ماهر الذي عاد... غدًا
28-02-2019

 

- غدًا.

بلا تردّدٍ أو التقاطِ نفس، أجابني عن سؤالي الذي استغرق طرحُه أكثرَ من ثلاث دقائق. انطلقتُ بسؤالي من "الظروف الذاتيّة والموضوعيّة،" وعرّجتُ على "عوامل التاريخ ومصائرِ الأمم،" ثم تقيّأتُ أحاديثَ"الواقعيّة السياسيّة" و"موازينِ القوى،" لأصل إلى سؤال: "لماذا ما زلتَ تقاتل يا ماهر؟ متى ستعود برأيك إلى فلسطين المحرَّرة؟"

- غدًا.

ثمّ أردف أنّه، إنْ لم يستيقظْ كلَّ صباحٍ على الإيمان بأنّ فلسطين ستتحرّر غدًا، فإنّه لا يرى جدوى من هذا الصباح، وهذا النهارِ، ومن كلِّ الأنفاسِ التي نستهلكها، وكلِّ السجائر التي نحرقها ــ وابتسمَ تلك الابتسامة. ماهر يبتسم بعينيْه، لا يزيد جبينُه المتغضّن تجعيدةًواحدة. العينان عنده تكفيان. وإنْ شكَّ في ذلك، كانت لهجتُه الجميلةُ كافيةً للحسم.

 

رفقةُ الشرفة

تسلّلتُ إلى الشرفة الفارهة لأدخّن، في منزل صديقنا سماح إدريس الذي يُمنع فيه التدخينُ. هناك، بدأتْ رفقتُنا. يقتحم ماهر كلَّ شيء بلا تكلّف؛ في البيت - أيِّ بيت - يصير واحدًا منه بلا إزعاج، وفي القلب يصير شريكًا فيه بلا استئذان. حديثٌ بسيطٌ عن التدخين ومنعِه - حديثٌ لا معنى له في قلب هذا العالم الهائج - يكفي لكي تصيرَ قريبًا من هذا الرجل. تلي الحديثَ دعوةُ شايٍ لا تُلبّى، لكنّها تَعْلق في الذهن بسرعة. الرجل كتلةُصدقٍ ووفاءٍ وحنانٍ منقطعِ النظير. النظرةُ القاسية، والجُملُ المقتضبة المبتورة، واليدُ التي خشّنتْها مقابضُ البنادق: كلُّ ذلك لا يمنع فيضَ الحنان الذي يُسبغه عليك هذا الرجلُ الغامضُ ببساطته.

لاحقًا، في جلسات حواراتنا الطويلة، كان هاتفُه لا ينقطع عن الرنين. ينظر إلى الرقم ويؤجِّل الردّ... إلّا حين ترتبط المكالمةُ بتأمين مستشفًى لشابٍّ قادمٍ من سوريا، أو مبيتٍ لرفيقٍ، أو تذكرةِ سفرٍ لآخر. عندما كانت الأمورُ ترتبط بشبابٍ مهروسٍ تحت وطأة عوزٍ من أيِّ نوع، كان ماهر القائد يَنشر جناحيْه سريعًا ولا يؤجِّل. يتحدّث بأسًى عن أحوال الشباب الفلسطينيّ، كلِّ الشباب، غيرَ منحازٍ إلى رفيقٍ أو غيرِ رفيق. يُنهي جلسةَ حوارٍ اتّفقنا عليها بصعوبة، لكي يرافقَ محمّدًا لتصوير يده في المستشفى، أو أمَّ حسن التي لم تجد مكانًا تبيت فيه مع عائلتها. يرتفع صوتُه على محدّثه، ويرفض الأعذارَ، ثمّ يعتذر بكلامه ويُسكتُني بعينيْه. ماهر عينانِ تَسكنُهما فلسطينُ الجميلة. يُقْنعُكَ، ويُسْكتُكَ، ويُخْمدُ احتجاجَكَ، ويجعلكَ تودُّ أن ترافقَه.

"قبل أن نعودَ إلى فلسطين علينا أن نعودَ إلى الفلسطينيين،" يقول بأسًى. يكيل السبابَ لمن تسبّبَ في العرقلة هذه المرّة. لا شيء عنده يبرِّر تركَ محتاجٍ يشعر بالوحدة.

على شرفتنا الأولى، وبينما كنّا نُشعل سجائرَنا، قلتُ له: "أريدُ أن أكتبَك." غمغم كعادته حين لا يريد أن يعطي جوابًا. قال لي إنّ حياتَه ليست ممّا يستحقّ الكتابة؛ ربّما نفعل ذلك في وقتٍ آخر. انتظرَ"الوقتُ الآخرُ" أكثرَ من سبع عشرة سنةً، ليتمّ سنة 2017 في حلقاتٍ في مجلة الآداب، وبإقناعٍ من سماح.

 

يقتحم ماهر كلَّ شيء بلا تكلّف؛ في البيت - أيِّ بيت - يصير واحدًا منه بلا إزعاج

 

على الشرفة مجدّدًا

اجتمعنا مجدّدًا، على شرفة منزلي هذه المرّة. أسألُه. يجيب. أناقشُه. نغرقُ في التفاصيل. يُحْضر كتبًا نستهدي بها. أُجري بحثًا سريعًا على الإنترنت لنتحقّقَ من تاريخٍ أو تفصيل. وعلى الرغم من استمتاعنا بما نقوم به، فإنّنا كنّا نستمتعُ أيضًا بأوقات راحتنا التي نتواطأ عليها: فسحة الفطور، إبريق الشاي، لحظات الاستفاضة خارج الموضوع، والأوقات التي يصرّ فيها على ألّا أكتبَ ما يقول. الممنوعُ نشْره كان الأمتعَ. يستفيض ماهر، ولا يَسْلمُ من سيفِ نقدِه أحدٌ، باستثناء "الحكيم" و"الدكتور." كان إخلاصُه لجورج حبش خارج الوصف، وإحساسُه بالضعف وبشيءٍ من الخجل من وديع حدّاد أشبهَ بالغصّة. سهامُ نقده كانت تطول أمورًا تتعلّق بالجبهة الشعبيّة أكثرَ ممّا تتعلّق بغيرها؛ فقد سبق أن قدّم الكثيرَ من النقد لغير "الجبهة" في ذكرياته التي نشرتْها الآداب.[1]

اليوم، لا أستطيع أن أتصرّفَ بهذه الأحاديث؛ فأنا لم أدوّنْها احترامًا لمشيئته، وهي الآن بلا شاهدٍ عليها بسبب غيابه. لذا أحملُها بصمتٍ في ضميري، ولن تبارحَه.

"الحكيم" مقدّس عند ماهر، حتّى حين أحاصرُه بأسئلةٍ من قبيل: كيف استكان إلى قيادة أبي عمّار اليمينيّة منذ بداياتها؟ لماذا رضخ لقرار الخروج من بيروت سنة 1982؟ لماذا قبِل بإعلان الدولة الفلسطينيّة سنة 1988 على الرغم من رفضه الجوهريّ لهذا الإعلان؟[2] في كلّ هذه الأسئلة، كانت لماهر إجاباتٌ تقارب التبريرَ أحيانًا، لكنّها لا تهادن في الولاء لـ"الحكيم" النظيف. بين أبي ماهر اليماني و"الحكيم،" عاش ماهر محاذرًا السقوطَ في الشبهة. يُخبر عن غضب أبي ماهر من أيّ تصرّفٍ يوحي باستغلالِ نفوذٍ أو استفادةٍ شخصيّة، ويحدِّث مطوّلًا عن مناقبيّة "الحكيم" والقدوةِ التي يمثّلها.

يحدّثني عن بيته في الهرمل ويدعوني إليه. يُحْضر لي مرطبانًا من "المكدوس"حضّرتْه زوجتُه: "زينب بتعملو مِلْحو خفيف، دوقْ ورَحْ تطلع ركض عالهرمل لتتروّق عندي..." وليتني ركضتُ كما أحببتُ أن أفعل! كنتُ لأحبّ أن أرى ماهر، الذي لا يهادِن، زوجًا، وأبًا، ورجلًا تعب في هذه الحياة، فلبس بيجامتَه، واستراح في منزله مع زوجته التي أَحبَّ. أسألُه في أوقات الاستراحة عن "ماهر بلا بندقيّة،" فيخجلُ ولا يجيب. أريه صورتَه شابًّا مقاتلًا أشعثَ الشعر. "لقد كنتَ جغَلًا،" أقول، فيزيد صمتُه، وأسمعُ في هذا الصمت تنبيهاتِ أبي ماهر الأخلاقيّة. لم أسمعْ منه مغامراتِ "أبطال الثورة" في حانات بيروت، ولا "فتوحاتِ" أولئك "المسؤولين" في مدينةٍ تُغْوي الملائكةَ بالدخول في التجارب.

كانت الشرفةُ تحْضنُنا. نجلس معًا في كرسيّيْنا المحدّديْن، لم نبدّلْهما مرّةً. عدتُ إلى التدخين معه بعد ثلاث سنين من التوقّف، وبلا ندم. لم يكن ثمّة شيءٌ أجمل من كأسيْ شاي وسيجارة، مقابل عينين تحويان حبَّ العالم. هكذا كانت فلسطينُ عنده: حبًّا صرْفًا. لا يذْكرُها كثيرًا، مع أنّها حدّدتْ مسارَ حياته، واستعدّ للموت من أجلها بلا تردّد. ماهر هو فلسطين: صامتٌ، مثابرٌ، متحمّلٌ الانهيارَ، يوحي بالاستكانة وبأنّه يفعل "المقدورَ عليه" وحسبُ، لكنّه مؤمنٌ بأنّ التحرير غدًا.

 

"دعني أصوّركَ صورة جديدة!"

 

الصورة

- شو هالصورة يلّي حاطتلي ياها بـ الآداب؟ مطلّعني ختيار وكئيب!

- أنت جئتني بلا حلاقة، ما ذنبي يا رفيق؟ دعني أصوّركَ واحدةً جديدة.

جلس أمامي، وصوّرتُه مجموعةً من الصور. اخترتُ منها الأفضل، ومحوتُ الأخريات خوفًا من أن أخطئ بينها.

زرُّ الـ"Delete" طيّر حوالي سبعَ صور، وأبقيتُ واحدةً استعملتُها. بحثتُ في ملفّاتي عنها صباحَ الجمعة الفائت، كأنّني سأمحو خبرَ وفاتكَ إنْ وجدتُها.

الصورة تحمل تلك التجاعيدَ على جبهتك. خلفيّةُ الضوء أعطت هالةً صفراءَ أبرقَ فيها قميصُك الأزرق. أخبرتُه دومًا أنّ هذه التجاعيد تشبه الخريطةَ، فابتسمَ وأخبرني أنّها ستكون خارطةَ فلسطين ولا ريْب. "أخبِرْني، ما علاقتُكَ بفلسطين وأنت لا تتذكّر شيئًا منها يا ماهر؟" لا يعنيه السؤال. "انظرْ إلى صورتِكَ صبيًّا، وأخبرْني عنكَ وأنتَ في المدرسة." لا شيء يقال بحسب رأيه. يقول ماهر ما يقرّبُه من فلسطين؛ كلُّ ما عدا ذلك تفصيلٌ لا جدوى منه. "هل أحببتَ وأنتَ في هذا العمر؟" "مش مهمّ،" يجيب،" لكنّني كنتُ أحْضر اجتماعات سياسيّة، وذهبتُ إلى الأردن في دورةٍ عسكريّة." "كيف كانت الحياة في الاتّحاد السوفياتي؟" "مش مهمّ،" يردّ، " لكنّني انكسرتُ حين وردني خبرُ اغتيال غسّان كنفاني، وعدتُ مسرعًا."

لا يَعْلق في ذهن ماهر إلّا ما يقرِّبُنا من العودة ــ ــ العودةِ بلا شروطٍ، وإلى كلِّ "البلاد." كأنّ الرجلَ خُلق ليحملَ القضيّةَ، وليعيشَ فيها، وليموتَ بأسًى لأنّه لم يعد قادرًا على المتابعة بسبب الموت. فلسطين هي ماهر، الذي يؤمنُ بنصر العدالة من دون تردّد، ويَعتبر أنّ كلَّ فعلٍ صغيرٍ نقوم به من أجلها سيقرّب الموعدَ إلى الغد. "أمَا زلت ترى هذه الشعلةَ في عيون الشبابِ يا عزيزي؟" أسأله. يرتفع صوتُه وهو يُخبرني أنّ الشباب جميلون اليوم، وربّما أكثر من السابق؛ فهم يقاومون اليأسَ والتردّي، ولا تحبطُهم كوارثُ ارتكاباتِ سلطةِ أوسلو، ولا قسوةُتخلّي بعضِ العرب والعالم عنهم وعن قضيّتهم، ولا يثبِّطُهم غيابُ الكفاح المسلّح بل يعتبرونه مؤجَّلًا إلى حين. إنّهم قادرون، يقول.

الرجل الذي يشارف على السبعين لا يَهْرم، ولا يتعب. وأنا الذي أفقتُ على خبر رحيله شعرتُ بالذنب؛ طالعتْني في أخبار نعيه الصورةُ التي التقطتُها له لكي ننشرها مع حواراتنا. الصورة التي أردتُها أن تكون كوّةَ ماهر إلى عالم البقاء، أراها اليومَ في ملصقاتٍ وبوستراتٍ تؤكّد موتَه. أُمضي نهاري بإحساس عارمٍ بالذنب:ما كان يجدر بي أن أرضخَ لمشيئته وأغيّرَها. هاتان العينان الفلسطينيّتان الصافيتان في الصورة كانتا تحدّقان بي!

 

فسحة

منذ وفاة والدي قبل خمسٍ وثلاثين سنةً لم أبكِ.

منذ أن صرتُ "رجلًا" يقوم بواجباته، لم أذهبْ إلى دفنٍ طوعًا.

منذ أن قدرتُ على الكتابة لم أنْعَ أحدًا.

لكنّك، يا رفيقي الحنون، أبكيتَني. لم يكن ذلك حين مُتَّ وحسبُ، بل حين التقيتُك مريضًا كذلك وأخبرتَني أنّك راحل. تلك الأمسية، أنزلتَ دموعي للمرّة الأولى. وها أنا أكتب عنك نصًّا لم نتّفقْ عليه. خذلتَني يا أبا حسين.

كان نصُّنا المرتقبُ عن المخيّم. كنّا متحمّسيْن له، نتّفق على أن نكتبَه بالطريقة التي نحبّ. لكنّنا كنّا نؤجِّل اللقاء. كان نصَّنا الأجمل الذي لم نكتبْه. حدّثتَني كثيرًا عنه، وأخبرتُكَ كيف أحبُّ أن أصوغَه: أريد أن أتابعَكَ فيه طفلًا يركض في الأزقة الضيّقة، ويرى طاقةَ السماء فوقه أضيقَ من قدرته على السعي والنضال والعطاء. لكنّكَ خذلتَني يا أبا حسين، وخلّفتني لدمعتيْن، ولنصٍّ أكتبُه الآن وأنا أكرهُه.

ذهبتُ أنتظرُ خروجَكَ من المسجد. تركتُ مَن أعرفُهم متذرّعًا بالسلام على المعارف، ووقفتُ وحدي أخبّئ عينَيَّ بأسْودِ النظّارتيْن. وحين خرجتَ محمولًا، وقفتُ أعلى الدرج أنظرُ إلى علم فلسطين وهو يدثّرُك، وكأنّني أريدُ أن أصدّق أنّ أمثالَكَ يرحلون. مشيتُ في الجنازة حتّى أدخلوكَ بابَ المدفن، ورحلتَ.

أنتَ فلسطينُ، يا رفيقي الحنون، وأنتَ لا تُدفَن.

ستعودُ غدًا. بل إنّك قد عدتَ إلى فلسطين غدًا، ولو حثوةً من تراب.

 

بيروت

 

[1] راجعْ خلاصاتِ الحوارات مع ماهر هنا: https://goo.gl/GjjkGT

[2] "كان أبو عمّار مصرًّا على إعلان الدولة الفلسطينيّة. وكان الحكيم في نقاشاته مع عرفات يرفض هذا الإعلانَ رفضًا قاطعًا، ويطرح موقفَنا القائل إنْ ’لا دولة تُعلن قبل التحرير‘..." راجعْ حواره عن "الحكيم" هنا: https://goo.gl/DFLGn5

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.