إعلامُ العصر الجديد: تشويهٌ على وقع الحداثة
31-05-2019

 

قبل أسابيع قليلة، أوصلني البحثُ عن شيءٍ ما على الشبكات الاجتماعيّة إلى صفحةِ ناشطةٍ إعلاميّةٍ سوريّةٍ مقيمةٍ في أوروبا، تبثّ الفيديوهات المباشرة عند كلّ استحقاقٍ ومناسبة. كانت تلك الناشطة، الشهيرةُ بإثارتها للجدل بين الحين والآخر، قد نشرتْ شريطَ فيديو تحكي فيه موقفَها من قضيّة الجولان العربيّ السوريّ المحتلّ، وذلك بمناسبة إعلان الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب اعترافَ الولايات المتحدة بسيادة الكيان الصهيونيّ على الجولان. وقد كان وقعُ الكلام الذي تفوّهتْ به ثقيلًا على مسمعي، إذ قامت بتعريف الجولان المحتلّ بأنّه "منطقة جغرافيّة تقع بين إسرائيل وسوريّة، وهي أراضٍ متنازَعٌ عليها منذ زمنٍ بعيد، وملْكيّةُ أراضي هذه المنطقة مجهولةُ العائديّة، تحتوي على منطقةٍ منزوعةِ السلاح، وأخرى تحت السيادة الإسرائيليّة."[1]

ليست المشكلة في الناشطة نفسها، بل في الكلام الذي ورد على لسانها في هذا الفيديو، وفي فيديو آخر يتحدّث عن "إسرائيل" بكثيرٍ من السطحيّة وعشراتِ المغالطات والأضاليل.[2] ومَن يتأمّل العبارةَ أعلاه لا يجد نسفًا تامًّا للحقيقة فحسب، بل يجد أيضًا تماهيًا مطلقًا مع رواياتٍ إسرائيليّةٍ عن هذه القضيّة وغيرها من القضايا. ويصل إعجابُها حدَّ تصريحها بأنّها تتمنّى الحصولَ على الجنسيّة الإسرائيليّة، والذهابَ للعيش هناك ربّما.

لكنْ، ما علاقةُ ما قامت به تلك الناشطةُ بالإعلام ووسائله؟ ولمَ لا يكونُ سلوكُها سلوكًا فرديًّا لا يمثِّل إلّا قلّةً قليلةً، وينمّ عن جهلٍ وضحالةٍ وفراغ، لا عن موقفٍ مبنيٍّ على معلومات دقيقة وأصليّة؟

تشير الأرقامُ الواضحة في فيسبوك ويوتيوب أنّ مجموعَ مشاهَدات الفيديوهيْن الآنفَي الذكر أكثرُ من خمسين ألف مشاهَدة، عدا عن عدد متابعين لا يقلّ عن 120 ألف متابع. وواقعُ الأمر أنّ هذا هو عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات التي تضخّمتْ خلال السنوات القليلة الماضية، ورافقت "الربيعَ العربيَّ" في كلّ تفاصيله. ونجاحُ هذا النمط من الإعلام كان مرهونًا دائمًا بأفرادٍ يحملون خطابًا منفلتًا لا ضوابطَ له، وبفضاءٍ مفتوحٍ لكلّ فئات الجمهور.

 

 هذا عصرُ الإعلام الجديد، الناتج من ثورة المعلومات 

 

تطبيعٌ بالمجّان

لم تكن تلك الناشطةُ هي الوحيدةَ التي تتحدّث بهذه السطحيّة عن الصراع العربيّ - الإسرائيليّ. فالمدوَّنات العربيّة، وقنواتُ اليوتيوب، وصفحاتُ الفيسبوك، مليئةٌ بالمقالات ومقاطعِ الفيديو والصورِ والمعلوماتِ التي تحمل مغالطاتٍ كبرى عن هذا الصراع. وهي تروي ما تسمّيه "حقائق،" ولكنّها في الواقع قائمةٌ على رواياتٍ لا أصلَ لها، أو من خلال صفحاتٍ من كتبٍ أو مذكّرات لأشخاصٍ دون غيرهم، مجتزأةٍ أو منقوصة. وبات من السهل على المتابع أن يقرأ مقالًا في إحدى أشهر الخدمات الإعلاميّة العربيّة، بقلم كاتب عربيّ،[3] يمدح فيها حالةَ التطوّر العلميّ الهائل في "اسرائيل،" واهتمامَها بالعلم، مقابلَ تجهيل الحكومات العربيّة لشعوبها على مدى عشرات الأعوام التي مضت، ناسفًا كلَّ العوامل التي ساهمتْ في الوصول إلى هذه النتائج، وعلى رأس هذه العوامل: الاستعمارُ والاحتلالُ والنهبُ الرأسماليّ.

هذا ناهيكم بالصفحات الإسرائيليّة الوقحة، كصفحة إسرائيل بالعربيّة، أو صفحة أفيخاي أدرعي، اللتيْن تبثّان سمومًا بأشكالٍ ملوّنةٍ وجذّابة جعلتْ عشراتِ الألوف من متابعيها العرب يتجاوبون معها ويشكّلون حالةً من التطبيع، سببُه قلّةُ المعرفة أو الفضولُ... أو الاقتناعُ بما تبثّه هذه الصفحاتُ فعلًا - - وهذا هو الأخطر. ويأتي هذا الأمر في ظلّ غياب مشروع إعلاميّ عربيّ مضادّ، متفرّغٍ للتصدّي لهذه الموجات، الهادفةِ إلى إحداث تغييرٍ في عقول الأجيال الجديدة، وتشكيل وعيٍ قائمٍ على التطبيع المجّانيّ بشكلٍ تامّ.

ولم يقتصر هذا الأمر على المواقع والصفحات الإلكترونيّة، بل تعدّاه إلى الفضائيّات العربيّة. فهذه باتت ــ تحت وطأة الصراعات البينيّة العربيّة، والصراع مع إيران ــ تُغّير في خطابها الإعلاميّ تجاه المسألة الفلسطينيّة وقضايا الصراع مع العدوّ الإسرائيليّ. ويتجلّى هذا الأمر، مثلًا، في استضافة مسؤولين ومحلّلين إسرائيليين بشكلٍ دائم على بعض الفضائيّات الإخباريّة العربيّة، مثل قناة الجزيرة. كما بتنا نسمع على تلك الشاشات محلِّلين عربًا يهلّلون للإسرائيليين.[4]

 

تمييعُ المفاهيم

واقعُ الأمر أنّ تغييرَ ذهنيّة المتلقّي تجاه القضايا الكبرى، كالصراع العربيّ - الصهيونيّ أو الصراع مع إيران وتركيا أو حتّى صراع الشعوب مع الأنظمة، لم تأتِ مباشرةً من خلال هذه القضايا نفسها. فلقد جرى استثمارُ العديد من قنوات الإعلام الجديد على يد السفارات والمنظّمات غير الحكوميّة، وذلك في شكل حملاتٍ إلكترونيّة تُطاول مفاهيمَ مثل "حقوق الإنسان" و"السلام" و"اللاعنف" و"حقوق الأقليّات" و"العيش المشترك" و"المواطنة العالميّة،" وغيرها من المفاهيم، النبيلةِ الظاهر، لكنها بمثابة "حقٍّ يُراد به باطل."

هكذا مُيّعتْ هذه المفاهيمُ والمصطلحات، وسواها، إعلاميًّا بما يتناسب مع سياسة المموِّل. وهذا الأخير لم يكتفِ بتقديم المال، بل قدّم أيضًا التدريباتِ اللازمةَ لأصحاب هذه الحملات، وقام بإلزامهم بأطرٍ عامّةٍ لإطلاق هذه المفاهيم والعمل عليها. وقد تسلّلتْ هذه المفاهيمُ إلى الوعي الجمعيّ الشبابيّ العربيّ، وباتت مقاربةُ "السلام" أو "اللاعنف" على سبيل المثال تنطبق على الصراع العربيّ - الصهيونيّ. كما بات الحديثُ عن "حقوق الأقلّيّات والفئات المستضعَفة" بابًا واسعًا يمكن الولوجُ منه إلى إشعال الثورات، وتغييرِ الأنظمة، وإحداثِ القلاقل. وجرى حرفُ بوصلةِ الصراع بالكامل لدى شرائح واسعة من الشباب العربيّ.

 

تحطيمُ الرموز والثوابت

ولم تَسْلم كثيرٌ من الرموز والثوابت، التي كانت راسخةً في الوعي الجمعيّ العربيّ، من النَّسْف، وذلك من خلال برامجَ أو تقاريرَ أو مقالات، هنا وهناك. وبجولةٍ صغيرةٍ اليوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو في بعض المواقع الجديدة، ستقرأ عشراتِ المقالات التي تنال من قياداتٍ عربيّةٍ محدّدة، وتمدح أخرى. ويختلف الموضوعُ وتختلف الشخصيّةُ المستهدَفة بحسب توجّه الوسيلة وداعميها، لكنّ الواضح هو نسفُ القيادات التاريخيّة التي أحدثت فرقًا في الصراع مع الولايات المتحدة و/أو "إسرائيل" منذ بدء الصراع حتى اليوم. كما لم تَسْلم الأفكارُ القوميّةُ وتجاربُ اليسار العربيّ من الهجوم الكاسح، وكذلك التجربة الخاصّة بالثورة الفلسطينيّة أو تجربة المقاومة الوطنيّة في لبنان.

وفي هذا الأمر، لا ننفي الحاجةَ إلى القيام بمراجعة تاريخيّة ونقديّة واسعة للموروث التاريخيّ لبلادنا. لكنّ ما يجري اليوم في "الإعلام الجديد" المذكور يهدف إلى تعويم تجارب الغرب وحدها على أنّها تجاربُ ناجحة، وإبعادِ أيّ عاملٍ تآمريّ غربيّ أو إسرائيليّ عن سياق الحدث التاريخيّ العربيّ، وإظهارِ أنّ المشكلة الحقيقيّة ماثلة في الشعوب العربية وقياداتها و"العقل العربيّ."

 

أفكار مغلوطة ومدسوسة

كثيرة هي الأفكار الغريبة التي نقرأها كلَّ يوم في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل الطائفيّة والعرقيّة من جهة، وتغييرِ الأفكار الراسخة في المجتمعات العربيّة حول عشرات القضايا من جهةٍ أخرى. ولدى البحث عن مصادر هذه الأفكار، وجدناها على شاكلة مقالات في مواقع إلكترونيّة عربيّة، مجهولة الهويّة والتابعيّة، ظهرتْ في السنوات الماضية، وتتبنّى فكرةَ التدوين الجماعيّ بهدف رفع الوعي لدى الشعوب العربيّة، ورفع سويّة المحتوى العربي على شبكة الانترنت كما تدّعي في بيانات التعريف الخاصّة بها، من دون أيّ إشارة إلى إدارة التحرير، أو الدولة التي تصدر منها، أو جنسيّة ناشري هذه المواقع.[5] هذه المواقع تضمّ كتّابًا ومدوّنين شبابًا من جميع الدول العربيّة. وعددٌ لا بأس به منهم لا يعرف أصلًا مَن يدير هذه المواقع، لكنّ ما أوصلهم إليها شغفُهم في الكتابة وبحثُهم عن منصّاتٍ تنشر أفكارَهم. وبتحليل آليّة عمل هذه المواقع، تبيّن أنّها تعمل باستراتيجيّة تمرير مقال أو مقالين أسبوعيًّا يروّجان لأفكار غريبةٍ وصادمة، مقابل عشرات المقالات الثقافيّة والعلميّة المنوَّعة والتاريخيّة، العاديّة التي تُنشر يوميًّا، وتخاطب جميعَ الشباب العربيّ.

 

كثيرة هي الأفكار  التي نقرأها في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتهدف إلى إثارة القلاقل 

 

 المال يتحدّث

هناك عدّة عوامل تحدِّد توجّهاتِ الإعلام العربيّ الجديد، ومنها مصادرُ التبنّي والتمويل. فتمويلُ هذا الإعلام اليوم، بنسبته الكبرى، يُنسب إلى قطر، التي تحاول ضمَّ أكبر شريحة من الشباب المؤثِّر تحت عباءة مشاريع "الإعلام الجديد." وقد صرفتْ قطر أموالًا طائلةً في جذب الناشطين والإعلاميين الشباب لتأسيس منصّاتٍ مختلفةٍ تتيح هامشًا واسعًا من الحرّية، منها ما هو شخصيّ ومنها ما هو جماعيّ. وتصرّ قطر على أنّها راعي "ثورات الربيع العربيّ." ومنصّاتُ الإعلام الجديد التي بدأتْ قطر تمويلَها منذ بدء هذا "الربيع" نتاجٌ لهذه الثورات.[6]

وبينما لم تستطع السعوديّة أو الإمارات تأسيسَ مؤسّسات إعلام جديد توازي وتنافس ما تقوم به قطر، فإنّهما حشدتا أكبرَ جبهةٍ من الإعلام التقليديّ في وجه قطر وإيران، وقد دُفعت الملايينُ من الأموال السعوديّة للسيطرة على نسبة كبيرة من الإعلام المصريّ.[7] ومع اهتمام السعوديّة والإمارات بالإعلام التقليديّ، فإنّ ذلك لم يمنعْهما من شراء العشرات من المواقع والصحف الإلكترونيّة وتمويلها.[8] وهذه المواقع تلعب وفق السياسة الرسميّة، السعوديّة والإماراتيّة، دورًا رياديًّا في محاولات التخفيف من حدّة الصراع مع "اسرائيل."

على أنّ المؤسّسات المانحة الأوروبيّة والأمريكيّة، الحكوميّةَ وغيرَ الحكوميّة، تبقى اللاعبَ الأكبرَ في تمويل مبادرات الشباب في الإعلام الجديد. ونستطيع اليوم أن نلاحظَ تضاعفَ أعداد وسائل الإعلام الالكترونيّ، من صحف ومجلّات الكترونّية، وإذاعاتٍ وتلفزيوناتٍ تبثّ عبر الانترنت، إضافةً إلى المبادرات الإعلاميّة الثقافيّة. بعضُها يصرّح عن مموّليه، وبعضُها لا يصرِّح.

هذه الوسائل والمنصّات أُسّستْ بدافع خلق لغةٍ إعلاميّةٍ بديلةٍ للإعلام الرسميّ العربيّ، أو للإعلام الموالي للسلطات العربيّة. وهي تهدف - في ظاهرها - إلى رفع سقوف القيود على حريّة التفكير والتعبير، والترويج لليبراليّة سياسيّة اقتصاديّة اجتماعيّة. لكنّها - في باطنها - تستهدف تغييرَ الوعي الجمعيّ لدى الشباب العربيّ، وتمريرَ أفكار جديدة تنسف الثوابتَ والموروثات والرموزَ، بشكلٍ ناعمٍ وغير مباشر، يَخدم أجندةَ المموِّل.

ويكفي أن تتصفّح موقعَ أيّ مؤسّسة مانحة أوروبيّة أو أمريكيّة في واسم تقديم "طلبات التمويل" لترى أنّ تصنيفاتٍ مثل "إعلام المواطن" و"الإعلام البديل" و"وسائل الإعلام المستقلّة" واضحةٌ في طلبات التمويل وورشات العمل والزمالات والمنح.[9] وعادةً ما تُوضَع هذه الضوابطُ الفكريّة، ومدوّناتُ السلوك، وآليّاتُ الاستخدام، أثناء التدريبات المرافقة لعمليّات تأسيس هذه المشاريع. وفي غالب الأحيان يُضطر طالبُ التمويل إلى أنْ يوقّع على عقودٍ تحتوي على ضوابطَ وشروطٍ تتعلّق باللغة الإعلاميّة المستخدَمة في هذه الوسائل المستحدَثة بما لا يتعارض مع سياسات المؤسّسات المانحة تلك. وهنا تكمن خطورةُ هذه المشاريع.

 

في النهاية

يتمثّل مستقبلُ الإعلام والصحافة في الإعلام الجديد. كما يُشكّل الجيلُ الناشئ، من اليافعين والشباب، الجيلَ الأكثرَ متابعةً لوسائل التواصل الاجتماعيّ. وما نحتاجه اليوم هو برنامجٌ حقيقيّ وواضح يهدف إلى إنشاء محطّات ومبادرات توجِّه الإعلامَ الجديدَ بطريقةٍ محبّبة، وجذّابة، وذاتِ مغزًى، وفق آليّات تقوم على تحليل مضمون الدفق الحاليّ في وسائل التواصل الاجتماعيّ، والعمل على الاستفادة من ثغراتها، وقطْعِ الطريق على التوجيه الآتي من هذا الدفق، الذي لا يخدم قضايا شعوبنا، ولا يليق بإرثنا التاريخيّ وحضارتنا العريقة.

دمشق


[3] بإمكانكم مراجعة حسابات ناشطين مثل عمّار عبد الحميد، أو صاموئيل تادرس، مقدِّمَيْ برنامج عمّار وسام على قناة الحرّة. وبإمكانكم الاطّلاع على آراء تادرس في التفوّق الإسرائيليّ من خلال الرابط: https://bit.ly/2ymZoei

[5] من المواقع الشهيرة بإثارة الجدل والأفكار المغلوطة موقع دخلك بتعرف وهو منصّة تدوين جماعيّ مجهولة الهويّة والمصدر. https://dkhlak.com/

[6]  شهدت السنواتُ الأخيرة جملةً من المنصّات الشخصيّة التي لاقت رعايةً قطريّةً، مباشرةً وغير مباشرة، مثل منصّة الدحّيح، التي تبنّتها شبكة الجزيرة، ثمّ منصّة جو شو التي تبنّتها قناةُ العربيّ.

[9]   على سبيل المثال من الممكن الاطّلاعُ على برنامج مِنَح ما يسمّى "الصندوق الوطني للديمقراطيّة "https://www.ned.org/apply-for-grant/ar/ 

قاسم الشاغوري

باحث وناشط سوري في الشأن العامّ.