كورونا تستعجل رقمنةَ المناهج اللبنانية
29-10-2020

 

توطئة

يُواجه القطاعُ التعليميُّ في لبنان تحدّياتٍ جمّةً على خلفيّة انتشار فايروس كورونا التاجيّ. وهذا ما دفع المؤسّساتِ التعليميّةَ إلى التوقّف عن التعليم الحضوريّ منذ آذار الماضي، وإلى اعتماد أنماطٍ جديدةٍ في التعليم، أبرزُها التعليمُ الإكترونيُّ المتزامنُ عن بُعد (Synchronous Digital Education).

بعد أن انتهى العامُ الدراسيّ 2019-2020 بخطّةِ طوارئ تربويّة، وبعد إلغاءِ التقدّم إلى بعض الشهادات الرسميّة، انتظر المعلّمون بدايةَ العام الدراسيّ الجديد 2020-2021، معلّقين آمالًا من وزارة التربية والتعليم العالي على إطلاق منصّةٍ رقميّة (Digital Platform) تؤمِّن بيئةً تعليميّةً وإلكترونيّةً شاملة لتذليل الصعوبات التي رافقتْ عمليّةَ التعليم عن بُعد سابقًا.

في أيلول الفائت، طرحت الوزارةُ فكرةَ التعليم المُدمَج (Blended Learning)، أيْ أنْ يكون التعليمُ حضوريًّا وإلكترونيًّا (يصفه آخرون بـ"التعليم المادّيّ والرقميّ") بشكلٍ تكامليّ، بحيث يُقَسَّم المتعلِّمون إلى مجموعاتٍ لتخفيف الازدحام في الغرف المدرسيّة. إلّا أنّ هذه الخطّة التي اعتمدتْها الوزارةُ مع بداية هذا العام الدراسيّ قد تكون افتراضيّةً وقابلةً للتغيير؛ ذلك لأنّ التعليم الرقميّ عن بُعد يحمل معه بعضَ العيوب التي قد تُعوِّق دورَ المعلِّمين في تقويم المتعلِّمين في بعض المجالات، ولا يراعي أحيانًا معاييرَ الجودة في التعليم. وهذا ما يسبِّب قصورًا في تحقيق الأهداف التربويّة، خصوصًا أنّ بعض هذه الأهداف يرتبط مباشرةً بالتدريب العمليّ للموادّ العلميّة، المرتكزةِ أساسًا على تنمية مهارات المتعلّمين بالعمل التعاونيّ، وأساليبِ التواصل، والمشاركةِ التفاعليّة والحركيّة، التي لا يمكن أنْ تتحقّقَ إلّا من خلال الوجود المادّيّ للمتعلّمين في المدرسة.

 

أين نحن اليوم؟

مع انطلاقة العام الدراسيّ الجديد، صدرت التعاميمُ، بتوجيهٍ من معالي وزير التربية والتعليم العالي، بضرورة البدء بالتدريس في المدارس والمعاهد التقنية حضوريًّا، مع الأخذ بالاحتياطات الصحّيّة والتدابير الوقائيّة كافّةً. ولا شكّ في أنّ هذه الخطّة تُحقِّق مبدأَ العدالة في التعليم وأحقّيّةِ التعليم للجميع، على الرغم من كلّ المخاطر الصحّيّة التي قد تَلْحق بالعاملين في المؤسّسات التعليميّة والمتعلّمين وذويهم، في حال انتشار فايروس كورونا في بيئة المدارس الاجتماعيّة. ذلك أنّ سرعةَ انتشار فايروسات الأنفلونزا الموسميّة وكورونا المستجدّ، مع اقتراب فصل الشتاء، قد تُهدِّد بإقفال المؤسّسات التعليميّة في لبنان من جديد. ومن هنا نواجه اليومَ إشكاليّةً تتعلّق بكيفيّة اعتماد التعليم الرقميّ عن بُعد لتدريس المناهج التقليديّة الصادرة في العام 1997، وهي مناهجُ لم تَعُد تتلاءم مع واقع التطبيقات الإلكترونيّة والمنصّات التعليميّة الرقميّة اليوم، ومن ثمّ لا يمكن أنْ تتحقّق كلُّ الأهداف التربويّة المرجوّة بطريقةٍ متقنة.

ونتساءل: إلى أيّ مدًى يمكننا تحقيقُ أهداف المناهج التعليميّة، في هذا العام الاستثنائيّ، مع استمرار انتشار فايروس كوفيد-19؟ وهل جائحة كورونا تستعجل رقمنةَ مناهج التعليم (Digitizing Curriculum) في هذه الظروف الماليّة المتردّية؟ وإلى أي مدًى يمكننا اعتبارُ البنى التحتيّة في المدارس الرسميّة جاهزةً لاعتماد التعليم عن بُعد عبر المنصّات الرقميّة؟ وهل كلُّ الأُسَر اللبنانيّة تستطيع تأمينَ الأجهزة الإلكترونيّة والهواتف الذكيّة لأولادها كي يتمكّنوا من متابعة الدروس عن بُعد في هذه الظروف؟

 

هل كلّ الأُسر تستطيع تأمينَ الأجهزة الإلكترونيّة لأولادها؟

 

لقد أصدر وزيرُ التربية والتعليم العالي التعميم رقم 30/م/2020 ملحَقًا بتعميميْ 28/م/2018 و21/م/2016 المتعلّقيْن بتقليص الدروس والمحاور في المناهج اللبنانيّة لمختلف المراحل والموادّ الدراسيّة. ذلك لأنّ قرارات العودة إلى التدريس جاءت ضمن شروطٍ وقائيّةٍ محدّدة، ودوامٍ مدرسيٍّ مختصَر ومتقطّع. وبهذا القرار، تكون الوزارةُ، بالتعاون مع المركز التربويّ للبحوث والإنماء، قد ساهمتْ في حذف الدروس التي لا ترتبط بحياة المتعلّم بشكلٍ أساس، خصوصًا أنّ الجائحة أثّرتْ سلبًا في أنماط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة عند مختلف الأُسر في لبنان.

واليوم، تتحدّى كورونا الأنظمةَ التعليميّةَ في العالم، ولبنان بالتحديد. فإلى جانب المعاناة التي يعيشها المواطنُ اللبنانيُّ جرّاء انقطاع الكهرباء وتقنينها وبطءِ الإنترنت (الجيل الرابع - 4G) وخبرةِ المعلِّمين المحدودة في اعتماد التعليم الرقميّ (Digital Education)، فإنّ المناهجَ الدراسيّة، بمضامينها وأنشطتها، لم تساعدْ على تطبيق أنماط التعليم الافتراضيّ وتقنيّاتِ تدريسه بطريقةٍ مرنة. ولو أنّ محتوى الكتب الورقيّة تحوّل في السابق إلى صفحاتٍ إلكترونيّة، لكانت تكلفةُ الكتب والقرطاسيّة اليوم أقلَّ عبئًا على الأهالي.

الجدير ذكرُه أنّ الوزير السابق الأستاذ إلياس بو صعب هو أوّلُ مَن أطلق في العام 2016 مشروعَه القائم على تحديث المناهج وعصرنتِها ودخولِها العصرَ الرقميّ. إلّا أنّ تحويلَ المناهج التعليميّة إلى إلكترونيّة قد تأثَّر بالأزمات السياسيّة والماليّة التي مرّت بها البلاد. ولو هُندست المناهجُ الحديثةُ ووُضع محتواها الرقميُّ والتفاعليُّ في متناول المتعلِّمين والمعلِّمين، لكانت العمليّةُ التعليميّةُ اليوم أسهلَ بكثير، ولأوفتْ بالحاجاتِ الأساسيّة لتحقيق الأهداف التربويّة المرجوّة في ظل الجائحة وتداعياتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة. وقد يكون كوفيد-19 المحفِّزَ الإيجابيَّ عند وزارة التربية لاستعجال رقمنة المناهج في لبنان وتأمين الالتزامات المادّيّة لها.

 

أهمّيّة رقمنة المناهج اللبنانيّة

تتميّز رقمنةُ المناهج (Digital Curriculum) بأنّها قادرةٌ على تحويل كلِّ مكوّنات المنهج (من أهداف دروس ومحتوًى وتطبيقاتٍ وأنشطةٍ وتقويمٍ وتقنيّاتِ تدريسٍ وتواصلٍ بين المعلّمين والمتعلّمين) إلى منظومةٍ مصغَّرةٍ تعمل في بيئةٍ إلكترونيّةٍ، عبر منصّاتٍ رقميّةٍ تُساعد الرقميّين على نقل النصوص والرسوم والمقاطعِ الحركيّة والصور والرسائلِ الصوتيّة بطريقةٍ سريعةٍ وسهلة (مع إمكانيّة تعديلها وحفظِها عبر الكمبيوتر أو في أيٍّ من الأجهزة الذكيّة)، وتُسهم في نجاح العمليّة التعليميّة والتعلّميّة بالتفاعل التقنيّ والاجتماعيّ بين المتعلّمين. كما تتميّز بقدرتها على تقويم المتعلّمين وتحديدِ درجةِ تحصيلِهم بدقّة، وتُنمّي مهاراتِهم التكنولوجيّة، وتجذب انتباهَهم إلى التركيز والتواصلِ مع الآخرين، وتُسهم في تقويم المناهج بطريقةٍ سريعة.

ومن ثمّ فإنَّ التعديل على المناهج، والإضافات، وحذفَ بعض الدروس، قد تصبح أسهلَ على التربويّين لمواكبة العصر، وما يرافقه من تقدمٍ علميّ وتكنولوجيّ في العالم.

 

على ماذا نراهن اليوم؟

نراهن على وزارة التربية ووقوفِها إلى جانب الأهالي لاجتياز الأزمات الماليّة الخانقة وارتفاعِ سعر صرف الدولار. ونأمل أنْ تتوافرَ المبالغُ النقديّةُ من الجهات المانحة لتقديمِ ما تيسّر من مساعداتٍ مادّيّةٍ نقديّةٍ لأولياء الأمور حتى يتمكّنوا من شراء الأجهزة الإلكترونيّة ومستلزماتِها لأولادهم.

كما يجب تأمينُ البنى التحتيّة المناسبة في المدارس الرسميّة، وصيانتُها، مع الإمدادات اللوجستيّة من تجهيزاتٍ إلكترونيّةٍ وغيرها، لكي تُساعدَ بمجملها على نجاح منظومة التعليم عن بُعد عبر المنصّات التعليميّة الرقميّة، خصوصًا أنّ واقع انتشار فايروس كورونا في كلّ المحافظات اللبنانيّة لا يوحي لدى المسؤولين في وزارة الصحّة اللبنانيّة أنَّ هذا الوباء سينتهي قريبًا. ومن ثمّ فإنّ التعليمَ الحضوريَّ الإلزاميّ قد يعرِِّض العاملين في المدارس والمتعلّمين إلى خطر الإصابة بالفايروس، مهما التزمت الإداراتُ بأساليب الوقاية الصحّيّة أو عملتْ على تقسيم المتعلّمين إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ في الغرف المدرسيّة.

أخيرًا، نأمل أن يقوم المركزُ التربويُّ للبحوث والإنماء، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، بإعدادِ المعلِّمين وتدريبِهم على استعمال هذه التطبيقات على مبدأ التعليم المستمرّ. فاعتمادُ نمط التعليم عن بُعد لم يَعد ترفًا أو خيارًا، بل يمكّننا من أنْ نواكب الحداثةَ والمناهجَ المطوّرة واستعمالَ التكنولوجيا في التدريس.

طرابلس

رائد عصام محسن

حاز الدكتوراه في العلوم التربويّة من جامعة القدّيس يوسف في بيروت، والميتريز في الفيزياء العامّة من الجامعة اللبنانيّة. يعمل حاليًّا أستاذًا مساعدًا في كلّيّة التربية في جامعة الجنان، ويُشْرف على العديد من رسائل الماجستير في "المناهج وطرائق التدريس" و"علم الإدارة التربويّة." لديه العديد من الأبحاث العلميّة المحكّمة في مجال الإدارة التربويّة. أصدر في العام 2019 كتابًا بعنوان: مؤسّسات التعليم المهنيّ والتقنيّ الخاصّة في خدمة المجتمع.