يوميّات فتاةٍ عربيّةٍ مقبلةٍ على الزواج
17-04-2016

                                                               

"ألم يعجبْكِ هذا الفستانُ أيضًا؟ لكنّه يبدو جميلًا عليكِ، ويتناسبُ كثيرًا مع لون بشرتك!" هذا ما تُؤَكّده البائعةُ بكلّ لطف، في محاولتها الأخيرة لإرضاء زبونةٍ أقلُّ ما يقال عنها إنّها "نكدة" و"متطلِّبة." أبتسمُ لها اعتذارًا، معلِنةً بخجلٍ أنّني سأفكّر في الموضوع، وأنسلُّ بحياءٍ إلى الخارج وأنا أتأسّف مسبّقًا على البائعة القادمة، التي ستكون هي الأخرى ضحيّةً جديدةً من ضحايا ذوقي الصعب.

 

لستُ من اللواتي يزدرين كلّ ثوبٍ لا يتوافق مع ذوقهنّ. أنا بكلّ بساطةٍ أبحثُ عن ثوبِ زفافٍ بسيطٍ، “a simple wedding dress” بالإنكليزيّة. وبعد أشهرٍ من التنقّل بين المحلّات والأسواق، استنتجتُ أنّها من أكثر المهمّات صعوبةً.

في البدء سَخِرتُ في نفسي من صديقتي التي استصعبتْ إيجادَ ما أبحثُ عنه ـــ إذ كيف سأجدُ ثوبًا لا يحتوي كلَّ خرزِ العالم، ولا يتكوّرُ على جانبيَّ كأثواب الأميرات، ولا يفوق ثمنُه ما أجنيه طوال أشهر؟

لكنْ على رسلِكُم؛ فقصّتي مع حفل الزفاف روايةٌ ذاتُ فصولٍ متنوّعة، وقد يكون الثوبُ (الذي لم أجدْه حتى اللحظة) أكثرَ فُصولها تشويقًا، لكنّه ليس الفصلَ الأوحد.

***

دعوني أبدأ سردَ قصّتي من البداية، من اللحظة التي قرّرنا فيها، أنا وحبيبي، أن نكلّل قصّةَ حبّنا الطويلةَ بالزواج. قرارٌ كهذا ما كنّا لنجرؤ على اتّخاذه قبل قيامنا بالخطوة الأهمّ بالنسبة إلى المجتمع أو العائلة، وهي شراءُ المنزل.

نعم، شراءُ البيت يكاد يضاهي قرارَ الزواج أهميّةً. لا يهمّ إنْ كنتما لا تملكان المالَ، ولستما مستعدّيْن للركوع تحت نِير الديون والصّكوك البنكيّة. ولا يهمّ إنْ كنتما لا تحبّان شراءَ منزلٍ بعنوانٍ ثابتٍ، بل تفضّلان الانتقالَ من بيتٍ إلى بيت تبعًا لظروف حياتكما. ولا يهمّ إنْ كنتما تخطّطان لتوفير الأموال لبدء مشروعٍ تجاريّ، بدلًا من تسخيرِ كلِّ ما تملكانه في سبيل منزلٍ لن تَستخدما أكثرَ من نصفه لسنوات. ولا يهمّ إنْ كنتما ما تزالان تائهيْن بين البقاء في وطنٍ لا يؤمِّن لكما أبسطَ حقوقكما، والرحيلِ الى أوطانٍ تحترم الإنسانَ وحاجاته. كلُّ هذه التفاصيل "الثانويّة" لا تعني أحدًا، ولن تنفعَكما يومَ يصفعُكما أحدُهم بالسؤال المعتاد:

"هل اشتريتما المنزل؟"

إنْ كان الجوابُ "نعم،" فسيبدأ استجوابٌ آخرُ حول مساحةِ المنزل وموقعِه وعمرِه وسعرِه. وهذا استجوابٌ لن يخلو من النقد والاستهجان، ولكنّه يبقى مقبولًا أمام ما سيحصل لكما إنْ كان جوابُكما نفيًا. ففي هذه الحال سينظر السائلُ إليكما وكأنّه لا يَفهم ما حَلّ بـ"شباب اليوم،" وسيُغدق عليكما كمًّا هائلًا من "النصائح" والآراء و"الإحصائيّات" التي يُفترضُ أن تُظهِرُ جليًّا ضرورةَ شراء المنزل قبل الزواج. وعبثًا ستسعيان إلى إقناعه بأنّكما راشدان وتستطيعان تقريرَ مصيركما.

البحث عن منزل مهمّةٌ شاقّةٌ في حدّ ذاتها، وخصوصًا عندما تتجاوز أسعارُ الشقق ما قد تجنيانه في عشرات السنين. ولكي أجعلَ الأمرَ أكثرَ وضوحًا، إليكم بعضَ الأرقام:

الحدّ الأدنى للدخل في لبنان مثلًا هو 500$، وأسعارُ المنازل في أيّ منطقةٍ "متوسّطةِ البعد" عن بيروت تتعدّى 1500$ للمتر المربّع الواحد. وهذا يعني أنّ أيّ منزلٍ بمساحةٍ تقارب الـ 100 متر مربّع سيتعدّى سعرُه 150,000$! بالطبع سيحتاج المنزلُ إلى أثاثٍ وأدواتٍ كهربائيّة. ولنفترضْ أنّكما لن تبذّرا الأموالَ على أمورٍ ثانويّةٍ كالديكور، فسيكون عليكما أن تدفعا ما يقارب 20,000$. فيصير المجموع: 170,000$... على الأقلّ!

قرارُ الخوض في ديْنٍ بهذا الحجم بالنسبة إلى زوجيْن شابّيْن يبنيان مستقبلهما ليس قرارًا سهلًا، ولا يجب فرضُه على أحد. لكنّنا نعيش في مجتمعٍ يُجبِرُ بعضَنا في الكثير من الأحيان على فعلِ ما لا يريدُه، إرضاءً للعائلة والأحبّة فقط. ومن حسن حظّنا، أنا وحبيبي، أنّنا خطّطنا لشراء المنزل منذ سنين، فكان جوابُنا بالإيجاب عن السؤال الصعب كافيًا ليريحَنا من كمٍّ هائلٍ من النقد والضغط النفسيّ.

***

اعتقدْنا لوهلةٍ أنّنا نجونا. لكنْ، مع اقتراب موعد الزّفاف، فوجئنا بسؤالٍ جديدٍ لم نكن نحسب له حسابًا:

"وكيف التحضيراتُ لحفل الزفاف؟"

جوابُنا في البدء كان الابتسامَ بلطفٍ متردّد، وبالتأكيد أنّنا لم نقرّرْ بعدُ إنْ كنّا سنقيمُ أيَّ حفل. كان القرارُ واضحًا لكليْنا، لكنّنا لم نكن مستعدّيْن بعدُ للخوض في جدلٍ عقيمٍ آخر. حاولنا تلطيفَ الصدمة المقبلة، لكنّ التهرّبَ ما كان لينقذَنا إلى الأبد. وكان علينا أن نواجه الحقيقة الكبرى ونبدأ الجولة الجديدة من معركتنا.

تطلّب الأمرُ الكثيرَ من الشجاعة حتى أقنعْنا مَن حولنا بأنّنا نحبُّهم جميعًا ونتمنّى مشاركتَهم كلَّ أفراحنا ولكنّنا ـــ بسبب ظروفنا ـــ قرّرنا الاكتفاءَ بحفلٍ بسيطٍ يشمل العائلةَ المصغّرة جدًّا. وعلى الرغم من "غرابة" الأمر، فقد تلقّينا الكثيرَ من التشجيع من أصدقاء يتمنّوْن فعلًا أن يفعلوا مثلنا، ولكنّهم عاجزون عن فعله خوفًا من غضب العائلة والأحبّة. آخرون عارضونا بشدّة. وبعضُهم لم يكتفِ بالمعارضة، بل وجّه الملامة إلينا أيضًا، وكأنّ قرارنا عدمَ إقامة حفلٍ إهانةٌ شخصيّةٌ لهم!

لا أعرف إنْ حضّرتم زفافًا من قبل، أو تملكون أدنى فكرةٍ عن كميّة الوقت والأموال التي تُهدرُ من أجل 4 أو 5 ساعاتٍ من الاحتفال. سأتحدّث عن الأسعار في لبنان، وأعتقد أنّ الأمر ينطبق بطريقةٍ نسبيّةٍ على بقيّة العالم:

- سعرُ أيّ ثوب زفافٍ لائقٍ يتراوح بين 1800$ و5000$.

-  تصفيفُ الشعْر، ووضعُ مساحيق التجميل، يكلّفان ما بين 400$ إلى 1000$، وربّما أكثر. الجدير ذكرُه أنّ كلفة هذين الأمرين في أيّ يومٍ آخر لا تتجاوز 100$، لكنْ عندما تتحوّل "الزّبونةُ" إلى "عروس" فإنّ الأسعار، وبقدرة قادرٍ، تُحلِّق عاليًا.

-  تصوير الزفاف والمدعوّين، والحصولُ على نسخِ فيديو للحفل، بالإضافة إلى عددٍ محدودٍ من الصّور المطبوعة ورقيًّا ومئاتِ الصور الرّقمية: الكلفة هنا تتراوح بين 1500$ و3000$.

- الورود والزينة تكلّف مبلغًا يتراوح بين 2500$ و5000$.

-  الـD.G (مسؤول الموسيقى) والموسيقى تكلّف ما بين 1000$ و2000$.

- العشاء في أيّ مطعمٍ لبنانيّ "متواضع" يتراوح بين 35$ و50$.

- تكاليف الزينة والضيافة تكلّف ما بين 2500$ و5000$.

كلّ تلك الأرقام تقريبيّة، وتنطبق على الفئة المتوسّطة التي لا تسعى إلى البذخ والتبجّح و"التفنطز."

خلاصة الأمر: إنّ أيَّ زفافٍ متواضعٍ من 200 مدعوّ يكلّف ما بين 20000$ و30000$! وهذه الأرقام تفوق المنطقَ في رأيي، وتدفعني إلى أن أستنتج أنّ الزفاف أرضٌ خصبةٌ للنَّصْب بحجّة أنّه "يومٌ واحدٌ في العمر."

قرارُنا عدمَ إقامة حفل زفاف تضمّن تجرّعَ بعض الانتقادات التي تشمل عباراتٍ من قبيل: "شو أرامل تَما يعملوا عرس؟" أو "العمى عالبخل،" أو غير ذلك من الكلام اللاذع. لم يتخيّلْ أحدُهم، ولو للحظة، أننا ربّما لا نحبُّ حفلاتِ الزفاف. لنضعْ جانبًا مسألة التكاليفِ المُبالغِ فيها، وهي تُعدّ من الأسباب الأساسيّة خلف قرارنا، لكنّني شخصيًّا لا أحبّ حفلاتِ الزفاف، ولا أستمتعُ بها؛ ففيها أُجبرُ على التحوّل إلى امرأةٍ لا تشبهني! مشكلتي الأساسيّة هنا لا تكمن في الكعبِ العالي والملابسِ الأنيقة ومساحيقِ التجميل فحسب، بل تكمن أيضًا في تحويلنا هذا اليوم المميّزَ إلى مسرحيّةٍ بممثّلين وفصولٍ وأدوار: مسرحيّةٍ نعيد تكرارَها أجيالًا وراء أجيال، من دون أن نسأل أنفسَنا مرّةً واحدة: لماذا نقوم بها؟

لا أذكر زفافًا حضرتُه إلّا وشعرتُ بالرغبة في العودة إلى المنزل، ونزعِ مساحيق التجميل الغبيّة عن وجهي، وارتداءِ ملابس النوم. لكنّني سأٌقنِع نفسي بأنّ حفلاتِ الزفاف ليست قصاصًا قاسيًا بالنسبة إلى الجميع، وبأنّ بعضَ الناس يستمتعون فعلًا بالكعبِ العالي والبذلةِ المنمّقة والوقوفِ ساعاتٍ في المجالس وتبادلِ المجاملات. وسأُقنِعُ نفسي أيضًا بأنّ الرافضين لإلغائنا حفلَ الزفاف يحبّوننا إلى درجةٍ لا يستطيعون معها تخيّلَ حياةٍ لم يشاركونا فيها حفلَ زفافنا. ولكنّني أعرف أيضًا أنّ مَن يحبّوننا حقًّا هم مَن يتفهّمون ظروفَنا وقراراتِنا، ويَسْعدون لفرحنا حتى في غيابهم؛ ذلك لأنّ المحبّين الحقيقيين لا يحتاجون إلى تبريراتٍ وتفسيراتٍ ومجادلات.

***

بعد انتهاء الفصل الأول من رحلة زفافنا البسيط، وبعد تقبّل العائلة على مضض لقرارنا عدمَ إقامة حفل، كان عليّ أن أبدأ البحثَ عن ثوب زفاف. وكما أخبرتُكم سابقًا، فقد كانت تلك هي المهمّة الأصعب!

وسببُ الصعوبة لا يعود فقط إلى أنّني لم أجد أيَّ ثوبٍ يوافق البساطةَ التي أبحثُ عنها، بل لأنّني لم أجد كذلك أيَّ ثوبٍ يناسب القيمةَ التي أودُّ دفعَها! وإنّه لمِنَ المضحك المبكي أن تنظر إلى الأمور فتكتشفَ كميّة الابتزاز الهائلة التي تمارَسُ على أيِّ حبيبيْن يقرّران الزواجَ، وكأنّ كلمة "زفاف" تستنفر وحوشَ الجشع لدى الباعة والمصمِّمين والمنظِّمين!

أعتقد أنّني في غضون أشهرٍ قليلة استثرتُ من العداوات ما لا تستطيعون استثارتَه في سنوات، ولاسيّما عداوة البائعات اللواتي ذقن بسببي المرّ وهنّ يَجْهدن في إرضائي. ولكَمْ تمنّيتُ أن أخفّفَ الحمْلَ عنهنّ وأن أعفيهنّ (وأعفيَ نفسي) من تبديل أثوابٍ أعرفُ جيّدًا أنّني لا أتصوّرُ نفسي فيها: كالثوبِ الذي يُظهِرُ أكثرَ ممّا يَستر، والثوبِ الذي يَسْطع في عتمة الليل بسبب مئات الحبّات اللامعة التي تزيّنه، والثوبِ الذي يَشْغل نصفُه التحتيّ مساحةَ غرفةِ نومٍ وصالة. ولكنّني كنتُ أُضطرُّ أحيانًا، وبدافع الحياء، إلى أن أجرّب تلك الأثواب، وأن أتصنّعَ اللطف، مؤكّدةً أنّها جميلةٌ "فعلًا" لكنّها لا توافق ما أريد.

***

التحضيرُ لزفافي لم ينتهِ بعد. صدّقوني: حتى حفلُ زفافٍ مؤلّفٌ من 20 مدعوًّا يتطلّب الكثيرَ من التحضير، لكنّه يبقى "محمولًا" أمام التعب والمجهود اللذيْن كانا سينتظراننا لو قرّرنا إقامة حفلٍ كبير.

ويبقى الأهم أنّنا نشعر كلَّ يومٍ بصحّةِ قرارنا، وبمدى توافقه مع شخصيّتنا ونظرتِنا إلى الأمور، من دون أن يعني ذلك مطلقًا أنني أهزأ بمن يتّخذ خياراتٍ أخرى تناسب أولويّاتِه وأحلامَه واهتماماته.

أن نجد شخصًا نحبُّه ونحترمُه ونشعرُ بالثقة الكافية لبناء أسرةٍ معه: تلك هي الخطوةُ المهمّةُ والمصيريّة. أمّا بقيّة التفاصيل فأمورٌ ثانويّةٌ، يَمْلك كلُّ زوجيْن الحقّ في تقريرها واتّخاذِها، بعيدًا ـــ ما أمكن ـــ من الضغوط والأعراف والتقاليد.

***

يقولون إنّها "ليلةٌ لن تتكرّر" في حياتكما أيّها الحبيبان. وأنا أقول لكما إنّها الليلة التي ستكلّل قصّةَ حبّكما وحياتكما، فصمِّماها كما تحبّان وكما تحْلمان. لا تفكّرا بما سيقوله الأهلُ والأصحابُ والعائلة؛ فإرضاءُ الجميع غايةٌ لا تدرَك.

بيروت

رحاب السبعلي

حازت إجازةً في الهندسة المدنيّة من الجامعة اللبنانيّة. ناشطة في مجال حقوق المرأة والإنسان. بدأتْ نشاطها الحقوقي في التوعية عبر كتابة مقالاتٍ وتحضير مقاطع فيديو تنتقد التعدّيات التي تطاول الانسانَ وحقوقه. وهي من مؤسّسي "نعم للثورة الفكريّة،" وتدير عدة صفحات توعوية على الفيسبوك. من مواليد لبنان 1989.