بيروت ليست هيروشيما
06-08-2020

 

في مثل هذا اليوم، 6 آب، منذ خمسةٍ وسبعين عامًا، أُلقيت القنبلةُ الذرّيّةُ الأولى في التاريخ على مدينة هيروشيما، ثم تبعها بعد ثلاثة أيّام إلقاءُ قنبلةٍ ثانيةٍ على مدينة ناغازاكي. كانت القنبلتان كفيلتيْن بإنهاء الحرب العالميّة الثانية، بعد أن خلّفتا أكثرَ من مئتيْ ألف قتيل، ومئاتِ الآلاف من المصابين، ومحتا ملامحَ المدينتيْن في شكلٍ تامّ.

لنعدْ إلى ما حصل قبل يومين، إلى اللحظة التي انفجر فيها العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، بانفجار شُبّه بالتفجيرات النوويّة ذات شكلِ الفِطْر (Mushroom). صُنِّف الانفجارُ بأنّه أعنفُ انفجارٍ غيرِ نوويّ مسجَّل في التاريخ، وقُدّرتْ قوّتُه بكيلو طن واحد، أيْ بـ 1/16 من قوّة انفجار هيروشيما، ونجم عنه دمارٌ غيرُ مسبوقٍ في وعينا، وعشراتُ القتلى، وآلافُ الجرحى، وعشراتُ الآلاف من المشرَّدين، ومئاتُ الآلاف من المتضرِّرين، وملايينُ المصابين - - إنْ لم يكن في أجسادِهم وممتلكاتهم، ففي صميمِ مشاعرهم.

عند اللحظة الأولى للتفجير، انتشرت الاستنتاجاتُ. فنقلتْ بعضُ التلفزيونات الخبرَ على أنّه "قصفٌ إسرائيليّ،" وعَدَّ البعضُ الآخرُ الانفجارَ استهدافًا لـ"بيت الوسط" [منزلِ الرئيس سعد الحريري]، بينما فضّلتْ غالبيّةُ وسائل الإعلام التريّثَ للتأكّد ممّا جرى ولمشاهدته بأمّ العين أو بالكاميرا.

ثمّ راحت الصورةُ تتوضّح: انفجارُ عنبرٍ في المرفأ كان مليئًا بموادَّ كيميائيّةٍ تَبيَّن أنّها نيتراتُ الأمونيوم، وبكمّيّاتٍ كبيرةٍ بلغتْ 2750 طنًّا. أمّا سببُ الانفجار فيعود، وفق الرواية الأكثر تداولًا، إلى أعمالِ صيانةٍ كانت تجري بالقرب من العنبر، وتسبّبتْ بنشوب حريقٍ في مستودعٍ للألعاب النارّيّة، أدّى إلى احتراقها ثم انفجارِها. وهذا الانفجارُ هو ما سبّب الكارثةَ الفعليّة.

ومثلما جرت العادة، في وطنٍ لا يثق الناسُ فيه بمسؤوليهم ولا ببعضِهم بعضًا (ما أسمّيه "اللاثقةَ الأفقيّةَ والعموديّة")، بدأتْ تحليلاتُ الفسابكة والتواترة. وقد شجّعتْ هذه التحليلاتِ مجموعةٌ من المعطيات.

***

من هذه المعطيات حديثُ العدوّ الإسرائيليّ عن إمكانيّة استهدافه المرفأَ لأنّه يحتوي على أسلحةٍ تخصّ حزبَ الله،[1] مع انتشار صورٍ تشير إلى العنبر 12.

وقد تعزّزتْ نظريّةُ الاعتداء الإسرائيليّ الحربيّ بعد انتشار فيديوهاتٍ تُوثِّق لحظةَ حصول الانفجار؛ إذ دخل إلى إطار التصوير جسمٌ أسودُ، ما لبث أن اختفى، ليتبعَه مباشرةً الانفجارُ الثاني المدمِّر.

وأدّت هذه الفيديوهاتُ إلى موجةٍ واسعةٍ من النقاشات: بين مَن يقول إنّ الجسمَ طيْرٌ، ومَن يؤكّد أنّه صاروخٌ أو طائرةٌ موجَّهة (Drone). واتّخذتْ هذه الفرضيّةُ زخمًا مهمًّا مع انتشار الشهادات التي تؤكّد سماعَ صوت طيرانٍ مُغِيرٍ قبيْل الانفجار.

واليومَ، 6 آب، نُشر فيديو آخرُ مصوَّر، زُعِم أنّه "تصويرٌ حراريّ،" يُظْهر صاروخًا يصيب العنبرَ المشتعلَ. إلّا أنّ مُركِّبي هذا الفيديو غابهم أنّ التصويرَ الحراريّ لا يكون بقلب الألوان، بل بتقنيّةٍ تُوضح درجاتِ الحرارة بألوانٍ تتراوح بين الأحمر والأصفر والأزرق، وغابهم أنّ الصاروخ يتغيّر حجمُه المشاهَدُ عند الاقتراب من الهدف، وأنّه ينفجر ولا يختفي.[2]

ومع إمكانيّة فرضيّة الاعتداء على عنبرٍ يحتوي على 2750 طنًّا من النيترات، من ضمن مجموعة من الفرضياتّ الأخرى، يتساءل المرءُ عن الهدف من الترويج المفرِط لنظريّة "القصف الصاروخيّ" إلى حدّ تزوير الأدلّة وفبركتها؟ أليس الهدف هو محاولة حرْف التحقيق المنتظر باتجاه تبنّي هذه المقاربة، التي لم تؤكّدها أو تتبنّها أيُّ جهةٍ رسميّةٍ حتى الآن؟

***

وقع الانفجار، وهذا بيتُ القصيد. وكانت نتائجُه ضخمةً على الجميع. فإذا كان الانفجارُ متعمَّدًا من الخارج، مع تعاونِ "مسهِّلين" من الداخل أو من دونه، فإنّ المطلوبَ واضح: محاصرةُ حزب الله في "بيت اليَك." ولا همّ هنا إنْ كانت المحاصَرةُ بسبب سلاحٍ مخزونٍ أو موادَّ منسيّةٍ؛ ذلك لأنّ الجهات التي سارعت إلى تبنّي هذه النظريّة ستبرّر موقفَها بالآتي: الحزب هو "المسيطِرُ على البلد،" ومن ثمّ على المرفأ؛ وحُكمًا، فإنّه هو مَن يتحمّل مسؤوليّةَ تخزين موادّ يريد استخدامَها في صنع متفجِّرات.

 

 إذا كان السبب هو الإهمال الرسميّ، فإنّ على المشانق أن تعلَّق!

 

التبسيط هنا واضح: فجسمُ الحزب بات "لبّيسًا،" قابلًا كلَّ صورةٍ" (كما يقول ابنُ عربي)، ويمكن أن يُلصقَ به كلُّ شيء، من دون أدنى منطقٍ أو حجّة.

والحقّ أنّ فرضيّة العمل الأمنيّ هنا تتجاوز بخطورتها ما حصل إلى ما يمكن أن يحصل. وفي حال صحّةِ هذه الفرضيّة، فإنّ الجهة المنفِّذة التي تنتمي إلى معسكرٍ واضح، هو المعسكر الأميركيّ-الإسرائيليّ، مع مَن يضمُّ من حلفاء، تجاوزتْ كلَّ الخطوط الحمْر الافتراضيّة التي رُسمتْ طوال المواجهات الكلاسيكيّة، وفَجّرتْ بضربةٍ واحدةٍ قلبَ بيروت.

وعليه، فإنّ المواجهاتِ المستقبليّةَ قد تحمل ما هو أقسى من ذلك؛ وأعني عدمَ الاكتفاء بعد اليوم بالاعتماد على موادَّ مخزونةٍ لإلحاق الضرر، وإنّما الذهاب إلى استخدام أسلحةٍ نوويّة تكتيكيّة[3]كانت أخطرَ من أن تُستخدمَ في السابق. وفي هذه الحال سيكون الضغطُ على الحزب من الداخل والخارج معًا: من الداخل، بسبب النقمة التي ستَلْحق به؛ ومن الخارج، بسبب سقوط المحرَّمات المتمثّلة في منع استخدام تلك الأسلحة.

وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: هل تحمل زيارةُ الرئيس الفرنسيّ إلى بيروت، كما رُوِّج لها فور إعلانها، العرضَ الأخيرَ للبنان، وللحزب: بتسليم سلاحه، أو جزءٍ منه، مقابلَ "الصفح" الدوليّ، وإعادةِ إعمارِ ما تَهدّم، وإطلاقِ عجلةِ المساعدات - - ولا ضيْرَ بعد ذلك في بقاء النظام على ما هو عليه ما دام هدفُ الغرب و"إسرائيل" قد تحقّق؟[4]أمْ أنّ للزيارة أبعادًا أكثرَ خطورةً تتمثّل في تدويلِ لبنان، مع ما يعنيه ذلك من سوْرنةٍ وعرقنةٍ ويمننة، أيْ جعلِه أسوةً بهذه البلدان: منتهَكًا ومذبوحًا؟

وقع الانفجارُ، وهذا بيتُ القصيد. وإذا كان السبب هو الإهمال الرسميّ اللبنانيّ، مع غضب القدَر علينا، فإنّ على المشانق أن تعلَّق. ولا مجال للتهرّب منها. ومن ينفِّذ الحكمَ هو الشعبُ الذي لن يُكِّونَ لجانَ تحقيق، لعدم الحاجة إليها.

لقد وقعت الواقعة، ولا شيء يعيد مَن استُشهد ومَن فُقد. ولا قوّةَ تعيد البصرَ إلى مَن خسره، ولا الأطرافَ إلى من بُترتْ منه.

وقع الانفجارُ، وهذا بيتُ القصيد. واسفاه، لم نتعلّمْ منه شيئًا، بل انبرينا للمطالبة بالتدويل، والانتداب، والاقتصاص من جهاتٍ حَكَمْنا عليها بالجرائم جميعِها، قبل أن تجفّ الدماءُ عن طُرقِ عاصمتنا.

وقع الانفجارُ، وهذا بيتُ القصيد. إلّا أنّ بيروت ليست هيروشيما، ولبنانَ ليس اليابان. مَن اشتُهر بالتضامن والتكافل ليس نحن. فنحن دخلنا التاريخَ مرتيْن: الأولى في تسجيلنا لأعنف انفجارٍ غير نوويّ، والثانية لأنّنا الشعبُ الأكثرُ اقتتالًا في ما بينه... والأكثرُ تبجّحًا بالمعرفة الفارغة.

النخلة - الكورة

 


[3]. السلاح النوويّ التكتيكيّ أو السلاح النوويّ المنخفض القوة هو سلاح (مقذوف أو قنبلة) بقدرة تفجير أعلى بكثير من الأسلحة التقليديّة غير النوويّة وبحجم صغير، إلا أن هذه القدرة تقترب من 5% من قدرة الأسلحة النوويّة "العاديّة." والحقيقة أنّ أحدًا من الدول لم يعترف إلى اليوم باستخدامها، وإنْ تكاد شكوكُ الاستخدام تقرب من اليقين. أنظر: https://thebulletin.org/2020/01/the-low-yield-nuclear-warhead-a-dangerous-weapon-based-on-bad-strategic-thinking/
https://fas.org/programs/ssp/nukes/new_nuclear_weapons/loyieldearthpenwpnrpt.html

شوقي عطيه

منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعيّة – الجامعة اللبنانيّة. أستاذ وباحث في المعهد. له عدد من المؤلفات والمنشورات، من بينها ستة كتب في الديموغرافيا والإعلام والسوسيولوجيا، أحدثها: ديموغرافيا المشرق.