُ لأفرّقَ الابنَ ضدَّ أبيه، والابنةَ ضدَّ أمِّها، والكنّةَ ضدَّ حماتِها. وأعداءُ الإنسان أهلُ بيته. مَن أحبَّ أبًا أو أُمًّا أكثرَ منّي فلا يستحقُّني، ومَن أحبَّ ابنًا أَوِ ابنةً أكثرَ منّي فلا يستحقُّني."

هذه كلماتٌ مزلزِلةٌ لكلِّ بُنْيةٍ سلطويّة، وتنسفُ كلَّ سيطرةٍ واستكانة، بدءًا من العائلة وحتّى آخرِ بنيةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّة. مَن يشهدُ للحقّ هو في خطّ يسوع، وقد يدفعه ذلك إلى أن يكونَ في تعارضٍ مع أهل بيتِه ووطنِه عندما يكونون ضدّ المظلومين مثلًا، وإنْ شعر بالحرج والضيق والصراع الداخليّ، وربّما بالخِزي والنَّبْذ. ولهذا بالضبط قال يسوع فورًا بعد جملته الأخيرة: "مَنْ لا يحملُ صليبَه ويتبعُني فلا يستحقُّني." اتّباعُ المسيح في المظلومين هو حملُ صليبٍ بالضرورة، ليس لأنّ يسوع يريد ذلك، بل لأنّ المنافقين وأتباعَهم من فاقدي البصيرة يكرهون الحقَّ.

 

2 - الأرض والسماء: كلُّ ما فعلتموه بأحدِ هؤلاء الصغار، فبي فعلتُموه

لا يوجد في المسيحيّة فصلٌ بين الأرض والسماء؛ فالمسيحيّة تعتقد بأنّ كلمةَ الله نفسِه قد تجسَّد في الأرض بشخصِ يسوع. هذه النقطةُ المركزيّةُ التي تنطلق المسيحيّةُ منها تعني أنّه، بعد يسوع، لا انفصالَ بين الدنيا والأمورِ الروحيّة. مَن يسعى إلى الله يسعى إليه في قلبِ هذه الدنيا؛ فالروحيُّ حاضرٌ في الوجود المادّيّ. الحياة التي تُسمّى "روحيّة" ليست غيرَ هذه الحياة إنْ عِيشتْ مع يسوع وفي خطّه. وهي ليست مجرّدَ صلواتٍ وأصوامٍ وأعياد، وإنّما هي العيشُ كلُّه إنْ كان في خطّ المحبّة.

و"المحبّة" كلمةٌ غامضةٌ جدًّا. وعادةً ما نتفوّهُ بالكلمة ونعني عكسَها: فقد نقول "محبّةً" ونعني قمعًا (كما  في قولنا "أُحِبُّ ولدي البالغَ، ولذلك أريدُه أن يتصرّفَ كما أريدُ أنا")، أو خضوعًا ("أحِبُّ فلانًا ولذلك أفعلُ كلَّ ما يريده"). المحبّة ليست في الخضوع، ولا في التسلّط، بل هي خبرةٌ يتلازم فيها مسعى الوحدة بالآخرين مع احترام التمايز. ويتجسّد ذلك في الرغبة في رعاية الآخر. ومن هذه الرغبة ينبع شعورٌ بالمسؤوليّة عنه، وهي مسؤوليّةٌ تحترم حرّيتَه وإرادتَه، وتدفعنا إلى المزيد من المعرفة لكي تكون الرعايةُ واعيةً وفاعلة.

والمحبّة علاقةٌ ذاتُ بُعديْن: فرديّ وجماعيّ. البعد الفرديّ أوضحُ من الجماعيّ. كيف نحبُّ آخرين على مستوى الحياة الجماعيّة العامّة، على مستوى الحياة السياسيّة والاقتصاديّة؟ ننطلق دائمًا من يسوع. يسوع تكلّم مع مجتمعٍ زراعيّ، وبلغةٍ بسيطة، ولذلك جاء كلامُه العمليُّ بوضوحٍ كلّيّ، مقلقٍ ومريحٍ في آن. ففي المرّة الوحيدة التي تكلّم فيها بلغةٍ مباشرة (من دون استخدام الأمثال) عن معيار الدخول إلى ملكوت الله يومَ القيامة، قال إنّ الداخلين إلى ملكوت الله هم الذين سيُطْعمون يسوعَ حين يجوع، ويسقونه حين يعطش، ويؤونه حين يكون غريبًا، ويزورونه حين يكون مريضًا أو سجينًا. وقال إنّ ذلك الدخولَ إلى ملكوت الله يَحدث كلّما أطعمْنا الجياعَ وسقينا العطاشَ وآويْنا الغرباءَ وزُرنا المرضى والسجناء؛ فـ"كلُّ ما فعلتموه بأحدِ هؤلاء الصغار، فبي فعلتموه."

مقياسُ يسوع هو المهمَّشون. يسوع وحّد نفسَه بالمهمَّشين؛ فمن يُردْ أن يكونَ معه يكنْ مع هؤلاء ويعضدْهم. وجعُهم وجعُه، وهم هو. وبهذا أشار إلى التوجّه الذي يمكن أن نسمّيَه مسيحيًّا في الحياة العامّة: أن يحبَّ الإنسانُ الآخرَ برفع مفاعيل الظلم عنه، وبرفع أسباب الظلم عنه.

لكنّ يسوع لم يكتفِ بذلك، بل تابع مخاطبًا الناسَ الخلوقين (لا أولئك المُصرّين على الشرّ)، قائلًا إنّ أخلاقًا سلبيّةً، أيْ تكتفي بعدم فعل الشرّ، هي أخلاقٌ مُدانةٌ في المسيحيّة. لذا قال إنّ "الملاعين" الذين لن يدخلوا ملكوتَ الله هم الذين رأوْا يسوعَ عطشانًا وجائعًا وغريبًا ومريضًا ومسجونًا فلم يهتمّوا به. وأمام استغرابهم من كلامه لأنّهم لم يروْه شخصيًّا مرّةً في حياتهم، سيجيبهم: "كلُّ ما لم تفعلوه بأحدِ إخوتي هؤلاء الصغار، فبي لم تفعلوه."

هذه الكلمات يجب أن تؤرِّق كلَّ مسيحيّةٍ ومسيحيّ، لأنّ يسوع يقول فيها إنّ الإنسان الذي يسير في إثر يسوع لا يسعه أن ينامَ على مخدّةِ "أخلاقٍ" تكتفي بألاّ يفعل صاحبُها الشرَّ، بل هو مُطالَبٌ بأخلاقٍ فاعلة. يسوع يطالب الإنسانَ بأن يلتزم رفعَ أسباب الظلم عن المظلومين في المجتمع. وأقول "أسباب" لأنّنا نعرف في زمننا أنّ الجوعَ والعطشَ والمرضَ والغربةَ والسجنَ ليست أمورًا طبيعيّةً تحدث صدْفةً، وإنّما هي نتيجةٌ لسياساتٍ اقتصاديّةٍ ولخياراتٍ يتّخذها الممسكون بزمام السلطة. ولا تُمْكن معالجةُ علامات المرض من دون معالجةِ أسبابه.

 

3 - بين "أعطِنا خبزَنا كفافَ يومنا" و"أعطِهم الكفافَ على أيدينا"

يسوع أعطى أتباعَه صلاةَ "أبانا الذي في السماوات" يطلب فيها الإنسانُ الغفرانَ من الله: "ليأتِ ملكوتُكَ، لتكنْ مشيئتُكَ كما في السماء كذلك على الأرض. خبزَنا الجوهريَّ (أو خبزَنا كفافَنا) أعطِنا اليوم..." ولكنّ هذه الصلاة ليست عمليّةً سحريّةً اتّكاليّة، وإنّما هي - ككلّ صلاة - تواصلٌ محِبٌّ، ومن ثمّ مسؤولٌ. وقد كتب بولس: "نحن عاملون مع الله." فإنْ تكن مشيئةُ الله مشيئةَ محبّةٍ، لأنّ الله محبّةٌ كما يقول الإنجيل، فإنّ الله أراد أن يحقّقَ مشيئتَه معنا، أو نحقّقَها معه، بعملنا هنا، لكي يأتي ملكوتُ المحبّة بتجسّده عدالةً في البنى الاجتماعيّة والاقتصاديّة. والقدّيس باسيليوس الكبير كان يصلّي بوضوحٍ "كي يسعفَ اللهُ الإخوةَ الـمُحتاجين ويقدِّم إليهم الكفافَ على أيدينا." وهذا الكفاف، كفافُ المحبّة الإنسانيّة التي تجمع الكلَّ في العدل، يحقّقها اللهُ على أيدينا نحن.

 

4 - الحياد والالتزام في الانجيل

بالإضافة إلى هذه الرؤية التي تمكّننا من أن نقاربَ موضوعَ الحياد والالتزام، هناك عددٌ من الشخصيّات في الإنجيل تمثّل هذين الحدّيْن.

لا نجد في الإنجيل موقفًا من الحياد أوضحَ من موقف بيلاطس البنطيّ، الحاكمِ الرومانيِّ أيّامَ يسوع. فبحسب الإنجيل، حين قبض رجالُ الدين على يسوع وحَكموا بضرورة قتله لكونه "قد كفر" بحسب رأيهم، ذهبوا به إلى بيلاطس لينفِّذَ عقوبةَ الإعدام. غير أنّ بيلاطس خشيَ من ردّات فعل الجمهور، فسلّم يسوعَ إلى جلّاديه، ثمّ "أخذ ماءً وغسل يديْه قدّام الجمع قائلًا: إنّي بريءٌ من دم هذا البارّ. أبصِروا أنتم" (أي افعلوا ما تشاؤون). لم يحكمْ بيلاطس بشيءٍ على يسوع، لا بل وصفه بـ"البارّ" (بحسب متّى)؛ ومع ذلك فقد سلّمه إلى إرادة القيادات الدينيّة، متنصّلًا من مسؤوليّته. هكذا أعلن بيلاطس حيادَه. لم يدنْ يسوع، ولم يَحْكمْ عليه، بل هو أعلن براءتَه، ولكنّه تركه إلى مصيره مع الذين اتّهموه وأرادوا قتلَه. أراد بيلاطس إرضاءَ المجتمعين على يسوع، فغسل يديْه من دم الضحيّة البريئة وهو يراها تذهب إلى الموت. شخصيّة بيلاطس تختصر "الحيادَ" تجاه الضحايا والأبرياء: الحياد يترك الضحيّةَ البريئةَ لجلّادها.

اليوم، أيُّ حيادٍ تجاه قضايا العدل، وبخاصّةٍ في فلسطين لأنّ فيها الظلمَ الأكبرَ، هو حيادٌ كحياد بيلاطس: يسلِّم الضحيّةَ إلى الجلّاد.

ما يعاكس الحيادَ في الإنجيل ليس الالتزامَ، إذ ليس كلُّ التزامٍ التزامًا محقًّا، بل الحقّ. إنّ الحقّ هو الذي يحدّد نوعيّةَ الالتزام. "وما هو الحقّ؟" سؤالٌ وجّهه بيلاطس إلى يسوع، ولا شكّ في أنّه يخالج ذهنَ القرّاء. إنّنا نرى أنّ الحقّ هو التزامُ خطّ الضعفاء والمهمَّشين. فقد قال يسوع أمريْن: مرّةً قال "أنا هو الطريقُ والحقُّ والحياة،" وقال أيضًا إنّه في عداد المظلومين والمهمَّشين. الحقّ، إذًا، هو التزامُ الإنسان بهؤلاء أمام يسوع. هذا هو المعيار الإنجيليّ للالتزام؛ وعدا ذلك فـ"مماحكاتٌ هذيانيّةٌ" بتعبير بولس.

في الإنجيل هناك "التزامٌ منحرفٌ" تصوِّره شخصيّةُ قيافا، رئيسِ الكهنة الذي حَكم على يسوع بالموت وطلب من بيلاطس تنفيذَ الحكم. فالمجموعات الدينيّة المتضرِّرة من تصرّفات يسوع ومن تعاليمِه، التي تهزُّ التقاليدَ وتنتقد نفاقَ رجال الدين وتُخلخل السلطةَ الكهنوتيّة، كانت قد بدأتْ تخطِّط للتخلّص منه. تَرِدُ على لسان قيافا جملةٌ تقول "خيرٌ أن يموتَ واحدٌ عن الشعب ولا تهلكَ الأمّةُ كلّها." هذه الجملة تعكس شخصيّةً لا ترى القيمةَ العليا في الحقيقة والعدل، بل في السلطة. أراد قيافا (وكلُّ إنسان يمكن أن يكون قيافا) حمايةَ الهيكليّة الاجتماعيّة وسلطتَه. العصبيّة الاجتماعيّة والسلطة تأتيان عنده على حساب قتل إنسانٍ ظهرتْ عليه علاماتُ النبوّة بحسب التقليد اليهوديّ (فكلامُ قيافا يأتي ردّةَ فعلٍ على قيام يسوع بمعجزة). يفضِّل قيافا السلطةَ على النبوّة. وإنْ تذكّرنا أنّ النبوّة لبُّها الشهادةُ للحقّ، فإنّنا نستطيع القول إنّ قيافا فضّل المنافعَ والمغانمَ على حساب رسالة الله.

قيافا يمثّل ذروةَ الالتزام بالسلطة، وبالجماعة العصبيّة، على حساب الحقّ. واليوم، ألا تفعل الكنيسةُ ذلك عندما تقمع المظلومَ في وسطها خوفًا على سلطة رجال الدين وصِيتِهم (التحرّش الجنسيّ مثالًا)؟ ألا تفعل ذلك عندما تلتزم خطَّ المتسلّطين والمجرمين الجالسين على أرائكِ الحكم؟ أليس كلُّ زعيمٍ طائفيٍّ "قيافا" لا يهمُّه سوى سلطتِه وعصبيّةِ جماعته التي يستمدّ منها هذه السلطة، على حساب كرامة الناس وحريّتهم؟

في المقابل نرى في الإنجيل التزامًا من نوعٍ آخر، هو التزامُ يسوع بالحياة، بالناس، بحماية الضعفاء، بقيامتهم من موتهم المعنويّ، ومن موتهم الماديّ: من جوعهم وعطشهم ومرضهم (العجائب القليلة المذكورة في الإنجيل تقع في هذا الخطّ). ولا يتوانى يسوع، لأجل هذه الأهداف، في أن يهاجم رجالَ الدين، وأن يصفَهم بأشنع الألفاظ، فقال أمورًا نخاف قولَها اليوم: "يا نسلَ الأفاعي، كيف تستطيعون أن تنطقوا بالصالحاتِ وأنتم أشرار؟" (متّى 12: 34)، "ويلٌ لكم أيها الكتَبَة والفرّيسيّون المراؤون لأنّكم تُشْبهون قبورًا مُبيَّضةً تَظهر من خارجٍ جميلةً، وهي من داخلٍ مملوءةٌ عظامَ أمواتٍ وكلَّ نجاسةٍ" (متّى ٢٣: ٢٤ و ٢٧)، "صنع سوطًا من حبالٍ وطرد الجميعَ من الهيكل" (يوحنّا ٢: ١٣).

إنّ صَلْبَ يسوع كان نتيجةً طبيعيّةً لمسار إنسانٍ ملتزمٍ، مُناضلٍ، واجه طوال حياته السلطةَ الدينيّةَ لتحرير الناس من سجونهم، ولإطلاقِهم في فضاء الحرّيّة والمحبّةِ والعدل. كلماتُ يسوع وتصرّفاتُه تعكس لاحياديّةً صارخةً، والتزامًا حادًّا بحياة الناس وفرحهم، وبالحقّ.

 

صَلْبُ يسوع كان نتيجةً طبيعيّةً لمسار إنسانٍ ملتزمٍ مُناضلٍ، واجه السلطةَ الدينيّةَ لتحرير الناس

 

5 - التزام شؤون الأرض، البارحةَ واليومَ

في خطّ يسوع كتب قدّيسون أمورًا يخشاها المستغِلّون ممّن تسمَّوْا باسم يسوعَ اليوم. فقد كتب القدّيس يوحنّا الذهبيُّ الفمِ (٣٤٧-٤٠٧): "إنّك تحترم هذا المذبحَ حينما ينزل عليه جسدُ المسيح [أي القربانُ]، ولكنّك تهمل وتبقى غيرَ مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسدُ المسيح [أي الآخرُ الـمُستَضعَفُ]."

والقدّيس باسيليوس الكبير (٣٣٠-٣٧٩) كتب أنّه "عندما يَسرق شخصٌ ما ملابسَ شخصٍ آخر، نُطلق عليه اسمَ لصٍّ. ألا ينبغي أن نطلق الاسمَ نفسَه على مَن يستطيع أن يكسو عريانًا ولا يفعل؟ الخبزُ الذي في خزانتك يخصُّ الجائعين. المعطفُ غيرُ الـمُستخدَم في خزانتكَ ينتمي إلى الشخص الذي يحتاجُه. الأحذية المتعفّنة في خزانتك تعود إلى مَن ليس لديه حذاء. المال الذي تخزنُه يعود إلى الفقراء." وكذلك كتب: "هؤلاء هم الأغنياء: الخيراتُ العامّةُ التي جمعوها يقرّرون أنّهم سادتُها لأنّهم أوّلُ محتلّيها."

والقدّيس غريغوريوس النزينزيّ (٣٢٩-٣٩٠) ركّز على فكرة المساواة بين الناس، فكان يقول: "قفوا ليس عند قانون الأقوياء بل الخالق،" أيْ عند قانون المساواة بين الناس. وأطلَّ أيضًا على ما هو أبعدُ من العلاقات الفرديّة ليلامسَ موضوعَ العدالة والأسباب البشريّة القائمة وراء الفقر، فقال: "أنا لستُ متأكّدًا أنّ الفرق بين غنيّ وفقير آتٍ من الله،" في وقتٍ ما يزال الكثيرُ من الناس في زمننا يظنّون أنّ الفرق من إرادة الله.

أمّا القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد (٩٤٩-١٠٢٢) فقال: "المال وكلُّ ما هو لك هو ملْكُك المشترك مع كلّ الناس، كما هي الحالُ بالنسبة إلى النور والهواء الذي نتنشّق."

أمّا في عصرنا الحالي، فنحن نعرف تمامًا أنّ الأزمات الإنسانيّة، من جوعٍ وفقرٍ وقمعٍ واستعباد، ليست قضاءً إلهيًّا وإنّما نتيجةً لشبكةٍ من العلاقات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة. وتاليًا صار لزامًا على المسيحيّين والمسيحيّات اليوم أن يواجهوا أسبابَ الظلم، وألّا يكتفوا بمساعدة المظلومين (على الرغم من الأهمّيّة المـُطلقة لذلك). فكما يقول الأب بيير، مؤسّسُ منظّمة عمّاوس لمساعدة المهمَّشين اجتماعيًّا، "أنْ نساعدَ، أنْ نخفّفَ من المعاناة، أنْ نعزّي، من دون أن نناضلَ ضدّ أسباب البؤس، فذلك أمرٌ غير شريف."[1]

وعليه، فلا تُمكن معالجةُ النهب الذي ينُتج الفقرَ في لبنان من دون تغيير النمط الاقتصاديّ الذي أدّى إليه. ولا تُمْكن معالجةُ القمع في سوريا من دون تغيير النمط السياسيّ الاقتصاديّ في البلاد. ولا يُمْكن رفعُ الظلم الواقع على الفلسطينيّين (من قتلٍ، وتعذيبٍ، واعتقالٍ، وتهجير،...) إلاّ برفع السبب الأساس لكلّ ذلك، ألا وهو نظامُ الفصل العنصريّ الاستيطانيّ. وقيسوا على ذلك.

إنّ أيّ دعوةٍ إلى الحياد في قضايا الدفاع عن حياة الإنسان وحرّيته وكرامته لهي دعوةٌ مناهِضَةٌ ليسوع المسيح، الذي وحّد نفسَه مع الضعفاء والمظلومين، وهي مناهِضةٌ لتجسيد ملكوتِ الله في هذا العالم، وتخون فحوى صلاة "أبانا...،" ولا تمثّل المسيحَ، وإنّما تمثّل شخصيّةَ بيلاطس أو قيافا أو الاثنين معًا.

اليوم نَعْرف أنّ الاستغلالَ الخارجيّ وأدواتِه الاستعماريّةَ العنصريّة تتناغم مع الاستغلال الداخليّ الذي يبيع نفسَه إلى الخارج. فكيف يستطيع إنسانٌ أحبَّ يسوعَ وحفظ كلامَه أن يقول إنّه يقف على الحياد وسطَ هذا الجحيم؟ إنّ إيمانَ المسيحيين بأنّ يسوع نزل إلى الجحيم وحرّر الموتى من قبضة الموت يحتِّم عليهم النزولَ إلى جحيم هذا العالم. فهناك سيجدون يسوعَ، ويضعون يدَهم بيده لقيامة الناس في الكرامة الإنسانيّة والمحبّةِ الإنسانيّة، التي تترجم نفسَها وحدةً ومشاركةً وعدالةً واحترامًا للشخص البشريّ، بين عيال الله جميعًا من كلّ اعتقادٍ وجنس.

كندا

 


[1] Henri Le Boursicaud, “Compagnon de l’Abbé Pierre, Dix ans de voisinage”, Nouvelle Cité, 2002, p. 38

خريستو المر

حائز دكتوراه في المعلوماتيّة الصحّيّة (1997)، وإجازةً في اللاهوت (2013). باحث في علوم تطبيقات الكومبيوتر في مجال الصحّة. يغطّي بحثُه مجالَ الصحّة النفسيّة، وحقوق الإنسان، وحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. نشرَ عدّة كتب في اللاهوت. صدر له ديوانٌ شعريّ بعنوان: كلماتٌ للضياع، حبيبةٌ للمنفى (2018). مُساهم في مجلّة النور(تصدرها حركةُ الشبيبة الأرثوذكسيّة)، وفي الصحف اللبنانيّة، وفي مجلّة الآداب. عضو في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وفي حركة "أساتذة من أجل فلسطين - كندا."