رسمٌ على جدارٍ عازل
28-06-2020

تجد نفسَكَ متورِّطًا في علاقةٍ أبديّةٍ مع وطنٍ جريح. والسؤالُ يُلحّ عليك: أيكون الحبُّ بلا ألم؟ أثمّة طريقةٌ كي نحبَّ من دون سخطٍ على الحبيب؟
قد تتغيّر ملامحُ العلاقة مع الحبيب، فتنتقلُ من ألم الحبّ إلى غضبٍ يحرِّض على الابتعاد عن هذا الحبيب.

أمّا في حالة الوطن، فسرعان ما تدنو منه ولو بعينيْكَ؛ فالبعدُ يَشقُّ عليك. وفي غمرة التداني، في لحظة حبٍّ عامرة، تَغفر. وهكذا دواليْك.
أجل، هذه هي حالُ مَن يَرحل: مسيرةٌ تُعلِّق فيها نظرَكَ نحو القادم، لا تلتفتُ حتى يتلاشى ما تركتَ خلفَكَ في الأفق، علَّ الحيادَ يعتري قلبَكَ، ويَبْهت الحنينُ الغائرُ في مقلتيْك.
تغسل وجهَك كلَّ صباح، وتتفحّصه مبتلًّا. قطراتٌ تتناثر، وأخرى تتشكّل. تكبُرُ، تثقلُ، تنسكبُ عن وجهِكَ الآن.

لا شيء. لا شيء يغادرُكَ منه. لن يغادرَكَ ولو حاولتَ. تجدُه أينما ولّيْتَ قلبَك. بل هو ينبعث منه أخضرَ ريّانًا، وأحيانًا يوقِد عذابًا تعجز عن إخماده.
يُقلقك الفراقُ، وإنْ حللتَ في دارٍ جديدة، كما أقلقكَ أثناء سيرِكَ نحو الاستغناء. وفي دارِكَ الجديدة، تعود فتمعنُ في ذلك الجنون، بل تطلبُه حين يحرِّضُكَ كلُّ ما حولكَ على الاستغناء، ويحاولُ أن يقْنِعَكَ بأنّ التخلّص أبسطُ الخيارات وأسهلُها.
تتجلّد. غمدُكَ لم يزل فارغًا.

تقاتل ولا تستريح.

لأجلِ ماذا؟

من أجل وطنٍ ترنو إليه، في نشرٍة إخباريّةٍ تجتزُّ أعصابَكَ وتُنْبتُ خدرًا جديدًا في ساعديْك؟
أنا مثلك، أعيش بين هنا وهناك، ولم يرضخْ فؤادي إلى أبسط الحلول.
وكيف يرضخ فؤادٌ بلغ منتصفَ العمر؟

كيف تُنقل التجاربُ، وتُرَحَّل المشاعرُ والأفكارُ، بين عالميْن يفصلهما جدارٌ عازلٌ، أصطدمُ به كلمّا أمعنتُ في ممارسة الحياة، كالحياة التي خلفَ الجدار؟
كيف تشقُّ العودةَ إلى خلف الجدار؟
لا بأس، سأرسم أمنياتِ الوصْل، وإنْ بدوتُ مجنونةً للعابرين.

كيف للبعيد أن يعرفَ أنّ الرسم على جدارٍعازلٍ مساحةٌ يلتقي فيها الحلمُ بالحقيقة، ويتحايل فيها الأمل ُعلى العجز والشقاء؟
سيأتي صغيري وتلتقي أعينُنا. سيلتقط أحدَ أقلامي ويباشر الرسمَ معي. هو يرسم ما يرى منّي ويعرف، لا ما أعرفُه أنا. يختلج صدري وأنا أراقبُه. تعرج بي مشاعرُ نحو أملٍ لا يُطال، لكنّي أحاولُ ألّا أُغشيَ ضياءه بشقائي.
أراقبُ أفكارَه ترتسم بعيدًا عن منهلي، وعن الطريق الذي رسمت.
لا بأس؛ فليرسمْ كلٌّ منَّا طريقًا.
سأضع أقلامًا أُحبُّها من دون أن يراها؛ فقد يستخدمُها. وسأضع بضعَ خيوطٍ خلسةً وسط انشغال العالم بغزْل وشاحِ أفكاره. قد أصل إلى شيء وإنْ لم يكن كل َّشيء. لن أُقلِقَ طفولتَه بتفاصيلَ لم أعرفْها إلّا حين كبرتُ.
لكنّه يسألني... ولا يتوانى.
يسألني كثيرًا: لِمَ العالمُ هكذا؟ أين أنا من هذه الخارطة؟ ضعي لي دبّوسًا أغرسُه على اللوحة في أيّ مكان، في أيّ موقعٍ حتى أقولَ: "هذا أنا!"
يلتفت إليّ وفي عينيه أرى: "مَن أنا؟"
أبتسمُ بأسًى، وأقرِّرُ رسمَ الطريق البعيد بزخمٍ، بألوانٍ وحبٍّ وحنين، وكأنّ الألم لم يعترني قبلها. 
لا بأس؛علَّ هذا الزخمَ يشفيه من التشظّي. قد يُسْعِفُه في يومٍ يحتاج فيه إلى شيء يُشْبِه الهويّةَ والكينونة؛ إلى يومٍ يحتفي فيه كلُّ طفلٍ في مدرسته بكينونةٍ كالشمس، فأكونُ قد وجدتُ له الدبّوسَ بين رفاتِ ما تَرَكْنا.
ما هي الكينونة؟
كيف عجزتُ أن أكونَ له كالأجداد؟
أيّها المنطقُ اللعين؟

لا، سأظلُّ أرسمُ الطريقَ وأَحْرُسُه.

فأنا لن أكونَ أوّلَ خيطٍ في هذا التلاشي.

اليمن

منال الشريفي

كاتبة يمنيّة، مهتمّة بالقضايا التنمويّة واللغويّات وصعوبات التعلّم. تدرس في مجال التعليم الشامل. صدر لها رواية نور زين (2017).