وتخطّي العتبة
20-05-2017

 

 

ينفتح البابُ الكبيرُ بصريره المكتوم. تبرز من ثلثه العلويّ قبضةٌ صدئةٌ ترتكز على كرةٍ نحاسيّةٍ بهتَ لونُها، تعانقُ خشبَ الباب العتيق. أنحدرُ عبرَه إلى المدخل المعتم. تغزوني رائحةُ عطنٍ قديمٍ. في الركن، ينتصب زيرٌ [جرّةٌ] منتفخٌ بالماء، يرتاح على حمّالةٍ حديديّةٍ بلون الصدأ، أرجلُها الثلاث معقوفةٌ نهاياتُها المرتكزةُ على الأرض المبلولة، تفوح منها دائمًا رائحةُ زَخَمَةٍ نفّاذة.

أتفادى صفائحَ المياه الصدئة، والطُّشوتَ، والخِرَقَ القديمةَ المتّسخة، والكراسي المكسورةَ الأرجل، إذ أخطو ــــ بحذرٍ وتوجّسٍ ــــ بين الكراكيب المتناثرة، وبِرَكِ الطين المبلولة.

غرفٌ متتابعةٌ تُطلّ على المدخل، مفتوحةٌ أبوابُها عن بوابيرِ جازٍ متّقدة، تفحُّ نارًا وصَهَدًا تحت الطبيخ والغسيل. أسيرُ قرب ساكنات الغرف، وهنّ يفترشن الأرضَ بلحمهنّ المندلِق، وهدومِهنّ المفتوح عن أفخاذٍ وفيرةٍ لامعة، وأثداءٍ محصورةٍ منبعجة، أو متهدّلةٍ ساقطةٍ في أفواه الرُّضَّع. حتّى أصل إلى بير السلم.

تهبّ عليَّ رائحةُ رطوبةٍ قديمةٍ، وتتخايل الأنوارُ على السلالم من فوق.

السلّم، بدرجاته الحجريّة الناحلة الملساء، أصعدُه جريًا، درجتيْن درجتيْن، حتّى أصلَ إلى السطح، حيث رجفةُ النشوة التي تهزّ الروحَ وتسرقها؛ إلى كهفي الذي أؤوبُ إليه مشحونًا بالقلق والترقّب. يصطخب في داخلي شغفٌ رقراقٌ، وقلبي يضرب مثلَ طبلٍ كبير.

الهدوء سارٍ. خَفَتَ كلُّ ضجيج. تكعيبةُ العنب ــــ التي واكبتُها منذ بدأتْ كرأسِ دبّوس ــــ مورقةٌ وظليلةٌ وبليلةُ الأنفاس. ترقرق الهواء بين أوراق العنب المتدلّية من التعريشة، تعلوها طبقةٌ خفيفةٌ من التراب الناعم. الظلال المتراوحة منقوشةٌ ببقع شمس العصاري الليّنة. السكون مشحونٌ بالتوتّر والانتظار. وصوتُ أمّ كلثوم يصدح أسيانًا: "أنا في انتظارك."

دقائقُ معدوداتٌ، وتلحق بي هند، جارتُنا ورفيقةُ صبايَ ولعبي وسرّي المكنون. تنثر مرحَها وبهجتَها على المكان. تنظر إليَّ بعينيْن محلِّقتيْن اشتياقًا، حافلتيْن بأسرار البكارة والوعود والأحلام. يسيل منهما حنوٌّ أنثويٌّ يغمر قلبي. نظراتُها فاهمةٌ معابثة. حمرةُ الخجل تصعد إلى الوجه، فيتورّد خدّاها، وتنسال اللهفةُ من عينيها السوداوين العميقتين، في الصمت المظلَّل بحفيف أوراق العنب.

أقتربُ منها. تقترب منّي، حتّى تلفحَني أنفاسُها، وخجلُنا الهزيل نخلعُه معًا. ضممتُها إليَّ، ووجدتُها بين ذراعيّ كقطّةٍ أليفةٍ. كان ملمسُ خدّها أشبهَ بوسادةٍ حريريّةٍ أسلَمَتني إلى خدرٍ جميل. شفتاها تبثّان لهفةَ القبلات. أحسستُ صدرَها الغضَّ النافر، وهي تَنْهج، على صدري، وقلبي يتقافز بين ضلوعي رعبًا ونشوةً.

ثدياها صغيران ناهدان، في دورانهما ليونةٌ متماسكة. وبطنُها، مثل حشيّةٍ وثيرةٍ، بسرّتها التي في استدارة عجينٍ مختمر، يصطدم بي، فينبعث منها إلى جوارحي دفءٌ مؤثّر. تُحسّ اشتعالي الذي يضرب جسدي، وتعرفه.

شفتاي جافّتان، وأنفاسي متلاحقة. أضعُهما على شفتيها المكتنزتين الدافئتين، فأحسّ نعومتَهما وسخونتَهما المندّاة. نشِقتُ رائحةَ جسدها، العابقِ بالصابون والقرنفل، والمحمَّلِ بأريج بِكر، ويداي تتخلّلان شعرَها المبعثر في كفّي.

خبطت الجارةُ ــــ في السطح المجاور ــــ على صدرها وهي تردِّد: "يالهوي... يالهوي... يالهوي!" فانفلتتْ هند من بين ذراعيَّ مذعورةً.

أسرعنا نغادر المكانَ، وأنا ألملم آخرَ مذاقٍ لشفتيْها.

ما من نجمةٍ في السماء. ما من أغنيةٍ حالمةٍ تنبعث من راديو الجيران الذي خمد صوتُه الآن. وإذ أعود إلى البيت ــــ بعد ساعاتٍ من التسكّع ــــ أُقلّبُ جميع خياراتي. أشعرُ بريبةٍ تخالطها طمأنينةٌ لا تقف على قدمين.

ناداني أبي بصوتٍ كنتُ أخشاه وأتوقّعُه. ينظر إليّ بعينين صلبتين، فلا أجرؤ على النظر تجاههما. أطأطئ رأسي، وصوتُه يهدر يسألني ماذا كنت أفعل مع "البنت هند" فوق السطوح. فأجيب: "كنّا نلعب." ومن دون كلمة، ارتفعت اليدُ الغاضبة، وأحسستُ صدمةَ الصفعة تهزّ جسدي كلَّه بقوّتها المفاجئة.

وقعُ الإهانة وقسوتُها أكبر بكثير من ألم الضربة ولذعها.

مطعونًا بالرعب والدموع، وقلبي يدقّ بعنف، كنتُ أسمعه ــــ من بين صفير أذنيّ وتغبُّش الغضب والخزي ــــ يقول إنّنا كبرنا على "لعب العيال،" وإنّنا عشنا حياتَنا كلَّها في الحارة ولم يسمع لنا أحد حسًّا، ولا أَمسكَ علينا خطأً. وراح يتكلم عن الأصول وحقوق الجيرة، وعن ألسنة الناس التي لا ترحم.

تتلقّفني أمّي في حضنها الغامر الوثير. أحسّ طراوتَه ونعومتَه. تربّتُ على ظهري، وشبحُ ابتسامةٍ على شفتيها وهي تقول: "دا لعب عيال يا راجل، وهل ستأخذ على كلام هذه المرأة؟ دي مرة هوَّالة."

***

في قلب الليل، إذ تسكن الأشياءُ، ترتجف في قيعانه الهمساتُ الغامضةُ الغريبة، وتعبق الغرفةُ برائحة عرق الأجساد النائمة في الضوء الوسنان. أرقدُ، مقهورًا خزيانًا، وطيفُ هند يشاركني فراشي الضيّق. أسمع، كما في رؤًى منسحبةٍ إلى أبعد الأغوار، الصوتَ الخشنَ، زاحفًا، هامسًا، ملحًّا. تتسلّل يدُه إلى جسدها. تزحف أصابعُه على طراوة اللحم. وحفيفُ الأغطية والملاءات تتحرّك. وجاء الصوتُ الخافت، ناعمًا، رخوًا، فيه تمنّعٌ:

"لِمِّ نفسك يا راجل."

وعاد الصوتُ الخشن مخبوءًا تحت طيّات تكتّمٍ خائفٍ متأثّم، مطموسًا، في لهفته لا يُقاوَم، لا يني يرجف بالاقتحام والرغبة.

تجمّدتُ في رقدتي وصمتُّ. صمتَ الكونُ كلُّه من حولي مترقّبًا. وتحوّل كياني كلُّه إلى آذانٍ كبيرةٍ منصتة، تلتقط الآن بوضوحٍ الشهقاتِ المرتجفةَ المتلاحقة:

فحيحٌ يمتزج بتأوّه، وارتطامُ اللحم باللحم يأتي طريًّا متدافعًا، والصهيلُ اللاهث المبحوح لا تهيّبٌ فيه ولا تحرّج، والأنفاس متسارعة محمومة. أميّز صوتَه الخشن من بين ثنائيّة الصوت المشتبكة في لحظات انفلاتها من الإيقاع، ثمّ الأنينَ الأجشَّ المكتوم المنتشي.

يلتقطان حبلَ أنفاسهما اللاهث. ينتهي إلى تنهيدة منهكةٍ ساخنة، وصمتٍ مفاجئ عميق. ثمّ غمرني ارتخاءٌ لذيذ.

شبرا الخيمة

صفوت فوزي جندي

كاتب وناقد مصريّ. حاز دبلوم دراسات عليا في النقد الفنّي من أكاديميّة الفنون. يعمل محاسبًا في وزارة الزراعة. نشر في عدد من الدوريّات المصريّة. صدرتْ له: الخوف القديم (مجموعة قصصيّة، 2015).