هذه هي المرّة الأولى التي أعترفُ فيها
20-08-2018

 

أكتبُ كي أخفِّف الوخزَ في جلدي.

كي أساعدَ يديَّ الطفوليّتين على الضغط على بالون الألم كلّما عنّت الذكرى.

كي ألوّنَ هذا البالونَ الثخين. أُجمِّلَ ما يحتويه، أو أصيّرَه ــــ على الأقلّ ــــ مادّةً قابلةً للرؤية.

أكتب كي أجدَ للألم مَخرجًا من ثقب، أو نافذةٍ صغيرة، أو فتحةٍ في الجدار الإسمنتيّ.

أكتب كي أُخرجَ الطيورَ السودَ من غرفة الطفولة. ألوّنها، وأقدّمها إلى العالم، وأساعدها على الطيران في أسرع وقتٍ ممكن.

***

الغرفة هي الطفولة. وفيها، تُحتجز الذكرياتُ كأنّها طيور.

ما زالت الطيورُ صغيرةً. أذكر أنّها كانت تطير عند مدخل بيتنا، وفي الحارة، وفي باحة مدرستي، وفي الملعب. كنتُ ألعب معها مرّات، وأركلُها مرّات، وأمقتُها غالبًا. لم أكن أفهمها. أحاول التحديقَ إليها، فيعلو نعيقُها.

***

الآن، وأنا أكتب، أشعر بنبضةٍ قويّة، تتلوها نبضتان سريعتان. ها أنا في عامي الرابع والعشرين. أشعرُ بها مجدّدًا كلَّما تذكّرتُ الطيورَ السود. الطيورُ، التي ظننتُها تلعب معي، كانت تحاول أن تشوّهَني. كنتُ طفلًا، ولم أستطع حينها أن أدرك أنّ ما كانت تقوم به ليس فعلَ حبّ. كنتُ أراها بعينيْ طفلٍ ناشئ وهي تقوم بتقبيلي. وعندما نضجتُ علمتُ أنّ فعلها كان نهشًا مقيتًا لجسدي!

كيف أصبح عددُها أكثر من عشرة؟ مَن سمح لها بالدخول؟ وقتها، تأكّدتُ من النوافذ والأبواب، فقادني خطُّ ضوءٍ مائل إلى الباب المفتوح. تراجعتُ كهواءٍ كثيف، وأسندتُ ظهري إلى جداريْن كي أتيقّنَ أنّ ما عليَّ أن أواجهَه هو ذلك البابُ فقط.

انتظرتُ ثلاثةَ أيّام كثيفة. قبلها، لم أكن أعي أنّ أعضائي مِلْكي وحدي، وأنّ في إمكانها أن ترفضَ ما تشاء، وأن تمقتَ ما تشاء. لم أكن أعلم أن ما يُمارَسُ عليّ جرمٌ. لذلك لم أجد تعليلًا لرفضه. بل لم أكن أرى أنّ الرفض خيار. فخضعتُ له.

لقد تصوّرْنا أنّ للأقربين الحقَّ في فعلِ ما يحلو لهم، وأنّ أفعالَهم ــــ إذا جاءت غريبةً ــــ فلحمايتنا لا غير! وكيف لنا، كأطفال، أن ندركَ أنّ خلف الصور الأنيقة لبعض الأقارب وحوشًا رديئةً؟

كنتُ في الخامسة حين تعرّضتُ لأوّل محاولة تحرّش. وبعد سبع سنوات مليئةٍ بهذا الفعل الحقير، أدركتُ أن عليّ أن أبدّلَ دوري: من ضحيّةِ وحشٍ مفترس، إلى مخلوقٍ من نار.

***

يُفتَح البابُ قليلًا، ويزداد الجوُّ غموضًا. لم أتعرّفْ إلى اليد التي امتدّت إليّ. أذكرُ أنّه بدا رجلًا، كتفاه عريضتان وخصرُه ضيّق.

مرَّ الضوءُ على جسده الممشوق، حتى بلغ رقبتَه، فوجهَه. تعرّفتُ إليه: إنّه عمّي، الأخ المقرّب إلى والدي.

اقترب ومدَّ يدَه الكثيفةَ الشعرِ إلى رقبتي، ثمّ إلى كتفي الناعمة. كنتُ أنظر الى يده عند خاصرتي، عاجزًا عن فهمِ ما يحصل. وخز وجهي شعرُ ذقنه القصير. شفتاه الممتلئتان راحتا تمرّان على كتفي اليمنى، فجعلتا جلدي أكثرَ احمرارًا.
تأكّدتُ أنّ هذه العصافير التي كانت تحوم حولي لم تكن تغرّد بل كانت تحاول أذيّتي.

عندما سألتني أمّي عن احمرار كتفي، أخبرتُها أنّ الطاولة انقلبتْ أثناء جلوسي على الأرض فأصابت كتفي من الخلف. لم تصدّقْني، ولم نتحدّثْ بعدها في هذا الموضوع. تركتني أتأمّل في الصوت الذي رافق الحادثة. الصوت يشبه كلماتي المكتوبةَ الآن: ضجّةً جامدةً في وضع السكون؛ ثورةً داخليّةً هادئةً لا يسمعها أحد.

ربّما ستنقلب أشياءُ كثيرةٌ غدًا بعد أن أنجح في تحويل ألمي إلى قضيّة الباقين الذين صمتوا خلف جدران غرفهم وتركوا الطيورَ السودَ تحوم في كوابيسهم.

***

ما زلتُ اليوم أراه: حرًّا، طليقًا، في مجتمعٍ ينحدر نحو التقليد؛ مجتمعٍ أبقاني عالقًا بين البوْح والكتمان، بين الثورة والصمت.

مجتمعُنا يظلمنا أيضًا حين يحتجز "المتحرَّشَ به" داخل صورة الضعيف لسنوات. ونُعتبر محظوظين إنْ وجدْنا مَن نمنحه ثقتَنا الكاملةَ كي نخبرَه بما حصل، من دون أن نَلقى حُكمًا مسبّقًا ولومًا كاسحًا.

فهذا المجتمع جعل البوحَ بالمحظور عيبًا، لكنّه لم يعمل على منع هذا العيب!

***

الآن، إذ أحاول أن أواجهَ ذكرياتي، يستمرّ الجاني في اصطياد ضحاياه.

صحيح أنني كبرتُ ولم أعد أخشاه، لكنّني ما زلت أنتظر أن يحين الوقتُ كي أواجهَه بقوة؛ وأن أواجه معه مجتمعًا ظالمًا بصمته، مقيَّدًا بتقاليده، متمسّكًا بخوفه إلى اليوم.

اليوم، أسعى إلى إنهاء تعليمي الجامعيّ، فأصير شابًّا مستقلًّا، وأواجه عمّي المتحرِّش والكثيرَ من المتحرّشين الآخرين.

الآن، أعتبرُ نفسي رجلًا يحمل قضيّة. يقف مع المستضعَفين، ويُحاول نشر التوعية الجنسيّة على أوسع نطاق.

من لم يتعرّضْ لتجربةٍ مثيلة لن يشعر بما أشعر، حتى لو أفنيتُ عمري في وصفِ ما يعنيه أن تطاردَني الذكرى، أن تلمسَني وسط الزحام فجأةً، أو على طريق سفر. لكنّني على يقينٍ من أنّ الخوف من التعرّض للتحرش سيحملنا على التكاتف من أجل مواجهة هذا الفعل اللاأخلاقيّ، ولتشجيع من انتُهِكتْ خصوصيّةُ جسده على التكلّم، أو لحماية المعرَّضين له على الأقلّ.
هذه هي المرّة الأولى التي أعترفُ فيها لنفسي، بعد أن فهمتُ وكبرت، بأنّني كنتُ طفلًا صغيرًا تحرّش به عمُّه.

سوريا

*اسم مستعار. مواليد 1994. طالب اختصاص هندسة معلوماتيّة. متطوّع في جمعيّة تُعنى بحقوق الطفل.

قصيّ عبد الباقي*

مواليد 1994. طالب اختصاص هندسة معلوماتيّة. متطوّع في جمعيّة تُعنى بحقوق الطفل.