في تمام السادسة وخمس دقائق
29-07-2021

 

أحمد

في التاسعة صباحًا عاد أحمد من المخبز القريب من بنايته وهو مبتهجٌ برائحة المناقيش الساخنة التي ذهب خصّيصًا ليُحضرها إلى والده. وما إنْ بلغ بابَ المصعد حتى صاح: "العمى، ما صارت الساعة عشرة! ليش الكهربا انقطعتْ؟"

توجَّه إلى السلم ممتعضًا. خمسة أدوار صعد أحمد درجاتِها وهو يلعن الشركةَ الوطنيّةَ التي أعلنتْ أنّ المواعيدَ اليوميّة لقطع الكهرباء ستكون بين العاشرة صباحًا والرابعة عصرًا.

دخل غرفةَ والده ليطمئنّ إلى أنّه حصل على ليلة نومٍ هادئة:

- سامحْني تأخَّرت عليك بالفطور. بس عندي مفاجأة أظنّ ريحتها وصلتْ لك.

بابتسامة رضا:

- المناقيش ريحتها بتشهِّي. خلّينا نشرب معها الشاي.

دخل أحمد المطبخَ وكأنّه في مختبر. على الطاولة زجاجاتٌ مرصوصةٌ بعناية، وهي ممتلئة جميعُها بالماء الذي قام بتعقيمه بقطعةٍ من القطن والشاش، قبل أن يغليَه ثم يصبَّه في تلك الزجاجات بعد أن يبرد، ليكون صالحًا للشرب عند الضرورة.

فتح الصنبورَ ببطء كي يحصل على الخيط الرفيع المناسب لغسل البندورة والخيار. وتأكَّد من وجود الطبق البلاستيكيّ العميق تحت يديْه لتجميع ماء غسل الخضار فيه، ليذهبَ في النهاية إلى تنظيف المرحاض. ثم بدأ في غسل الكوب الذي سيشرب فيه الشايَ مع أبيه، مستخدمًا خيطَ الماء المناسب.

صبَّ الماء الذي اشتراه خصيّصًا للشرب ليعدّ الشاي، وهو يلعن "أبو زين" المورِّد الذي تأخَّر في إحضار غالون ماء الشرب، وقد قارب على النفاد ولن يكفيَهم حتى صباح الغد.

في الشرفة التي تتّسع لكلّ أنواع النباتات الخضراء التي حَرِصَ أبو أحمد على رعايتها، من نعناع ومريميّة وريحان، جلسا يستمتعان بالفطور والشاي بعد إضافة النعناع الطازج.

- اليوم ما عندي أيّ طلبات توصيل. الشغل قليل يا أبو أحمد.

- بيعين الله.

- لو إجا المحصِّل، رح كسّر عدّاد الكهربا فوق راسه. بس شاطرين يدَفَّعُونا مصاري، والكهربا مقطوعة كلّ يوم.

رنَّ هاتفُه المحمول يعلن استلامَه رسالة:

- هادا خالد رفيقي يا بابا، بتتذكَّره؟ بيأكّد على موعدنا اليوم. طلب مني أمرّ عليه بالشركة لمقابلة المدير. بلكي يكونوا في حاجة لمحاسب أو شوفير مع نهاية الشهر.

- الله بيدبّرها من عنده.

تحمَّمَ أحمد بخيطٍ رفيعٍ من المياه. استعدَّ للخروج بعد الرابعة ليَستخدمَ المصعد حتى لا يتعرَّق برطوبة بيروت قبل الوصول إلى موعده. ودَّع أباه قائلًا:

- مش راح آخد السيّارة بلا ما اتلبِّك بصفّها.

- الله يرضى عليك ويوفّقك.

 

 

 

كارول

تتحرَّك كارول بخفَّةٍ على الرغم من زيادة وزنها في الشهر الأخير. والدتُها تتعجَّب من استيقاظها المبكّر وتسألها إنْ كانت تشعر بأيّ تعب. تطمئنها بأنّها تشعر بنشاط، وتطلب إليها تشغيلَ موسيقى الجاز التي تفضِّلها، وتبدأ في الدندنة، وهي منشغلة مع "سينين" في إعداد حقيبة سفرها الصغيرة: الشامبو، البارفان، فرشاة الشعر الناعمة، البطّانيّة الخفيفة، القفّاز القطنيّ، الجوارب...

تتركها سينين لإعداد الإفطار، فتطلب إلى والدتها مراجعةَ محتويات الحقيبة معها. تتفحَّصان ملابسَ المولود الذي على وشك الوصول، وتتعجَّبان بفرحٍ لهذه المقاسات الصغيرة. تضحك وتخبرُها بأنّها نسيتْ أهمَّ شيء: الحفاظات.

راحت كارول ترتدي ملابسَها استعدادًا للذهاب إلى المستشفى بحسب الموعد المتفق عليه مع طبيبها. في هذه الأثناء، كانت والدتُها تراجع مع سينين الترتيباتِ الأخيرة. أجابتها سينين، بلغةٍ إنجليزيّةٍ سليمة، بأنها أتمَّت استعداداتِها لتشريف الصغير: فلديها في المخزن ثلاثةُ غالونات من ماء الشرب، والشركة أرسلتْ أمس المهندسَ لصيانة المولِّد الكهربائيّ، وهي أعدَّت عصائرَ ووجباتٍ تحبُّها السيّدة كارول. فلا داعي للقلق.

والدةُ كارول لم تفهمْ يومًا سببَ رفض ابنتها السفرَ خارج لبنان للولادة:

- مش كان أفضل إنّك تروحي تولّدي في كاليفورنيا عند إختك؟

- قلت لك يا حبيبتي إنّي بفضّل ضلّني حدّ جوزي، وما بدي غيَّر الدكتور. وحمْلي مش سهل، وما راح إتحمِّل السفر الطويل.

أنهى حديثَهما وصولُ إيلي. نزلوا جميعًا إلى المستشفى. أجرى الطبيب كلَّ الفحوص اللازمة قبل دخول غرفة العمليّات. استأذنه إيلي بأن يَحضرَ مع زوجته لحظاتِ الولادة.

في تمام السادسة، دخلتْ كارول غرفةَ الولادة. كانت تشعر ببردٍ شديد، على الرغم من حرارة آب ورطوبته. وجوهُ الأطباء تطمئنها، ولكنّها ترجو منهم أن يسمحوا لزوجها بالدخول.

فجأةً هزَّ انفجارٌ مبنى المستشفى. في هلعٍ جرى إيلي وهو ممسكٌ بهاتفه المحمول ليصوِّرَ لحظةَ وصول وليده الأوّل. وقبل أن يبلغَ غرفةَ العمليّات سقط على الأرض من شدة الانفجار التالي الذي حطَّم كلَّ شيء. أخذ يصرخ: "يا عدرا يا عدرا، وين مرتي وين مرتي؟!"

 

 

 

نضال

"أُحِبُّ أنوارَ الألعاب الناريّة وألوانَها. تذكِّرني باحتفالات العيد. أين ذهب البحر؟ أخيرًا انتصرنا واحتفلنا بعرسنا. صحيح أنّه لن يُعْلَنَ عن وصولي بفرقة الطبول، وصحيح أنّ دعوةَ الزفاف أُرسلتْ إلكترونيًّا، لكنْ لماذا لا أرى الألعابَ الناريّة؟ ربما لأنّ الشمس ما زالت تنير السماء! مصوِّر العرس ينقل كلَّ لحظة Live على الإنترنت. يكاد قلبي ينخلع من مكانه؛ فالصوت قويّ، والدخانُ كثيف. سأتعلَّق بذراعه: فهو زوجي الآن ولن يعترضَ أحد. ألعاب ناريّة في النهار! لا أرى سيّارة أخي، أين ذهب؟

الأغنيات صاخبة. أودُّ لو أدْبكُ الآن، لكنّني سأكتفي بأن أتمايلَ في دلال؛ فقد رقص أهلُ المخيّم قبل الكورونا بعاميْن فرحًا بخطبتنا، عندما عدتُ من السفر وأقنعتُ أبي بأنّ حياتَنا في الإمارات ستكون أفضلَ من البقاء هنا في المخيّم.

لماذا تطير السيّارة؟ لم يخبروني بتلك الخدعة. أحبّ المفاجآت، ولكنْ لا تعجبُني هذه. ليتك يا نضال تستطيع أن تعمل مهندسًا في لبنان. أحبُّه على الرغم من قسوته. وأحبُّ شاتيلا، وسأفتقد رفيقاتي. صُوَرُنا في الروشة ستكون حديثَ المخيّم. يا الله! لقد نسيتُ أن آخذ صورَنا المعلَّقة فوق سريري أيّامَ تطوُّعنا في المدرسة مع الهلال الأحمر.

التاج غيرُ مستقرّ، والطرحةُ تطير في كلّ اتجاه. أخاف أن ينزعجَ من تعلُّقي به. لا أحبّ الأصواتَ العالية؛ تذكِّرني بالطائرات والقصف.

لم أعد أرى بوضوح. المصوِّر يطير، أم أنّ السيارة هي التي تطير؟

ربما ستبدأ الآن رحلةُ العمر إلى الجزيرة التي احتفظتُ بصورها من أيّام الجامعة. أين ذهبتْ تذاكرُ السفر؟ هل تحملها معك؟ هل هي تلك الأوراقُ التي تحترق؟ نضال، ليش ما عم تسمعني؟

يبدو متعبًا، وأنا كذلك. سأخفض صوتي قليلًا لنستريح. كانت رحلةً طويلةً كي نكونَ معًا."

 

 

 

فاطمة

- تعي هون تحت الطاولة.

تنزع فاطمة ذراعَها من يد زينب وتسرع خارجةً من البناية. يرجُّ انفجارٌ آخرُ البنايةَ بأكملها. يطوِّحها عصفُ الضغط، ويطيِّرها عدّة أمتار.

يمتلئ قلبُ زينب بالرعب بعد تحطُّم زجاج النوافذ. بسرعةٍ نزلتْ درجاتِ السلّم لتبحثَ عن فاطمة، فوجدتْها ممدَّدةً في منتصف الطريق والدماءُ تغطِّي وجهَها. لكنها تعرَّفتْ إليها من غطاء رأسها، ومن حذائها الجديد الذي اشترتاه معًا احتفالًا بالعيد. 

صراخُ نساء. بكاءُ أطفال. صوتُ رجلٍ مسنّ ممدَّد بجوار فاطمة. "الله أكبر الله أكبر الله أكبر." غبارٌ يملأ الهواء. يتخبَّط الجميعُ في كلّ اتجاه. تجمَّدتْ زينب وهي ممسكةٌ بيد فاطمة. راحت تمسح الدماءَ عن وجهها، ودقّاتُ قلبها تكاد تفجِّر صدرها. لا تعلم كم مضى من الوقت وهي جالسةٌ على الأرض في منتصف الطريق عندما سمعتْ صوتًا يناديها ووجهًا مألوفًا يقترب منهما.

- قومي يا زينب احمليها معي إلى السيّارة.

في الطريق إلى المستشفى بدأ ابنُ عمها يدفعها إلى الحديث كي يطمئنَّ إلى أنّها واعية. تمدّدتْ على الكنبة، وبدأتْ تتذكَّر ما حدث قبل وقوع الانفجار.

"اتصلتْ زينب تدعوني إلى العشاء لأنّ عائلة عمي مشتاقة إلى رؤيتنا، أنا وحسن. ورفضتْ محاولتي الاعتذارَ بسبب الكورونا والتباعد الاجتماعيّ."

- يا عمّي خلاص بلا كورونا بلا بطّيخ. طفرنا.

-  طيّب، خلّيها آخر الأسبوع بكرة عندي شغل.

- بلا حكي كتير يا فاطمة. راح أمرّ عليكِ على الستّة بس تكوني جاهزة حتى ما يبرد الأكل.

بلغوا أوّلَ مستشفى. كان زجاجُ الواجهة مهشَّمًا ومنتشرًا على الأرض ويصعب المشيُ فوقه. موظّفُ الاستقبال مشتَّتٌ بين جرس الهاتف الذي لا يتوقَّف وعشراتِ الأشخاص الواقفين أمامه في انتظار الإجابة عن تساؤلاتهم. أعدادٌ كبيرةٌ من المصابين. لا أسرَّةَ لهم داخل المستشفى، ولا ما يكفي من مقاعدَ لجلوسهم.

قرَّر ابنُ عمّها أن يذهب إلى مستشفى آخر؛ فربما يحالفهما الحظُّ ويجدان طبيبًا أو ممرِّضًا لعلاج فاطمة.

الحركة على الطرقات مشلولة تمامًا. عند وصولهما، كان هناك الكثيرُ من الدماء والفوضى والدمار. بكاء. تأوُّهات. جزع. ممرِّضاتٌ يجرين في كلّ اتجاه. أطبّاء منهَكون. من الصعب تقديمُ أيّ مساعدة. اتُّخِذ القرارُ بنقلها إلى الجنوب. وبعد أكثر من ستّ ساعات من الانفجار، بدأ الأطبّاءُ في تقطيب جراحها.

أوّلُ كلمةٍ نطقتْ بها فاطمة هي:

- لازم نرجع حالًا على بيروت. حسن ما رجع من المرفأ، ولا سمع منه حدا.

بعد منتصف الليل بدأوا رحلةَ العودة. في السيّارة سألتْها زينب:

- ليش دفشتيني ونزلتِ على الطريق؟

-  فكّرت إسرائيل عم تقصفنا. لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم، يومَ أفقتُ على صوت الطائرات الإسرائيليّة وهي قريبة جدًّا. اهتزَّ منزلُ عمّي من شدة اندفاعها. بعد دقيقتيْن بدأ القصفُ والانفجاراتُ المدوِّية في كلّ الضاحية. يومها كنّا نلعب في بيت عمّي الذي منعنا من الخروج. دفع بعضَنا لنختبئَ تحت الطاولات، وآخرين ليستندوا إلى أيّ حائطٍ قريبٍ من أعمدة البناية لحمايتنا. وبعد أقلّ من نصف ساعة اختفت الطائرات. وعندما تطلَّعنا، أنا وحسن، من النافذة، كان الغبارُ يعمي عيونَنا. ركضنا لنطمئنّ إلى أبي وأمّي وإخوتنا. كانت رائحةُ الحرائق خانقةً، وكثيرٌ من الأثاث مبعثرًا على قارعة الطريق. استندنا بعضُنا إلى بعض، ومشينا حتى وصلنا إلى ما نعتقد أنّه موقعُ بنايتنا، إلّا أنها كانت قد سُوِّيتْ بالأرض. لهذا ركضتُ باتجاه الشارع يا زينب. لا أريد أن أموتَ تحت الركام؛ فأنا كلُّ ما تبقَّى لأخي حسن."

 

***

 

بلغ أحمد بنايتَه في الثامنة مساءً بسبب انقطاع الطرق واضطراره إلى العودة مشيًا على الأقدام. وجد البنايةَ نصفَ مهدَّمة، وسيّارتَه مهشَّمةً تحت الأنقاض. وعرف أنّ أباه نُقل إلى المستشفى. حكى له أحدُ الجيران أنّ أباه اندفع بقوة الانفجار إلى السلَّم. تكسَّر الزجاجُ وانخلع البلاطُ عن الأرض، فأصيب إصاباتٍ بالغةً تستدعي الجراحة.

في طرقة المستشفى خارج غرفة كارول، يهمس إيلي في هاتفه المحمول محادثًا أختَها:

- نشكر الله أن جورج ما احتاج الحضَّانة لأنْ كلّ الحضّانات اللي بالمستشفى عطلانين، والدكتور أصرّ نضلّ للصبح. بس بكرة ما راح نقدر نطلع على البيت لأن كلّ الشبابيك انخلعتْ والزجاج غطَّى كل شيء. راح نطلع على الجبل.

ظلّ أهلُ شاتيلا يبحثون عن أشلاء نضال وعروسه وكلِّ أحبابهم على الكورنيش.

وأمام أنقاض المرفأ، ومع خيوط الفجر، بقيتْ فاطمة تنتظر حسن.

 

 ملاحظة: الرسوم في القصة للفنّانة التشكيليّة عزّة عزّت.

سمر دويدار

باحثة وقاصّة مصريّة مقيمة في القاهرة. تعمل على مشروع رواية قائمة على حكايات حقيقيّة لنساء فلسطينيّات في الشتات. وقد أجرت معهنّ مقابلاتٍ مطوّلة، تدور أحداثُها بين مصر ولبنان وفلسطين وسوريا والأردن. منذ سبتمبر 2019 تعمل على مشروع تأريخ شفهيّ عائليّ بعنوان حكايات فلسطينيّة، وذلك بعد اكتشاف أكثر من ثلاثمائة رسالة ووثيقة وستمائة صورة تخص جدَّها لأمّها ما بين الأعوام 1926 و1966. خبراتُها العمليّة تتركّز حول مجالي الإعلام والتنمية. وأدارت مشروعاتٍ لتقديم الإرشاد والدعم النفسيّ والاجتماعيّ للمتضرّرين من الحروب والكوارث في مصر ولبنان وفلسطين.