الله ينجّينا من الآت: رسالة من سجن عوفر
04-04-2020

 

(خاصّ بـ "الآداب")

من تلّةٍ خلف مدينة رام الله المحتلّة، على الشارع الرئيس باتجاه الساحل، المُحتلِّ هو أيضًا، سلبَنا الاحتلالُ رقعةً مُخضرّةً من الوطن، فحوّلها إلى بشاعةٍ رماديّةٍ مُسوَّرةٍ تمامًا.

مُعتقَلٌ يعتلي أبراجَه موتى أحياءُ (زومبيز). تكرَهُه أمّهاتُنا أكثرَ ممّا نكرهُه نحن، ويُغَنّين له وعنه، مولولاتٍ في المسيرات: "يا سجن عوفر ريتَكْ خرابة/ وينعق ع بابك طير الغرابة!" يسكتن برهةً، ليعيدَ كورسُ النائحات الولولةَ من جديد، فينتقلن بعدها إلى لازمةٍ أخرى: "يا سجن عوفر ريتك مهدومة/ وينعق ع بابك يا طير البومة!"

من هنا تحديدًا، من غرفتي مع سبعة أسرى آخرين، ومن أعلى البُرش،[1]أُرسلُ إليكم تحيّةً رفاقيّةً ملتزمة، لم تزلْ تتلو كلَّ يومٍ - أثناء العدّ الصباحيّ - إيمانَها المتجدّدَ بتحرير فلسطيننا كاملةً. أبعثُها إليكم مع نسمات نيسانَ الدافئة، لتعرِّجَ من على صهوة الأشواق، فتعانقَكم، أنتم في الآداب،"الأكثرِ حداثةً والأشدِّ التزامًا!"

هذه رسالةٌ حصريّةٌ جدًّا عن كورونا في المعتقل. لا أكذبُ عليكم إنْ قلتُ إنّني لم أفكّرْ في حياتي أن أكتبَ إليكم وأنا معتقلٌ لدى الاحتلال عن وباءٍ في زمنِ هذا الاحتلال.

***

الساعة الآن 12.30 فجرًا، وأنا ما زلت يقظًا على غير عادة. لا أستطيع النومَ بسبب نوبات السّعال التي تنتاب الرفاقَ معي داخل الغرفة، وداخل الغرف المجاورة لنا في القسم. سيمفونيّةُ نشازٍ بامتياز، مليئةٌ بصفيرٍ ثقيل. أجسادٌ تحاول التقاطَ أنفاسَها لهِثةً تعِبةً.

في العادة، نصحو عند الخامسة صباحًا. لذا اعتدنا النومَ باكرًا في المساء، ضمن نظامٍ طوعيٍّ أنشأته الحركةُ الأسيرةُ، حرصًا على ديمومة المناضل الفلسطينيّ ورشاقةِ جسدِه وحيويّةِ فكره - - هذا المناضل الذي يمثّل امتدادًا لمقاومة الشعب الفلسطينيّ على امتداد أكثر من سبعين عامًا. في القسم الواحد يقبع حوالى 140 أسيرًا. ولم يزل السجّانُ يحاول جاهدًا إفراغَ الأسير من مضمونه النضاليّ، وتعطيلَ دوره الوطنيّ، بضروب التعذيب المختلفة.

في بداية أزمة كورونا، لم ندركْ حقيقةَ ما يجري، وظننّا أنّ هذا الفايروس محضُ دعابةٍ وتندُّر. وذاتَ مرّة، بعد أن قرأت المذيعةُ الجميلةُ "ميْس محمد" الأخبارَ على قناة RT الروسيّة - وهي من القنوات القليلة التي تُلتقط عندنا - مُنْبِئةً بضراوة الفايروس واجتياحِه المنطقةَ، نكّتَ أحدُ الرفاق قائلًا: "لا تخافوش، الفايروس Made in China. آخريّته يموت بأرضه."

ضحكنا جميعًا. لكنّنا تيقنّا بعد برهةٍ أنّه وباءٌ فتّاكٌ، "نخْب أوّل،" لا يموت بأرضه، وإنّما يزحف.

عندما أخذ الفايروس يزحف في بلاد العالم في شباط (فبراير) الماضي، هازمًا بلدًا تلو الآخر، تتبّعْنا الأمرَ بحذرٍ بالغ. تملّكنا جميعًا التساؤلُ ذاتُه: "ماذا لو زحف إلينا، نحن المعزولين عن العالم أصلًا؟" لكنّنا لم نجرؤ على المجاهرة بالأمر، وبِتْنا تنخيّل أنفسَنا مع أحبّتنا، نحتضن عائلاتِنا في الحجْر المنزليّ، لا الحجْر العقابيّ في زنزانة.

ثم حدث ما حذِرْناه: فقد زحف كورونا إلى فلسطين، وأصاب الآلافَ، وفتك بالعشرات. وها نحن نهاب وصولَه إلينا قادمًا من سجّانٍ محتلّ، يسلّمنا إيّاه تاجيَّ الأهداب، يتكاثر في خلايانا، ويتغلغل في رئاتنا.

***

لقد تسبّبتْ سياسةُ الإهمال الطبّيّ التي تتبنّاها إدارةُ السجون الصهيونيّة باستشهاد العشرات من الأسرى الفلسطينيين حتى الآن. حتى الأسرى المحرَّرون لم يَسْلموا من الأمراض المزمنة التي رافقتْهم في الأسْر، وما زالوا يعانون مناعةً هشّةً، ترافقها أوجاعٌ تقضّ مضاجعَهم ليل نهار. غير أنّ إدارةَ السجن اليوم، وكعادتها، لم تكترثْ لصحّة الأسرى؛ فلم تتّخذ الخطواتِ الكافيةَ للحدّ من انتشار وباء كورونا في السجون، مع أنّ نسبة الأسرى المُسنّين كبيرةٌ جدًّا، وتصل إلى 25% من عدد الأسرى الإجماليّ، وهم الأحوج إلى الرعاية الصحّيّة.

 

 إدارة السجن لم تكترثْ لصحّة الأسرى؛ فلم تتّخذ الخطواتِ الكافيةَ للحدّ من انتشار الوباء 

 

ترى، هل سيتحمّل جسدُ الأسير بدران جابر، وهو في الثالثة والسبعين، ويقبع حاليًّا في سجن عوفر، غطرسةَ الكورونا والاحتلال في آنٍ واحد؟ لقد قضى بدران ثلثَ عمره متنقّلًا بين السجون، يمشي متعكّزًا، وفي جعبته كيسُ أدويةٍ لا يتوقّف عن تناولها كلَّ يوم.

وماذا عن الكاتب علي جرادات، 64 عامًا، الذي يعاني مرضَ السُكّريّ؟ لقد أكلتْ سنواتُ السجن من صحّته وشربتْ، حتى بلغتْ قلبَه، الذي فتحه الاحتلالُ - حرْفيًّا - في عمليّةٍ جراحيّةٍ أثناء اعتقاله في السجن؟ أسيُضْحي وحده، "ذاكرة َحريّةٍ تتدفّق،"إذا غزت الكورونا اللعينةُ خلاياه؟[2]

وماذا عن الدكتور أحمد قطامش، "أبو الطربوش"؟ ألن يتعبَ هو أيضًا، وقد أضحى على مشارف السبعين؟

جلُّ ما فعلته إدارةُ السجون إزاء كورونا هو تعليقُ جميع المحاكم والزيارات - - ما زاد من لوعة الأسرى وأهاليهم وحرقتِهم. لكنْ سرعانَ ما سلّم الأسرى بالأمر، حرصًا على تجنيب أهاليهم الاختلاطَ بسجّانٍ يحمل الفايروس.

واشتدّتْ حدّةُ القطيعة بين الأسرى والعالم الخارجيّ، لأنّ الاحتلال منع كلَّ الاتصالات، أكانت عبر الهاتف أم الفيديوكونفرس أمْ أيّ وسيلةٍ أخرى.

وعَوّقتْ خطوةُ إلغاء زيارات الأسرى، بسبب الكورونا، إمكانيّةَ تحويل الأموال إليهم، بل إدخالَ السجائر إليهم. فباتَ الأسرى المدخِّنون قلقين، يَعدّون سجائرَهم كلَّ يوم، محاولين الاقتصادَ منها، تحسّبًا لِما هو آتٍ.

احتلال، وكورونا، ونقص نيكوتين في الدّم؟ ر

حمتك يا ربّ!

"الله ينجّينا من الآت!"

***

أسخفُ الاجتماعات كان ذاكَ الذي دعت إليه إدارةُ السجن ممثّلي الفصائل الفلسطينيّة من أجل إعطائهم بعضَ التعليمات المتعلّقة بالنظافة الشخصيّة للأسرى. كانت تلك "التعليماتُ" حفنةً من الأمور البديهيّة، والممارسات الصحّيّة الأساسيّة، التي راكمها الأسرى عبر السنوات قبل تفشّي الوباء بزمنٍ طويل.

كان الاجتماع ثقيلًا: جمعَنا السجّانُ "يوسي" - الذي يأكل كُراتِ اللحم بعد نكشِ أنفِه الطويل، وبعد وضع يده في مؤخِّرته للترويح عنها وتعديلِ بنطاله - وسَنَّ علينا "مانيفستو" النظافة، وكيف نغسل أياديَنا جيّدًا، وكيف نستخدم بشكيرَنا الشخصيّ!

بعدها، علّق يوسي (بيده الموبوءة عقب كرات اللحم) نشراتٍ داخل غُرف الأسرى، كُتب عليها بعربيةٍ مُكَسّرةٍ بعضَ التعليمات بخصوص النظافة الشخصيّة. ولم يتّخذ يوسي، ذو الأنف الطويلِ جدًّا واليَدِ النتنةِ جدًّا، ولا اتّخذتْ إدارتُه، أيَّ خطواتٍ جدّيّة: مثل تعقيم الغُرف والأقسام، أو توزيع الكمّامات والقفّازات وموادِّ التنظيف المختلفة على الأسرى. بل اكتفيا بعيّناتٍ من الكلور لا تكفي أسبوعًا، وببعض الصابون السائل.

الأنكى من ذلك أنّ إدارةَ السجون منعتْ بعضَ أنواع الخضرة التي لها أثرٌ إيجابيّ في تقوية المناعة، مثل: الثوم، والبصل الأخضر، والأفوكادو، والبقدونس.

كما ادّعت إدارةُ السجن أنّها أوقفت النقليّات. إلّا أنّ آخرَ أسيرٍ انتقل من سجن عوفر إلى نفحة في بوسطة السجن المقيتة كان في منتصف آذار (مارس) الماضي، مع العلم أنّه يترتّب على مثل هذا النقل اختلاطٌ كبيرٌ بالكثير من السجّانين أو السجناء الجنائيين، الذين ينكّلون بالأسرى بكلماتهم النابية وبصاقهم المقرف.

ثمّ إنّ الاعتقالات الجديدة لم تتوقّفْ. صحيح أنّ المعتقلين الجدد يقبعون في سجنٍ خاصٍّ أربعةَ عشر يومًا، إلّا أنّهم يحتكّون على الدوام بسجّانين وأسرى آخرين، تاركين لكورونا حريّةَ التنقّل كيفما شاءت.

 

الاعتقالات الجديدة لم تتوقّفْ

 

هذا وقد وصلتْ لاإنسانيةُ المُحتلّ حدَّ إلغاء بعض القرارات التي كانت ساريةً قبل كورونا: فأوقفتْ إدارةُ السجون الإفراجَ الإداريَّ عن الأسرى، أو ما يُعرف بـ"المنهليت،" وهو قانونٌ إسرائيليّ يتمّ فيه خصمُ عدد أيّام الاعتقال مقابل كلّ عامِ حُكمٍ؛ فتُخصم 3 أسابيع مثلًا من أوّل عام، وهكذا دواليك عن الأعوام الأخرى. وقد أسفر إلغاءُ الإفراج الإداريّ، وسط هذه الظروف الصعبة، عن ازدياد احتمال الإصابة بالعدوى.

***

الساعة الآن 1.15.

أنا جدُّ متعَب. إلّا أنّ السعالَ من حولي لا يهدأ.

قد يكون ذلك السعالُ بفعل انفلونزا عاديّة. وقد يكون بسبب الخوف الذي سيطر على الأسرى بعد إعلان الناطق باسم الحكومة الفلسطينيّة في الأوّل من نيسان (أبريل) اكتشافَ أوّل حالة كورونا أصابت أسيرًا تحرَّر من عوفر قبل يومٍ من الإعلان.

لا أخفيكم أنّ الرفاق تمنّوْا أن يكون الإعلانُ محضَ دعابة، أو جزءًا من مسرحيّةٍ فكاهيّةٍ بمناسبة الأوّل من نيسان.

الجدير ذكرُه أنّ أوّل إصابة كورونا من سجّان كانت من نصيب الأسير نور الدين صرصور (19 عامًا)، من بيتونيا في رام الله، وكان قد أمضى اثنيْ عشر يومًا في القسم 14. وهذا يعني أنّه، على الأغلب، نقل العدوى إلى باقي الأسرى في ذلك القسم، وكذلك إلى الأسرى الذين اجتمع بهم إبّان محكمته قبيْل الإفراج. ولربّما نقل هؤلاء الأخيرون العدوى إلى باقي الأسرى في الأقسام الأخرى.

متواليةٌ جديدةٌ إذًا. وتكثر الاحتمالات، ويزيد السعالُ من حولي، ولا أعرف النومَ على الإطلاق. قد يكون سعالَ كورونا لا غيرَه. وكيف نعرف إنْ لم تكن هناك فحوصٌ صحّيّةٌ ومخبريّةٌ تقطع الشكَّ باليقين، وتطمئن الأسرى؟!

***

إنّ ما يحصل في عوفر اغتيالٌ بطيءٌ وممنهجٌ للأسرى، يُظْهر مدى فاشيّة الاحتلال. نحن في المعتقل، هنا، نحمِّل إدارةَ السجون الإسرائيليّة المسؤوليّةَ الكاملةَ على الاستهتار بحياتنا، لأنّنا نشعر أنّنا رهائنُ لدى الحكومة الإسرائيليّة.

لقد دَفع خطرُ كورونا والموتِ المحدق بحكومات العالم إلى إطلاق سراحِ سجناءَ كُثر، لكنّ هذه ليست الحالَ في فلسطين المحتلة؛ فقد "تذكّر" الصهاينةُ في هذه الآونة تحديدًا اقتراحَ قانونٍ يشرِِّع إعدامَ الأسرى الأمنيين الفلسطينيين.

وتبعًا لكلّ ما سبق، فقد قرّرنا في الأوّل من هذا الشهر (نيسان) إغلاقَ كافّة الأقسام وممارسةَ التصعيد في سجن عوفر، ريثما نجد جدّيّةً في معالجة موضوع كورونا.

***

ليت كلَّ ذلك كذبة.

"الله ينجّينا من الآت."

سجن عوفر (فلسطين المحتلّة)

 

[1]اسم يُطلق على سرير المعتقلين. (الآداب)

[2]لستَ وحدك: ذاكرة حريّة تتدفّق هو عنوان كتابٍ للأسير علي جرادات. (الآداب)

باسل أبو ليلى

اسم مستعار لأسير فلسطينيّ في سجن عوفر.