الإشاعة سلاحُ الحرب النفسية الأمضى: انفجار بيروت نموذجًا
20-08-2020

 

انفجرتْ بيروت، كلُّ بيروت، وانفجر لبنان، مقيمًا ومغتربًا، في 4 آب 2020. أصِبْنا كلُّنا في الجسدِ والعقلِ والنفس. هزّ الانفجارُ وجدانَ الملايين في العالم. ومع ذلك نجد ثلّةً، لا نعرف حجمَها، استغلّت الانفجارَ، لتمارس مهامَّها. وعنوانُ هذه المهامّ العريض: "معلومات" عن الحدث!

إلّا أنّ هذه المعلومات ليست صحفيّةً (Journalistic)، ولا علميّةً (Scientific)، ولا وقائعيّةً (Factual)، بل هي معلوماتٌ مضلِّلَة (Disinformation) أو مغلوطة (Misinformation). وفي حين تكون المعلوماتُ المضلِّلَةُ مغلوطةً عن قصد، ولأهدافٍ محدّدة، تكون المعلوماتُ المغلوطةُ من دون قصد، أو من دون خلفيّاتٍ جُرميّة. ومع ذلك، يقع النوعان ضمن تصنيف "الإشاعة."[1]

***

يمكن تعريفُ الإشاعةُ بأنّها "تقديمٌ لمعلوماتٍ ذاتِ مراجعَ سطحيّةٍ، وتكون موزَّعةً، ومن دون أيّ تحقّقٍ رسميٍّ من صحّتها."[2]ويمكن أن تبقى منفردةً، أو تصبحَ منظّمةً مع غيرها من الإشاعات، فتبتكرها جهةٌ معيّنةٌ، وتبثّها وتحافظ على استمراريّتها أطولَ فترةٍ ممكنة؛ وعندها تتحوّل إلى "بروباغندا" (Propaganda).

نشأت البروباغندا، في وجهها الحديث، في بداية القرن العشرين. وساعدها، في ذلك، الظهورُ التدريجيُّ لوسائل الإعلام ذاتِ الانتشار الواسع (Mass Media)، بحيث راحت تزداد فعّاليّةً كلّما برزتْ وسيلةٌ جديدةٌ من تلك الوسائل - - بدءًا بالصحف، ومرورًا بالراديو والتلفزيون، ووصولًا إلى الإنترنت، وبخاصّةٍ بعد ظهور الإنترنت 2.0.[3] 

ويُعتبر مفهومُ البروباغندا أوسعَ وأشملَ من مفهوم الإشاعة: فهو عمليّةٌ منظَّمةٌ لنشر الحقائق، والحجج، والإشاعات، وأنصافِ الحقائق، بل الكذب أيضًا، بغية التأثير في الرأي العامّ. وتتبع البروباغندا في ذلك طُرقًا منظّمةً للتلاعب بالسلوك والمفاهيم وأنماط التفكير، من خلال استخدام الرموز والحركاتِ والتعابير والملصقات والمطبوعات والتماثيلِ والموسيقى والملابس وغيرها.[4]إلّا أنّها ازدهرتْ في زمن الأزمات والنزاعات، ولا سيّما الحروب.

يُعتبر وزيرُ الإعلام (أو البروباغندا) الألمانيُّ النازيّ جوزيف غوبلز أبرزَ مَن استخدَم الإعلامَ، وبخاصّةٍ الراديو والأفلام، لترويج أفكار النازيّة، ولرفع معنويّات الألمان، قبل الحرب العالميّة الثانية وأثناءها. أمّا الولاياتُ المتحدة، فقد قامت - اقتناعًا منها بأهمّيّة السيطرة على البروباغندا والإشاعات المتأتّية عنها - بإنشاء أوّل عيادةِ إشاعاتٍ (Rumor Clinic) في جامعة هارفرد. وقد هدفتْ هذه "العيادةُ،" التي أسّسها عالما النفس غوردون آلبورت (Allport) وروبرت ناب (Knapp)، إلى مواجهة الإشاعات، من خلال عدّة وسائل، أهمُّها: إعادةُ نشر الإشاعات الأكثر تداولًا، ثمّ تكذيبُها أسبوعيًّا بطريقةٍ علميّةٍ وبقلمِ خُبراء؛ بالإضافة إلى جولاتٍ قام بها اختصاصيّو تكذيب الإشاعات على المدن أثناء الحرب.[5]

تطوّرتْ وسائلُ البروباغندا وأصبحتْ أكثرَ فعّاليّةً مع انتشار التلفزيون. إلّا أنّ أمرًا واحدًا بقي مشتركًا مع بروباغندا الراديو والصحف: الحاجة إلى جهةٍ منظَّمة، وقابضةٍ على وسائل الإعلام، وتُوجِّهُها في الشكل الذي ترتئيه مناسبًا. ولئن اعتقد كثيرون أنّ هذه المهمّة بقيتْ حصرًا في يد المتحكِّم بتدفّق المعلومات، أي السلطة في شكلٍ أساس، فالواقع هو أنّ المعلومات لا تتدفّق من قِبل السلطة فحسب، وخصوصًا في الدول التي تنتشر فيها وسائلُ الإعلام الخاصّة. وعليه، فقد تحوّلت البروباغندا إلى دفقٍ من المعلومات المقنَّنة، بحيث تقوم الوسيلةُ الإعلاميّةُ بالإضاءة على ما تريد إظهارَه، وحجبِ ما لا تريد إظهارَه؛ ولا ضيْرَ في أن تعمدَ إلى التحريف، من هنا، أو إلى الكذب، من هناك.

***

تزدهر الإشاعاتُ في أوقاتِ القلق الاجتماعيّ. وما نمرُّ به في لبنان، من قلقٍ متجذّرٍ وشامل، هو أكبرُ مثال. ولا تُستخدم الإشاعاتُ في هذه الأوقات لإحباط المعنوياّت والعزيمة فحسب، بل لتكون أحدَ أبرز أسلحة الحرب النفسيّة على الشعوب أيضًا. وقد صنّف ناب (Knapp) الإشاعاتِ ضمن فئاتٍ ثلاث:

- إشاعة التمنّي (Wish Rumor)، بحيث تحمل الإشاعةُ أحلامَ مُطْلقيها ومروِّجيها وتمنّياتِهم.

- إشاعة الخوف (Bogie Rumor)، وتكون عكسَ إشاعة الحلم لأنّها تروِّج ما نخشى منه ونخاف من حصوله.

 

الصورة من الصين، ولكنّها نُسبت الى انفجار مرفأ بيروت! 

 

الصورة الأصليّة على اليسار؛ أمّا المعدَّلة، غبّ الطلب، فعلى اليمين!

 

- إشاعة الإسفين أو الوتد (Wedge Rumor)، وهي تهدف إلى زيادة الشرخ والكراهية بين المجموعات.[6]

***

انتشرت الإشاعاتُ كالنار في الهشيم عقب انفجار مرفأ بيروت. بعضُها كان من ضمن السياق "التقليديّ" للموادّ المتداولة، مثل استخدام الصور الموجودة بعد إدخال تعديلاتٍ طفيفةٍ عليها، أو إعادة تداول مقاطعَ صوتيّةٍ قديمة. إلّا أنّ قسمًا من هذه الموادّ زُوِّر، أو اختُلِق، خصّيصًا لهذه الكارثة. وتُمْكن قسمةُ هذه الإشاعات وفقًا للتقسيم المذكور أعلاه.

- إشاعات التمنّي، وقد كانت قليلةً نسبيًّا بسبب هول الفاجعة. وتمحورتْ، في معظمها، حول التعاطف الدوليّ مع لبنان. ومنها: زعمُ إنارة بعض المعالم السياحيّة والحضاريّة في العالم بألوان العلم اللبنانيّ؛ أو نسبةُ تشييد "مبنى الإهراءات" في مرفأ بيروت - وهو مبنًى ردَّ قسمًا من عصْف الانفجار عن بيروت - إلى السلطنة العثمانيّة، بما يوحي وكأنّ لتركيا المعاصرة الفضلَ في الحؤول دون المزيد من الأضرار عن بيروت.[7]

 

 لم تقم مصر بإنارة الأهرامات بألوان العلم اللبنانيّ

 

- إشاعات الخوف، وهي كانت الأكثرَ انتشارًا. ومنها الزعمُ أنّ حدثًا أمنيًّا جللًا سيصيب بيروتَ بين 12 و15 آب (أكتبُ هذه الكلمات في 19 آب). نُسِب هذا التسجيلُ إلى الصليب الأحمر، وإلى سفاراتٍ أجنبيّة، ومنظّماتٍ غيرِ حكوميّة، ولكنّها نفتْه جميعُها وكذّبتْه. أضِف إلى ذلك تسجيلًا آخرَ انتشر بكثافةٍ في الشارع الطرابلسيّ، وفيه تنصح إحدى السيّدات قريبةً لها بمغادرة المدينة. كما انتشرتْ معلوماتٌ تفتقر إلى الحدّ الأدنى من التوثيق عن كمّيّاتٍ من نيترات الأمونيوم مخزّنةٍ في المناطق اللبنانيّة. هذا، وجرى تداولُ صوَرٍ لحفرةٍ هائلةٍ قيل إنّها في بيروت، ولكنّها حقيقةً في الصين.[8]كما وُزّعتْ صورةٌ لشارعٍ غارقٍ في الدِّماء، زُعِم أنّه يؤدّي إلى أحدِ المستشفيات في لبنان، ليتبيّنَ أنّها صورةٌ لشارعٍ في الجزائر بعد عيد الأضحى.[9]

 

 الصورة في الصين، لا في بيروت كما زُعم

 

هذا ليس شارعًا مؤدّيًا إلى مستشفًى في بيروت، بل شارع في الجزائر، والدماءُ لأضاحي عيد الأضحى

 

- إشاعات الإسفين أو الوتد، وكانت الأخطر لأنّها تنشر التحريضَ والكراهيةَ بين اللبنانيين. ومنها تصريحٌ منسوبٌ إلى رئيس الحكومة اللبنانيّة السابق سعد الحريري يزعم فيه أنّ المساعدات المصريّة منتهيةُ الصلاحيّة.[10]ومنها أيضًا إشاعة أنّ مرفأ بيروت مليءٌ بالأنفاق التي تُستخدم لتخبئة سلاحٍ تابعٍ لحزب الله وتخزينه.[11]ومنها أنّ لبنان رَفض استقبالَ طائراتِ المساعدات من تونس وفرنسا.[12]ومنها كذلك أنّ حزبَ الله يتسلّل إلى المرفأ من خلال "الهيئة الصحّيّة" (التابعة له) "ليَسحبَ أو ليُخفي شيئًا ما."[13]هذا بالإضافة إلى تبادل التغريدات التي تحمِّل دولًا مناهضةً لتوجُّهات المغرِّدين مسؤوليّةَ الانفجار، بحيث تراوحت الجهاتُ المتّهَمةُ بين تركيا وقطر والسعوديّة - - إمّا بالأصالة، أو من خلال وكلاءَ لها في الداخل. أضف، إلى ذلك، عشراتِ الأخبار التي تُبتَرُ من سياقها وتُقدَّم في سياقٍ مختلف.

لكنّ ما يَفُوق خطرَ التصنيفات أعلاه هو إمكانيّةُ أن تكون الإشاعةُ التي تهدف إلى "بثّ الخوف،" أو إلى "دقّ إسفين الكراهية" بين الناس، هي في الوقت نفسِه "إشاعةُ حلمٍ" (أو تمنّيات) بالنسبة إلى مُطْلقيها ومروِّجيها. ومن أخطر هذه الإشاعات على الإطلاق ما جرى تداولُه من أفلامٍ مركَّبةٍ في أيّام الانفجار الأولى وحتى اليوم، على الرغم من تكذيبها من أكثر من مصدر: كالفيديو الذي حصد 1.4 مليون مشاهَدة حتى الآن، وهو يحتوي عددًا من الفيديوهات المركَّبة المجموعة في مونتاجٍ واحد، بحيث يُظْهِر قسمٌ من الفيديو "اللحظاتِ الأخيرةَ" لرجال الإطفاء قبل الانفجار، ويُسْمَع في الخلفيّة كلامٌ لـ"مصوِّر" ذي لهجةٍ طرابلسيّةٍ واضحةٍ وهو يشير إلى تعرُّض المرفأ لغارتيْن. المفارقة أنّ فوجَ الإطفاء لم يتضمّن أحدًا من طرابلس! هذا بالإضافة إلى انتشار الفيديو الأصليّ  نهارَ الانفجار، ولم يكن فيه صوتٌ لأحدٍ يتكلّم. ثم ننتقل إلى مَشاهد يُزعم أنّها لصاروخٍ لحظةَ ارتطامه بالعنبر 12، بالإضافة إلى فيديو آخرَ للموضوع نفسِه.[14]

 

صورة للفيديو المركَّب الذي يُظْهر لحظة "إصابة العنبر بصاروخ"

 

وهنا نشير إلى أنّ أعدادًا غيرَ ضئيلة من الناس قالت إنّها سمعتْ صوتَ طيران قبل الانفجار مباشرةً. والجدير ذكرُه أنّ طيرانَ العدوّ الإسرائيليّ يحلّق يوميًّا، وفي شكلٍ مستمرّ، فوق الأراضي اللبنانيّة. لكنّنا تواصلنا مع بعض الناجين، الذين أفادوا بأنّهم لم يسمعوا شيئًا من ذلك؛ وهذا ما يزيد من اللغط حول الموضوع.

للوقوف عند هذا الأمر، أرسلتُ نسخةَ الفيديو، "بالأشعّة ما دون الحمراء،" إلى صديقٍ يعمل في مجال الطيران المدنيّ في الولايات المتحدة. فعرضها على زميله، وهو طيّارٌ حربيٌّ متقاعد، فأشار إلى أنّ فرضيّةَ الصاروخ "غيرُ مستبعَدة،" ولكنّ هذا الفيديو بالذات "مفبرك" لأنّ المقذوفات القادرةَ على إحداث هذا النوع من التفجيرات تُعرف بـ"قنابل الارتطام الارتجاجيّ" (Concussion Bombs)، وهي تُلقى عموديًّا، لا بزاويةٍ منحنيةٍ كما هو الحال في الفيديو.

هنا نسأل: هل الهدف من هذه الإشاعات نقلُ تمنّيات بعضهم أن يكون الانفجارُ مفتعَلًا بصاروخٍ أو قنبلة، بحيث يوجَّهُ اللومُ إلى حزب الله، ولا يهمُّ إذا كان المستهدَفُ مستودعَ أسلحةٍ أمْ مستودعَ نيترات ما دام الهدفُ لومَ الحزب؟ المفارقة أنّ أحدًا لم يقلْ إنّ المَلُومَ، إذا صحّت هذه الفرضيّة، هو الجهةُ ("إسرائيل" مثلًا) التي يُمكن أن تكونَ قد نَفّذتْ هجومًا يُصنَّف بأنّه جريمةُ حرب. أمْ أنّ الهدف أبعدُ من ذلك، بل أبعدُ من إدراك مروّجي الإشاعات أنفسهِم، وهم يُقْسمون بأنّها صحيحة، ويؤكّدون أنّ درجةَ ميلان الطيْر (الذي يظهر في أحد فيديوهات الانفجار) مُشابهةٌ لإحدى الطائرات المسيَّرة، وأنّ الصاروخ يُصْدر ضوءًا أبيضَ في الأشعّة ما دون الحمراء؟

هل الهدف هنا هو إغراقُنا بالمعلومات المزيَّفة والمفبرَكة كي نقومَ، تلقائيًّا، باستبعاد المعلومات الصحيحة، بحيث نعتبرها ملفَّقةً هي الأخرى؟!

***

إنّ حجمَ الفاجعة يحتِّم علينا أن نتصرّفَ بمسؤوليّةٍ ووعي. واللومُ هنا لا يقع على مروِّجي الإشاعات وحدهم، بل يقع أوّلًا وأساسًا على اللاثقة التي تَطْبع علاقةَ اللبنانيّ بالسلطة، الحاليّةِ وما سبقها: فهو لم يعد يثقُ بها كي تديرَ حياتَه، أو لتُجري تحقيقًا، أو لتَحْكمَه.[15]وفي زمن اللاثقة والغموض، تزدهر الإشاعات.

والحقيقة أنّ الإشاعات لم تَشْهد مرحلةَ ازدهارٍ كالتي تَشهدها الآن. ففي العصر الذهبيّ للبروباغندا، كانت المعلوماتُ والإشاعاتُ أحاديّةَ الاتّجاه، من المصْدر إلى المتلقّي. أمّا اليوم، فقد سمحتْ وسائلُ التواصل الاجتماعيّ بنقل الخبر بسرعةٍ فائقة، إذ لا يحتاج المرءُ إلّا إلى ضغط زرِّ التحويل (Forward) كي يعيدَ بثَّ الخبر كما هو، أو كما يريدُه أن يكون. وقد تنبّه عملاقُ التواصل، فايسبوك، إلى هذا الأمر، وبخاصّةٍ بعد الجدل الذي أثير حول دور وسائل التواصل في التأثير في الناخب الأميركيّ سنة 2016، ما تسبّب وقتَها بفوز ترامب.[16]

هكذا خصّص فايسبوك جهدًا كبيرًا للتحقّق من المعلومات المنشورة. وأقفل آلافَ الصفحات الناشرة للإشاعات. وهو بات يشير، تلقائيًّا، إلى كون الصورة المنشورة مزيَّفةً أو مغلوطةً (كلُّ الصور المنشورة في هذا المقال مزيّفة، بالمناسبة، وقد أشار الفايسبوك إلى ذلك). أضف إلى ذلك أنّ الواتساب، المملوكَ من فايسبوك، يُظْهر سهمًا واحدًا إذا جرى تحويلُ الرسالة على نطاقٍ ضيّق، وسهميْن إذا جرى تحويلُها على صعيدٍ واسع (Mass Forward)؛ وفي هذين السهميْن إشارةٌ إلى أنّ الخبر على الأرجح يقع في سياق الأخبار الملفَّقة أو المزيَّفة أو الإشاعات.[17]

أدّى هذا التدفّقُ الغزيرُ للمعلومات، ومن دون أيّ تحريرٍ أو تدقيق، إلى إغراق المتلقّي بسيْلٍ من الحقائق والإشاعات، إلى درجةِ أنّه لم يعد قادرًا على التمييز بينها، على ما ألمعْنا سابقًا. وعندها، يقوم هذا المتلقّي بأخطرِ عمليّةٍ في الإعلام والتواصل: ينتقي ما يتناسب مع توجّهاته الفكريّة، فيعتبرها "صحيحةً،" ويعيد نشرَها؛ أمّا ما سوى ذلك، فيُكذّبه ولو كان حقيقةً.

***

في السنوات الأخيرة، تزايد الحديثُ عن "دورٍ ما" للذكاء الاصطناعيّ في صناعة الخبر، بحيث تقوم برامجُ متخصّصةٌ بكتابة خبرٍ وصوغِه بناءً على مجموعةٍ محدّدةٍ من الكلمات المفتاحيّة والتعليمات المسبَّقة.[18] 

وبهذا نكون قد دخلنا إلى عصرٍ جديدٍ من فبركة الأخبار وتلفيقها، ونفهم عندها المعنى الحقيقيَّ لعبارة "مطابخ الأخبار والإشاعات." فالأخبار باتت جاهزةً قبل الحدث نفسِه!

وعليه، فقد بات من الضروريّ التأكّدُ من أيّ خبر، من أكثر من مصدر، قبل التسليم بصحّته. ولا بدّ من تفعيل دور مواقع التأكّد من الأخبار،[19]ونشرِ الأخبار المؤكَّدة أو تلك التي جرى تكذيبُها، وبالأدلّة.

***

بعد كلّ ما ورد، يمكن تحديدُ ثلاث وظائف لازمة بغية التعامل مع الإشاعة.

- أوّلًا، يجب تحديدُ الإشاعات المتداولة في لحظةٍ معيّنة.

- ثانيًا، يجب اتّباعُ استراتيجيّاتٍ فعّالةٍ للتمييز بين الحقيقة والزيف.

- ثالثًا، لا بدّ من تبنّي وسائل فعّالةٍ لتصحيح الأخبار المزيَّفة، وإحلالِ الحقائق محلَّها.[20]وبالفعل فقد بدأتْ حملاتُ الوعي والتوعية بـ"محو الأمّيّة الرقميّة" (Digital Illiteracy) في الانتشار في لبنان والعالم العربيّ، بعد أن انتشرتْ في بقاعٍ أخرى من العالم، خصوصًا إثر المعلومات التي ذكرناها أعلاه عن إمكانية التأثير في الناخبين، وعن قيام برامج الذكاء الاصطناعيّ بفبركة الأخبار. وهذه المقاربة، أيْ محو الأمّيّة الرقميّة، تشجِّع المتلقّي على التحقّق من أيّ معلومةٍ تصله، ولا سيّما إذا كانت حسّاسةً أو خطيرة.

إلّا أنّ هذه السيرورة ليست سهلةً، خصوصًا أنّ قسمًا كبيرًا من المتلقّين في لبنان يصنَّفون ضمن "الأميّين تقنيًّا" وإنْ كانوا من حملة الشهادات الجامعيّة، إذ لا علاقةَ بين الأمريْن (العكس صحيح، إذ يمكن أن يُظْهِرَ صغارُ السنّ وعيًا أكبرَ من وعي أهاليهم في التعامل مع هذا النوع من الأخبار). لذلك، يجب إدخالُ مقاربات "محو الأمّيّة الرقميّة" في المناهج الأكاديميّة، المدرسيّة والجامعيّة. غير أنّ هذا يتطلّب تضافرَ جهود وزارات التربية والثقافة والداخليّة والإعلام، كما يتطلّب أوسعَ مشاركةٍ من القطاع التربويّ والإعلاميّ والمنظّمات المحلّيّة الهادفة.

***

في الخلاصة، لا بدّ من إعادة طرح الأسئلة: مَن يقف وراء نشر هذه الأخبار المزيَّفة؟ ما السبب في دفع الأنظار باتجاهٍات محدّدةٍ دون غيرها؟ ما السبب في غزارة المعلومات؟

لعلّنا نجد جوابًا عن هذه التساؤلات في المسلسل ذي الشعبيّة الواسعة في لبنان، بيت المال (Casa De Papel)، حيث قام أحدُ المحقّقين بنشر كمٍّ هائلٍ من المعلومات المتضاربة للتغطية على نشرِ "البروفسور" أحدَ أسرارِ الدولة الخطيرة. ومثلَ المسلسل، فإنّ جهاتٍ معيّنة، ومتناقضةَ المصالح، تقصفنا يوميًّا بكلّ هذا الكمّ من المعلومات من أجل حرفِنا عن الحقائق، ولدفعنا إلى تصديقِ ما نريد أن نراه على أنّه الحقيقة.

حين ندرك أنّ الإشاعة هي السلاحُ الأمضى في الحرب النفسيّة، نتأكّد أنّ الوعي هو السلاحُ الأمضى في حروب تقرير المصير.

النخلة - الكورة


[1]. ينبغي التمييزُبين الإشاعة، وهي تضخيمُ الأخبار وإظهارُها بصورةٍ مختلفةٍ عمّا هي عليه، وبين الإشاعة التي يختلقها الناسُ لأغراضٍ خبيثةٍ ويتناقلها آخرون بنيّةٍ طيّبةٍ من دون التثبّت من صحّتها. وفي مقالتنا هذه، ستُستخدم العبارتان ضمن المعنى ذاتِه. أنظرْ: https://www.facebook.com/1636326093266418/posts/1801574643408228/

[2]. Robert H. Knapp, “A Psychology of Rumor,” The Public Opinion Quarterly, New York, Spring 1944, Vol 8, No. 1, p 22

[3]. في بداية ظهور الإنترنت، أو الإنترنت 1.0، كان المستخدِمُ مجرَّدَ متلقٍّ، لا يمكنه التأثيرُ في المحتوى إلّا على نطاقٍ ضيّق، مثل إنشاء المنتديات والمدوَّنات (Forums and Blogs) التي سمحتْ بنوعٍ بسيطٍ من التفاعل بين المَصْدر والمتلّقي. لكنْ في بداية القرن الحادي والعشرين، بدأتْ نوعيّةُ مواقع الإنترنت بالتغيّر، فأصبح المستخدِمُ جزءًامن حلقة اتصالٍ تفاعليّ تامّة، بحيث يكون مرسِلًا ومتلقِّيًا ومؤثِّرًا في الرسالة في آنٍ واحد. هذه الثورة في تكنولوجيا الانترنت عُرفتْ بالإنترنت 2.0، وكانت وسائلُ التواصل الاجتماعيّ من أبرز تجلّياتها. للمزيد من المعلومات حول الانترنت 2.0، تُمْكن مراجعةُ كتابٍ لكاتب هذا المقال، بعنوان: الوجهُ الآخرُ للإعلام، الاتصالُ والتواصلُ بين الرسالة والتسويق (بيروت: دار نلسن وجروس برس، 2016)، ص 47-60. يمكن تحميلُه من الرابط: https://www.facebook.com/chattieh.publications/photos/a.2598675837054458/2613292315592810/?type=3

[4]. Bruce Lannes Smith, “Propaganda,” Britannica, Last accessed: 17 August 2020, Retrieved from: https://www.britannica.com/topic/propaganda

[5]. Cathy Faye, Loose Lips, “The Psychology of Rumor During Crisis,” Behavioral Scientist, 6 April 2020, Retrieved from: https://behavioralscientist.org/loose-lips-the-psychology-of-rumor-during-crisis-coronavirus

[6].Knapp, op. cit., p:23-24

[12]. https://fatabyyano.net/%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%aa%d8%b1%d9%81%d8%b6-%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%aa-%d8%aa%d9%88%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a9/
أضف إلى ذلك أنّ السفارة الفرنسيّة في لبنان أصدرتْ بيانًا على صفحات التواصل، ضمّنتْه بيانًا من المنظّمة المعنيّة، وهي SSF، نفت فيه الأخيرةُ أن تكون السلطاتُ اللبنانيّةُ رفضت استقبالَها، وإنّما الحاجةُ انتفت إلى فِرق إنقاذٍ من كلّ دول العالم بعد أن وصل عددُ أعضاء هذه الفِرق إلى 200 عضو في بقعة جغرافيّة ضيّقة. منشورُ السفارة: https://www.facebook.com/AmbLibanFrance/posts/3192920687469387

المزيد من الروابط التي تكذّب هذه الإشاعة:

https://libnanews.com/factcheck-est-ce-que-le-liban-a-refuse-laide-de-la-france/

و https://www.espacemanager.com/les-autorites-libanaises-ont-elles-refuse-daccueillir-des-medecins-tunisiens-et-des-secouristes.html

و https://www.lorientlejour.com/article/1228624/les-autorites-libanaises-dementent-avoir-refuse-laide-de-certains-pays.html

[13]. يمكن الاطّلاع على هذه المصادر التي زعمتْ أنّ حزب الله يمارس أعمالًا مشبوهةً في المرفأ بعد الانفجار من خلال "الهيئة الصحّيّة،" أو كيف طردت "الهيئة" من موقع الانفجار، هنا:

https://janoubia.com/2020/08/07/%d8%a8%d8%b

9%d8%af-%d8%b4%d9%83%d9%88%d9%83-%d9%81%d9%8a-

%d8%b9%d9%85%d9%84%d9%87%d8%a7-%d9%85%d8%a7-%d8

%ad%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d8

%b7%d8%b1%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%87%d9%8a%d8%a6%d8%a9-%d8%a7%d9%84/

و https://kataeb.org/%D9%85%D8%B5%D8%AF%D8%B1-%D8%B9%

D8%B3%D9%83%D8%

B1%D9%8A-%D8%B9%D9%86%D8%A7%D8%B5%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D8%

B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%8A%D8%AF%D8%AE

%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%B9%D8%A8%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%8A%D8

%A6%D8%A9/2020/08/06/%D9%

85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1

و https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world

/2020/08/12/%D8%B4%D9%82%D9%8A%D9%

82-%D8%A3%D8%AD%D8%AF-%D8%B6

%D8%AD%D8%A7%D9%8A%D8

%A7-%D9%85%D8%B1%D9%81%D8%A3-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%

D9%88%D8%AA-%D8%B4%D8%A7%D9%87%D8%AF%D8%AA-%D8%B9%D9%86%D8%A7%

D8%B5%D8%B1-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%87%D9%86%D8%A7%D9%83

[15]. عن أزمة الثقة بين المواطن والسلطة، راجع منشورًا سابقًا للكاتب بعنوان "السلطة والذئب":

https://www.facebook.com/chattieh.publications/posts/2616937628561612

[16]. صدرتْ دراسات وتقارير عديدة تزعم أنّ لوسائل التواصل، وما نُشر عليها، دورًا كبيرًا في نجاح ترامب عام 2016، أنظر:

[18]. Hannah Murphy, “The New AI Tools Spreading Fake News in Politics and Business,” Financial Times, 10-5-2020, Retrieved from: https://www.ft.com/content/55a39e92-8357-11ea-b872-8db45d5f6714

[19]. تتحقّق جريدةُ النهار من بعض الأخبار في شكلٍ دوريّ، وتنشر الخبرَ ومدى صحّته. كما أنّ عددًا من المواقع المخصّصة للتأكّد من الأخبار بدأ ينتشر في العالم العربيّ، وقد اعتمدنا على أحدِ أهمّها أثناء كتابة هذا المقال.

[20]. Heidi Burgess, Michelle Maiese, Rumor Control, “Beyond Intractability,” 2004, Retrieved from: https://www.beyondintractability.org/essay/rumor_control%20

شوقي عطيه

منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعيّة – الجامعة اللبنانيّة. أستاذ وباحث في المعهد. له عدد من المؤلفات والمنشورات، من بينها ستة كتب في الديموغرافيا والإعلام والسوسيولوجيا، أحدثها: ديموغرافيا المشرق.