فوكوياما في فنزويلّا
18-02-2019

 

"النسويّات الليبراليّات الحمقاوات المنحرفات خلقهنّ العجوزُ القذرُ سوروس؛ أمّا النساء فقد خلقهنّ الله" (ألكسندر دوجين، عبر صفحته على موقع فيسبوك، 23 شباط- فبراير الجاري).

"في هذه المرحلة، بعضُ الأمور المعيّنة التي قالها كارل ماركس يتّضح أنّها حقيقيّة. لقد تحدّث عن أزمة الإنتاج الزائد... وأنّ العمّال سيتعرّضون للفقر، ولن يكون هناك طلبٌ كافٍ.ومع هذا، فإنّ الخصم المنهجيّ المنطقي الوحيد للديمقراطيّة الليبراليّة لم يكن الاشتراكيّةَ، وإنّما نموذج رأسماليّة الدولة في الصين" (فرانسيس فوكوياما، في حوارٍ أجري معه نهاية العام الماضي).

***

لنؤجّل الحديثَ عمّا يحدث في فنزويلّا إلى موضعٍ لاحق، كي أشرحَ سببَ استدعاء فوكوياما الآن، ولأوضحَ معنى الحديث عن "اليسار الجديد" وأزمته في هذا الموضع. من الاقتباسيْن أعلاه يبدو أنّ هناك اتفاقًا بين مفكّرٍ استراتيجيّ يمينيّ روسيّ مثل ألكسندر دوجين[1] (العقل المدبِّر للسياسة الروسيّة في عهد بوتين)، ومفكّرٍ ليبراليّ أمريكيّ مثل فرانسيس فوكوياما، على إدانة الظواهر المرتبطة بما يسمّى "اليسار الجديد" وما يُدعى أحيانًا باليسار الليبراليّ، الذي يحمل في رأييهما، ورأيِ ما يمثِّلانه، وزرَ شرورِ العالم كلّه. "اليسار الجديد" في خطابيهما مفهومٌ يعبِّر عن مجموعةٍ من الظواهر المتشعّبة، المُترتّبة على أنشطةٍ سياسيّةٍ يقودها نشطاءُ يساريون وليبراليون، وترتبط أساسًا بالدفاع عن حقوق الإنسان، والحقوق الشخصيّة والجنسيّة خصوصًا، وحقوق المهاجرين، وغيرها. وهو ما يمثّل عند فوكوياما "تحوّلَ اليسار نحو اعتناق سياسات الهويّة،" المُضرّةِ بالديمقراطيّة في رأيه، و"السببَ الرئيسَ لصعود اليمين الشعبويّ في العالم."

ما أزعمُه هنا هو أنّنا نتعرّض جميعًا إلى نوعيْن يوميّيْن من الاحتيال والتستّر، يؤدّيان إلى إبعاد الأنظار عن أزمةٍ عالميّةٍ كُبرى لم تنجمْ عن ظهور النزوع الهويّاتيّ لدى مجموعة واسعة من النشطاء اليساريين في العالم، بل هي التي أنتجتْه.

 

فوكوياما: التركيزَ على الهويّة يُضرّ بثمرةِ الديمقراطيّة، المتمثّلة في الانفتاح على كافّة الأفكار والنقاش العقلانيّ

 

"الجدل الهيجلي" لأهون سبب

يرى فوكوياما، في مقالٍ مطوّلٍ كتبه منذ بضعة شهور بعنوان "ضدّ سياسات الهويّة: كيف ساهم اليسارُ الجديد في صعود اليمين،" أنّ العولمة ساهمتْ في صعود اليمين العالميّ، لكنّ السبب الرئيس لصعود اليمين الشعبويّ في رأيه، هو أنّ اليسار غيّر أفكارَه: من حشدِ طبقاتٍ اجتماعيّةٍ واسعة بهدف الدفاع عن العمّال، إلى تبنّي سياسات الهويّة.

على الهامش، يشير فوكوياما إلى أنّ التركيزَ على الهويّة يُضرّ بثمرةِ الديمقراطيّة، المتمثّلة في الانفتاح على كافّة الأفكار والنقاش العقلانيّ. إنّ هذا التغيير، في رأيه، أعطى اليمينَ دفعةً فكريّةً ومعنويّةً للدفاع عن معتقداته. لذا يَنصح الرجل باستعادة "الهويّة الأمريكيّة" لمواجهة اليمين المتطرّف، ولمواجهة اليسار الهوياتيّ، على حدٍّ سواء. ويذكّر، في هذا الصدد، بأنّ بسّام طيبي، وهو أكاديميّ ألمانيّ من أصل سوريّ، دعا منذ عشرين عامًا، إلى أن تكون "الثقافةُ الرائدة" (بالألمانيّة Leitkultur) أساسًا لهويّة وطنيّة ألمانيّة جديدة. ويعرّف مفهومَ ليتكولتور بأنّه "إيمانٌ بالمساواة والقيم الديمقراطيّة، التي ترتكز بقوةٍ على المُثل الليبراليّة لعصر التنوير." ثم يعلّق فوكوياما ممتعضًا بأنّ اليسار الألمانيّ رفض دعوةَ طيبي بحجّة أنّها تُعطي القوميين والإسلاميين مساحةً يجب ألّا يأخذوها. وبذلك، يقدّم اليسارُ، في رأي فوكوياما، حُجّةً لصعود اليمين الألمانيّ الذي لا يعبأ كثيرًا بقيم التنوير.

الذنْب، إذن، في رأي فوكوياما، يقع بكامله على "أفكار اليسار الجديد" الذي تخلّى عن الإرث الماركسيّ، وهو إرثٌ قد يُقدِّم "بعضَ الفائدة والصحّة" (في نظره) إذا ما أدرك أنّ الأزمةَ ليست في العداء الرأسماليّ للاشتراكيّة، ولا في أزمة النيوليبراليّة المعاصرة، وإنّما في نموذج رأسماليّة الدولة الذي تمثّله الصينُ وروسيا.

قبل أن أناقش هذا الكلامَ أريد أن أقول إنّ لديّ اعتراضيْن مبدئييْن على طرح فوكوياما. الأوّل هو أنّه ينطلق من فكرةٍ توحي أنّ اليسار غيّر أفكارَه بلا دافع، وكأنّ البشرَ يحدِّدون مصالحَهم على أساسٍ فكريٍّ مُسبّق (من البدهي أنّ هذا الرأي المثاليّ يخالف أهمّ أفكار ماركس عن المادّيّة)، لا أنّهم يعتنقون فكرةً لأنّها تدعم مصالحَهم. الثاني أنّ هناك علاقةً وثيقةً بين فكرة فوكوياما عن الأزمة العالميّة (التي يرُدُّها إلى رأسماليّة الدولة في الصين وروسيا وحلفائهما)، وبين صعودِ ما يُسمّيه "اليمين الشعبويّ." لكنْ، لنعُد خطواتٍ قليلةً إلى الوراء ونسأل:ما هو الفرق بين الرأسمالية والنيوليبرالية؟

باختصارٍ يكاد أن يكون مُخِلًّا، كانت أزمةُ الرأسمالية متمثّلة في احتكار طبقة غنيّة لأدوات الإنتاج وللقيمة ولفائض القيمة، وفي استغلال هذه الطبقة للعمّال الذين لا يملكون سوى أجور زهيدة مقابل بيع قوة عملهم. ومن ثمّ، كان في إمكانك، بسهولة، أن تُحدّدَ مظاهرَ هذا الاستغلال، وأسبابَه، والمستفيدَ منه، داخل حدود دولة واحدة (دولة فيها مُستغِلّ ومُستغَلّ، نقيضان - الأمر بهذا الوضوح). أمّا مُشكلة عالم اليوم، التي بلغتْ ذروتَها مع الأزمة الاقتصاديّة العالميّة سنة 2008، فهي أنّ قوى الإنتاج قد تطوّرتْ بشكلٍ يصعب تصوّرُه، وآلت إلى تكديس أرباح بأرقامٍ لم يسبقها مثيلٌ في التاريخ الإنسانيّ كله. أرباحُ النظام الرأسماليّ تلك تتركّز بين مالكيه، وهم تقريبًا واحدٌ في المائة من سكّان كوكب الأرض. لكن الأزمة ليست في تكدّس الأرباح المتراكمة فقط، بل كذلك في أنّ هذه الأرباح جاءت من مضاربات وتجارة في الأموال والأرقام المُسجّلة على شاشات أسواق المال، ولم تنتج من القيمة المضافة التي أنتجتْها الرأسمالية من قبل؛ أيْ إنّها لم تأتِ عبر احتكار أدوات الإنتاج أو "قيم" العمل الرأسماليّ المثابر، بل جاءت من "وول ستريت" ومن بنوكٍ تكتسب أرباحَها من تسليف بنوكٍ أخرى، والبنوكُ الأخرى تربح بالشكل نفسه، وهلمّجرًّا. وباستعارةٍ من دون روبثم،[2] فقد صنعت الفئةُ الأغنى من البشر المعاصرين "بنوكًا أكبرَ من أن تُفلِس"؛ حتى إنّها عندما واجهتْ أزمةَ العام 2008، ونظرًا إلى اعتماد الاقتصاد الدوليّ عليها، كان على الفقراء المدينين أن يتحمّلوا أزمتَها كاملةً من جيوبهم لإنقاذ الاقتصاد.

ما علاقة ذلك بصعود اليمين؟ يذهب روبثم إلى أنّ تلك الفئة المحتكرة للثروة، عندما تواجه أزمةً مثلَ أزمة العام 2008، تتحرّك بأموالها ومكاسبها، وذلك نظرًا إلى عدم ارتباطها بأصولٍ إنتاجيّة. فتتوسّع طبقةُ المستفيدين منها إلى أماكن أخرى، قد يكون بينها الصين وروسيا والهند والخليج. ونتيجةً لذلك، والملاحظة لروبثم، لا يمكن حصرُ مكاسب العولمة في إطارٍ قوميّ، إذ هي تتوسّع وتفيد فئاتٍ أخرى غير الإنسان "الأبيض" الذي يعيش في المعاقل الأصليّة لنشأة الرأسماليّة الحديثة (أوروبا وأمريكا). هذا التوسّع العولميّ يعني أن مكاسب النيوليبراليّة قد تفرّقتْ، وبدأتْ تُفيد أناسًا آخرين غيرَ الغربيين. لذلك تجد أنّ الحركاتِ المؤيِّدة لترامب، ولليمين المتطرّف القوميّ عمومًا، تجمع في خطابها بين العداء للعولمة (ولِما تُمثّله من نهايةٍ لاحتكار الأمريكيين والأوروبيين للمكاسب)، وبين العداء للنيوليبراليّة - وهو أمرٌ لم يكن يُتوقّع أبدًا أن يُقال داخل حركة يمينيّة غربيّة كانت تنادي بحريّة السوق في الماضي القريب. ولا يعني ذلك أنّ هذه الحركات تُعادي النيوليبراليّة، أو أنّ دونالد ترامب وأمثاله يعادونها بالأحرى، وإنّما هي تُعادي توزّعَ مكاسب النيوليبراليّة على غيرهم.

هذا هو بالضبط ما يقصده ترامب من حربه التجاريّة التي شنّها على الصين، ومن عدائه بالطبع لدولةٍ مثل إيران أو لرئاسة مادورو في فنزويلّا. فهو يرى أنّ الصين، مثلًا، خطر على الاقتصاد الأمريكيّ وعلى العمّال الأمريكيين، وهو يرى أنّ اليساريين يدعمون الملوَّنين والمُهاجرين الذين "يسرقون" بدورهم من "الأبيض" فرصَ العمل. لكنّ ترامب لن يكمل حربه ضدّ الصين إلى النهاية بالطبع، لأنه يعلم أنّ أزمةَ النيوليبراليّة التي وفّرت الذريعة السياسيّة القوميّة ضدّ الصين وضدّ المُهاجرين هي شرطُ "مصالحه" الرئيس كرجل أعمال كوّن ثروته في ظروف مشابهة، ولأسباب مماثلة، وعلى هامش الأزمة نفسها في النهاية.

يمكن هنا أن نلاحظ التشابه الكبير بين ما يقوله فوكوياما، وبين ما يقوله ترامب وأمثاله: الصين هي السبب الرئيس في أزمتكم، والمهاجرون مثال على ذلك. لذا، قفوا معنا قبل هروب الرأسماليّة من معاقلها.

***

 

إنّ الأمل في أيّ عمل احتجاجيّ، وما قد يوفّره من فُرص لتحسين الأوضاع، هو بالضبط ما تَحرمك إيّاه المعارضةُ الفنزويليّة 

 

على جانب آخر، يحذّرنا الماركسيّون اللينينيّون والستالينيّون والماويّون باستمرارٍ من الانسياق خلف "اليسار الديمقراطيّ" الذي يحدِّد أولويّاتِه في الحريّات الشخصيّة والحقوق الجنسيّة ومشاكلِ الأقليّات والمهاجرين، والذي يُعدّ في نظرهم تيّارًا "مُحرِّفًا" للماركسيّة لأنّه لا يلتزم بما فيه الكفاية بالعداء للرأسماليّة الإمبرياليّة العالميّة. لذلك يروْن أنّ علينا أن نتحمّل ضريبة الوقوف في خندق واحد مع فلاديمير بوتين أو مع الصين لأنّهما يمثّلان "مركزًا لمقاومة الهيمنة الأمريكيّة،" وإنْ أدّى الأمرُ إلى حرق شعبٍ يقف في طريقهما، أو إلى سجن مليون إنسان من الصينيين الإيغور، أو الوصول إلى أعلى معدّل من حالات الإعدام الجنائيّ والسياسيّ في العالم الحديث. هذه جميعها، عندهم، ضرائب مُحتملة، لأنّ النتيجة المباشرة لأيّ مطلب ديمقراطيّ هي تفكّكُ نمط السيادة الذي تدعمه الصين وروسيا في معركتهما على الهيمنة مع الولايات المتّحدة. كما أنّ كلّ حقّ ديمقراطيّ يكفل للشعوب تقرير مصيرها يعني، بالنسبة إليهم، فسحَ المجال للرأسماليّة الأمريكيّة.

لهذا السبب نفسه يُعادي الكسندر دوجين، في الاقتباس المذكور آنفًا، أيَّ صورة من صور البحث عن ديمقراطيّة لا تصبّ في صالح روسيا.

 

الصراع على العالم في جُحر: فنزويلّا واليسار الجديد وطبقة الترانزيت

تقود الاحتجاجاتِ في فنزويلا معارضةٌ مدعومةٌ أمريكيًّا (باعترافها). وهي لا تقدّم بديلًا للفقراء، ولا تعلّق أملًا سوى على الدعم الأمريكيّ.

وفي المقابل، فإنّ مادورو رئيس شعبويّ، يساريُّ النزعة. وانتكاستُه تمثّل ذروةَ الانتكاسة التي يعانيها اليسارُ في أمريكا اللاتينيّة. لكنّه في الوقت نفسه، رئيسٌ منتخب لمرّتين، ولم يصعد إلى الحكم عبر انقلاب عسكريّ، ولم يرث الحكمَ عن تشافيز بشكل مباشر (تشافيز، بدوره، صاحبُ شعبيّة جارفة وانتُخب رئيسًا لأربع مرّات متتالية). لكنّ سياسات مادورو حوّلتْ بلادَه من صاحبة أكبر احتياطيّ نفطيّ في العالم إلى دولةٍ تتضاعف فيها أسعارُ السلع الأساسيّة كلّ ثلاثة أسابيع، ويتجاوز معدّلُ التضخّم فيها مليونًا في المائة![3]

يمكنك بالطبع، إنْ كنت تعيش في فنزويلّا، أن تتبنّى موقفًا نقديًّا، بل ثوريًّا، من سياسات مادورو. لكنّ الأمل الثوريّ في مثل تلك البلاد سريعًا ما سيتحوّل إلى فنتازيا، وبضربة واحدة. إنّ الأمل الطبيعيّ المتمثّل في انفتاح خياراتِ أيّ عمل احتجاجيّ، وما قد يوفّره من فُرص لتحسين الأوضاع؛ هذا الأمل هو بالضبط ما تَحرمك إيّاه المعارضةُ الفنزويليّة المدعومة أمريكيًّا. وقبل أن تفكّر في أيّ بديل ستقول المعارضة لك: ترامب على الأبواب فتهلّل فرحًا.

حالةُ "قطع الطريق" التي تمارسها تلك الطبقة تتكرّر في العديد من دول العالم، شماله وجنوبه، فقيره وغنيّه. فقد حدثتْ في البرازيل بصورة أكثر وقاحة، وتحدث في مصر منذ عدّة سنوات. لكن أشدّ صورها إثارة للدهشة والذهول والحيرة هي صورة ذلك الجزء (غير الجذريّ) من المعارضة الأمريكيّة الذي لا يجد ما يقوله في وجه سياسات ترامب سوى تقديم هيلاري كلينتون بديلًا "عقلانيًّا" وحيدًا لهذا الجنون المُهين "للمهابة الديمقراطيّة الأمريكيّة" (أرجو ان تُذكّركم هذه العبارةُ بما تقدّم عن فوكوياما). وهي نفسها الفئة التي تمثّل الرافدَ الاجتماعيّ الأساسيّ الذي يُنتج ما يُسمّيه فوكوياما "اليسارَ الجديد،" وإنْ كانت في الواقع لا تحمل أيَّ فكرة يساريّة سوى الاختلاط ببعض النشطاء اليساريّين وبما يقدّمونه من دعم نظريّ وفكريّ.

ما أقوله هو أنّ هذه الطبقات هي "نتيجةٌ" من نتائج أزمة النيوليبراليّة العولميّة والمعمّمَة، المتجاوزةِ للقوميّات، وليست سببًا في نشأة الأزمة كما يدّعي فوكوياما. ولا يمكن أيضًا أن تكون حُجّةً لدوجين. لقد أفادنا تحليلُ روبثم، السابقُ الذكر، في فهم طبيعة الفئة المُحتكِرة للثروة العالميّة، وسبقت الإشارةُ إلى أنّ طبيعتها هذه قد أدّت إلى تغيّر مهم في طبيعة "المُستفيدين" منها ــ وهم في أغلبهم من المُدراء، والمضاربين، وحاملي الأسهم، والتنفيذيين، وكبار موظفي الشركات، وخبراء التكنولوجيا والإعلاميين، والكُتاب والناشرين والأكاديميين.

هؤلاء تحدّث عنهم المؤرِّخُ الأمريكي الراحل كريستوفر لاش، في كتابه الصادر في منتصف التسعينيات بعنوان: ثورة النخبة وخيانة الديمقراطيّة، وسمّاهم "طبقةَ الترانزيت." وهم، بحسب قوله، لا يتمّ تعريفُهم بالإيديولوجيا، بل بطريقة حياتهم التي تصبح يوميًّا أكثرَ اختلافًا عن الآخرين: أفرادُها لا يعتمدون على ما يملكونه من عقارات، بل على احتكار المعلومات والخبرات التقنيّة، وهم يستثمرون في تعليم أنفسهم وأطفالهم وفي الحصول على المعلومات، وليس في الملكيّات كما كان يفعل أجدادُهم من قبل. ويرى لاش أنّ أهم مزايا هؤلاء "قدرتهم الهائلة على الحركة." فهم، كأصحاب الثروات الذين يعلونهم، ليسوا مرتبطين بمكانٍ تتركّز فيه أدواتُ إنتاج، ويمْكنهم بلا عناء أن يعيشوا في السواحل أو الريف الأوروبيّ. بالطبع لهذه الطبقة نطاق موضوعيّ كبير (لذلك يُسمّون أحيانًا "الطبقة الوسطى الجديدة")، وهم مختلفون فيما بينهم من حيث التوجّهات السياسيّة والأخلاقيّة والقيميّة. إلّا أنّ ما يجمعهم، ويؤسّس لمصالحهم، هو ظروف نشأتهم الموضوعيّة التي مكّنتهم من الحصول على هذه الإمكانات. ومن بينهم يساريّون، تتمثّل أزمتُهم في أنّهم يسعوْن إلى التنظير للعمل السياسيّ داخل نطاق لا يتضارب مع مصالحهم الموضوعيّة والطبقيّة.

هذا هو الموقع الذي يحتلّه "اليسار الجديد." ومن ثمّ، لا يُمكن أن تُعزى المُشكلات التي تتسبّب فيها هذه الطبقة، بما تمثّل من طيف اجتماعيّ موضوعيّ تسبّبت في وجوده أزمة عالمية كُبرى، إلى أزمة في اليسار.

إنّ أزمةً في اليسار ليست سببًا في أزمة العالم، كما يدّعي فوكوياما. ولا يمكن حلُّها، بالتالي، على طريقة دوجين. إنّها جزء من أزمة عالميّة أكبر كثيرًا، ربّما تتسبّبُ في حربٍ هنا وفي سلْمٍ هناك، في ثورةٍ هنا، وفي صعودٍ لليمين في مكان آخر. إلّا أنّ المهمّ هو ألّا نحجبَها ونعفيَها من النقد بحجة بعض آثارها. ستظهر في فنزويلّا، وربما تظهر بشكل آخر في احتجاجات السُترات الصُفر في فرنسا بشكل آخر، وفي أزمة "الربيع العربيّ، " كما أنها ستظهر بوضوح أكبر في الصراع العالميّ على الهيمنة بين الصين والولايات المتّحدة.

 


[1] يُعرّف دوجين نفسَه بأنّه ستالينيّ وفاشيّ. وهو مفكّر استراتيجيّ عسكريّ في الأصل، يُتقن ثماني لغات، ومهتمّ بالفلسفة، وله أعمالٌ يقدّم فيها فوائدَه من فلسفة هيْدجر ونيتشه وفوكو. كما أنّ له اهتمامًا خاصًّا بالعالم الإسلاميّ، إذ يرى فيه دعمًا للمشروع البوتينيّ للقضاء على الهيمنة الأمريكيّة، ويرى في إيران وتركيا مدخلًا للنفاذ الروسيّ إلى الشرق الأوسط. وقد كوّن دوجين موقفَه الفكريّ من الإسلام عبر مفكّر إيطاليّ فاشيّ آخر هو يوليوس ايفولا. وايفولا له ارتباط خاصّ بالإسلام: فقد كان مفكّرًا ميتافيزقيًّا وصوفيًّا، آمن بالصراع بين "روح الشرق ومادّيّة الغرب،" واستقى أفكارَه من أستاذه الفكريّ، رينيه جينون، المتخصِّص في تاريخ الأديان والميتافيزيقا. وأردتُ من عرض هذه السلسلة الفكريّة السريعة أن أُشير إلى عّدة موضوعات لا يتّسع المقام هنا للتفصيل فيها، لكنها مفيدة للتفكّر في الدور الروسيّ في الشرق الأوسط، وفيما يمكن أن يصل إليه مفكّرٌ ستالينيّ معاصر!

[2] العبارة لدون روبثم، وهو أكاديميّ ماركسيّ موسوعيّ متخصّص في الأنثربولوجيا، وقد نقل يوسف رامز المحاضرة بالعاميّة المصريّة على موقع قراءات:

 https://qira2at.com/tag/%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%AB%D9%8...

مصطفى عبد الظاهر

محرّر مجلة مرايا، وباحث في العلوم الاجتماعيّة وتاريخ الشرق الأوسط .